من بوعزيزي تونس إلى علياء مصر
محمود المنيراوي محمود المنيراوي

من بوعزيزي تونس إلى علياء مصر

البارحة بينما كُنت أتابع مشروع كورال على صفحةِ الفيس بوك، بعد أن صار لهم صفحة خاصة بهم ينشرون من خلالها أعمالهم، ويستقطبون من خلالها الأصدقاء كتبتُ تعليقاً على أغنية «إيه العبارة - مشروع كورال» أقول: «رائعون بلطجية العصر الجديد، إنهم يمارسون بلطجتهم على كُل ما هو ثابت حتى الموسيقا، يصنعون عصراً خاصاً بهم، دونَ أي تردد أو خجل، فقطلأنهم يؤمنون بأنه من الشرعي أن يكون لقدَمِهِم أثر في التاريخ.. إنه عصرنا»، وكُنتُ أقصد العبارة حرفاً حرفاً، لأن هُناكَ تمرداً عربياً شبابياً يشبه الإعصار؛ هناك صراعٌ دائرٌ الآن بينَ القديم والجديد بطريقةٍ ربما تكون الأخطر على مرّ التاريخ العربي، وهذا هو السبب الذي قطعَ سهرتي الجميلة الآن، لأختلي وأكتب هذه الكلمات، وهو السبب نفسه أيضاً الذي دفعَ بعضالشباب -هواة المونتاج- أن يحولوا كلمات القذافي في خطابهِ الشهير بعد الثورة وهو يهدد أبناء شعبه لأغنية نتناقلها فيما بيننا، كنوعٍ من الاستهزاء والسخرية، ولكي يُظهر الشباب للعالم أجمع أنهم ليسوا في «زنقةٍ» من أمرهم.

 

لم أكتبُ هذه العبارة على صفحتي الخاصة اعتباطاً، ولا تحدياً لرياحٍ لم تأتِ ولا تأتي ولن تأتي، بل كتبتها لأنني أؤمن بأن الرياح قد أتت فعلاً وكانت عاصفة لا تُبقي ولا تَذر، لكننا ها نحنُ ما زلنا نقفُ في وجهها ولن نتحرك إلّا للأمام، لأنها فرصتنا الوحيدة التي نستطيع من خلالها خلع العباءات التي تُثقل سيرنا، لذلك لا تستغربوا أن الأشياء جميعها غير مستقرة أبداً وآيلة لسقوطوانكسار في أي لحظة، وأقصدُ بالأشياء، الأشياء جميعها السياسة والاجتماع والثقافة والدين وحتى الإنسان ذاته.

إننا نحاولُ، لا ننكر أننا نحاول ولكننا نؤمنُ بأنفسنا بتواضعٍ يجعلُ من أسمائنا تتماهى تحتَ مسمياتِ أحلامنا، إننا نذوبُ في أحلامنا وتطلعاتنا فقط، ولا نبحثُ عن شيءٍ سوى الحياة، الحياة بمعناها الحقيقي التي بداخلِ كُل فردٍ منا، ليست الحياة تُلك التي تدفعنا للفساد والجشع، وليست الحياة تلكَ التي تدفعنا للموت، لدينا مفهوم جديد عن الحياة وصراحة ليسَ له أي تُعريفٍ واضحوهذا بالضبط ما نسعى خلفه، مع أننا نُسحر بالشاعر الفلسطيني محمود درويش حين قال «ونحن نحبُ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا» وكأننا نقولُ في دواخلنا أن هذا هو التعريف على الرغم من أنه تعريفٌ أدبي لماهية الحياة، إلا أننا نستعر أنه تعريفٌ جامع وشامل، لذلكَ أنا مندهشٌ جداً بمحمد بوعزيزي كبريت الثورات العربية، وللدهشة وجهان؛ فلولاه لما شهدنا جميعاًالتاريخ العربي المعاصر الذي لم يُكتب إلا منذُ أشهر بسيطة، لما حدثَ هذا الزلزال الذي هزَّ عروش ظُلامنا، وحزينٌ جداً ليسَ لأنه لم ير معنا كُل ما نراه الآن، بل لأنه من فطرِ ضيقهِ من ضيقِ الحياة وسبلها قرر أن يفقدها وتفقده، فالتونسي محمد بوعزيزي لم يكن عليهِ أن يتصرف كما تَصرف، فالتبشير والتنظير لفكرةٍ تستحق الحياة، ولا تستحق الموت أو الانتحار على وجِهالخصوص، فبوعزيزي شئنا أم أبينا انتحر ولن أناقش هُنا.. انتحر أم لا؟ هل نحسبه شهيداً؟ هل يدفن في مقابر المسلمين؟ فكُل هذا لا يعنيني أبداً، ما يعنيني حقيقة أن الجميع صفق لبوعزيزي لأنه كان شجاعاً حدّ أنه أحرق جسده، مع أن الحقيقة تقول أنه كانَ ضعيفاً ومضطهداً إلى الدرجة التي دفعته للانتحار كي يستريح، الجميع كان يُفكر بأينَ سيدفن بوعزيزي؟ وهل سيدخلالفردوس أم طبقة أخرى في الجنة؟ ولم يُفكر أحدنا بأن الحبيب بوعزيزي أهدر روحه، مما لا يتناسبُ أبداً مع طبيعتنا البشرية ورغبتها في الحياة، هو ذاته خرجَ من طبيعتهِ البشرية ليصيرَ حجراً فتحطم بالكلية، ونحنُ حينَ صفقنا له خرجنا من طبيعتنا البشرية لنصيرَ حجارة تحطمت جزئياً، وبالقياس المنطقي العقلاني للفعل نستطيع أن نحسبهُ «مجنوناً»، لأن الحقيقة تقولُ ذلك،وهذا ما أبغي التوصل إليه أولاً وأخيراً في حادثةِ بوعزيزي.

أما علياء ماجدة المهدي المصرية التي تَجردت من كُل الطوابع والأختام التي طُبعها المجتمع المصري على قلبها وعقلها؛ حتى خرجت لنا من النوافذ الثورية نفسها التي هزت العالم العربي عارية، أدرجت صورتها على التويتر والفيس بوك ومدونتها الخاصة أيضاً لكنها لم تكن تقصد العُري بذاتهِ –الذي قصده معظم زوار صفحتها- بل قصدت مطالبة الجميع بالتحرر من العُقدالجنسية التي تُغلف المجتمعات العربية، حينَ طلبت أن «حاكموا الموديلز العراة الذين عملوا في كلية الفنون الجميلة حتى أوائل السبعينيات وأخفوا كتب الفن وكسروا التماثيل العارية الأثرية، ثم اخلعوا ملابسكم وانظروا إلى أنفسكم في المرآة واحرقوا أجسادكم التي تحتقروها لتتخلصوا من عقدكم الجنسية إلى الأبد، قبل أن توجهوا لي إهاناتكم العنصرية أو تنكروا حريتي فيالتعبير».

علياء المهدي صالت وجالت في يومي؛ اليوم والبارحة أيضاً، ولم تُغادرني دقيقة واحدة، كُنتُ أراها تتجلى أمامي ولكنها كانت ترتدي الجاكيت الكابوي الأزرق الذي كان يلبسه بوعزيزي في صورةٍ شهيرة له أغرقت العالم الافتراضي، مع أن كليهما يعتمدان على مرجعيات مختلفة عن بعضها البعض، بغضّ النظر عن رأي الشارع في كون بوعزيزي قتيل أم شهيد، أو في كونعلياء بطلة أم عاهرة، فأنا هنا لست بصدد الحكم على سطحية الحدث أو الأشخاص، وإنما بصدد فهم الحدث بدوافعه ونتائجه.

علياء كانت ابنة بارة لنفسها ولأفكارها -بغضّ النظر عن ماهية الأفكار- وكان حدثها الذي أثار ضجة وصخباً كبيرين جداً، نابعٌ من الاضطهاد والخنقة التي تشعر أن مجتمعها المصري خاصة والعربي عامة غارق بها من أخمصِ القدمين إلى الشعر، فاستهدت من خلال تفكيرها إلى فكرة الاعتراضِ بالتَعري، اندفعت هي أيضاً إلى ما هو غير طبيعي ومألوف ومقبول إنسانياًودينياً ومجتمعياً -حسبما تدّعي الحضارة العربية الإسلامية المعاصرة- لتكونَ النتيجة أيضاً بأن فكرتها الخارجة عن المألوف أقربُ للجنون، أو هي الجنونُ بحدِّ ذاتهِ، لأن الحقيقة تقول الآن وحسب الطبيعة البشرية أن علياء -خائفة- بسبب كيل التهديدات التي وصلتها، هذا إلى جانب كيل البلاغات التي وصلت النائب العام ضدها، إذاً هي خسرت المجتمع بأكمله إلا بعضالأصدقاء حولها، إذاً أليست هذه مُخاطرة؟ أليسَ الموتُ أخفُ وطأة من الموت المتوقع؟ وأن يُقدم أحدهم على خطوة مماثلة في مجتمعٍ عربي مشوب بالمحددات، فإنه قد لفَّ حبل المشنقة حول رقبته، ليبقى خائفاً دائماً وأبداً ممن قد يشدَّ الحبل في أي وقت، وهذا هو الجنون بحدِّ ذاتهِ كما ذكرتُ سابقاً، وهذا أيضاً ما أودُّ التوصل إليهِ في حادثةِ علياء.

إذاً لا أرى أيُ فرقٍ بينهما في شكلِ الحدثِ وتسميته، كلاهما اندفعا للجنون، اعتراضاً على واقعٍ يعيشانه؟

الآن وبعد كُل هذا التفصيل أستطيع أن أقول إنني أستغرب فعلاً ماهية المجتمع العربي وردود أفعاله، وكيفية التعامل مع الأمور والأخبار والصدمات وحتى الأفراح، وكيفَ أنه يأخذُ الأمور إلى منحنيات غريبة يضللون فيها إنسانيتهم، فقد كان الأولى أن يصبّوا كُل غضبهم هذا المصبوب الآن على علياء مصر وصورتها، على التونسي محمد بوعزيزي، لأنهُ -حسبما أوضحتسابقاً- لم يكن عليهِ أن ينتحر لنحيا، أن يموت لنصحو! أما علياء فهي الأخرى اندفعت لانتحارٍ غير مباشر، انتحار على يدِ غيرها، حينَ أفقدت المجتمع العربي بكامل محدداته صوابه، فاستشرّ غضباً وكشّر عن أنيابه.

ذكرت بوعزيزي هنا وربطته بحادثة علياء لأقول للجميع إن الموت أكثر جرماً من العُريّ، فلا نلومنّ غيرنا إن تصدّعنا وتحطمنا بالكامل وسقطنا يوماً، والنون هنا في الأفعال السابقة كضمير متصل لا يعود على الشباب العربي، بل على مجتمعاتنا العربية بمجملها التي لا تسمحُ للشباب العربي بأن يعلو صوته إلا إن قفزَ عن جدار المحددات جميعها.

أما النقطة الأكثر جوهرية بالنسبة لي، والتي كان بسببها التفصيل الكثير في الأعلى، أنني أحاول جاهداً إيصال رسالة إلى الجميع ذكراً أكان أم أنثى، كبيراً أم صغيراً؛ أن الشباب العربي الآن في ورطة حقيقية ويغرق في حيرةٍ لا مفرّ منها، لأن الجميع وخاصة الأجيال السابقة لنا/لهم باتوا يضعون أصابعهم في آذانهم ويغشون عيونهم، مما يدفع الشباب العربي إلى الاندفاع لـ«الجنون» والخروج عن المألوف والطبيعي والديني والموروث، ليستطيعوا أن يجذبوا الجميع نحوهم، وكأن أفعالهم صرخة «ميل جيبسون» في فيلم «قلب شجاع»، إنهم يعانون ويبدو أنهم بدؤوا يقتنعون أن الجنون وحده من يستطيع أن يجعل أولئكَ الذين لا ينظرون إلينا إلى الالتفات قليلاً، ولكن بعيون مفنجلة وضغطٍ عالٍ، وهذه حادثة خطيرة وحديثة من نوعها في التاريخِالعربي الإسلامي، وهذا ما يمكنكم استنتاجه من خلال الثورات العربية، من كمية الشهداء الذين سقطوا في ثورة ليبيا أو الذين يتساقطون في اليمن والبحرين وسورية ومصر حالياً، إنهم يندفعون للموت دون أي شعورٍ بالخوف، لو استمر هذا الجنون بالاستمرار، سنستعيدُ إنسانيتنا؟ أم سنفقدها؟