«الديك» والـ «خطّابة» و... «الطريق إلى الحسكة»

«الديك» والـ «خطّابة» و... «الطريق إلى الحسكة»

«Highway to Hassakeh» أو «الطريق السريع إلى الحسكة» هو عنوان أحد الألبومات التي أرسلها لي أحد أصدقائي السوريين من ألمانيا، كان ذلك منذ عامين، لم يكن هناك أية كلمة عربية على غلاف ذلك الألبوم وقتها، لكن صورة المغني بدت مألوفة للغاية، الكوفية الحمراء والنظارة الشمسية التي تخفي تلك الملامح القاسية مع شارب كث أسود

كانت أسماء «الأغاني» العربية المكتوبة بأحرف إنجليزية في ذلك الألبوم تزيد من حيرتي وفضولي، قلبت الغلاف لأرى اسم المغني، «عمر سليمان»، عادت إلي عندها وعلى الفور نفحات من أيام الدراسة، من أسفاري عن طريق "الهوب الهوب" إلى حلب ذهاباً وإياباً، لقد كان هذا الفنان من أبطال موسيقا تلك اللحظات، «باصات» غادية رائحة لكن صوته يظل في كل مكان، مع معزوفات فردية على آلة الأورغ ترفع من مستوى الضجيج إلى حد لا يطاق.

قد يعدّ البعض ما قلته إهانة كبيرة بحق هذا الفنان الشعبي، فهذا المغني معروف للغاية في الجزيرة السورية بأغانيه الشبابية الجميلة التي تحمل لمسة من اندماج ساحر من التراث الموسيقي الكردي-العربي، ويتذكره أبناء الجزيرة عندما كان يغني في معظم الأعراس والمناسبات العائلية، يرافقه ضارب الطبل وعازف الزمر ليجمع شباب القرية وصباياها على دبكة «جزراوية» طوال ساعات ليالي الصيف الجميلة.
لكن الأمر تغير الآن، ولم يعد «عمر» بالبساطة التي عهدناها، إنه اليوم الفنان العالمي «عمر سليمان» بطل «التكنو السوري» ورائد «موسيقا البوب السورية» كما تصفه الصحافة الغربية. لم تعد شهرة أغنيته «خطّابة» المعروفة كافية للتعبير عن نجوميته الصاعدة، فيأتي خبر غنائه أمام الجمهور في حفل توزيع جوائز نوبل للسلام الأخيرة في «أوسلو» مذهلاً ومثيراً للكثير من التعليقات في كل مكان، فقد تم التعريف عنه أمام الجمهور الغربي على أنه «الممثل الأشهر للفن السوري الشعبي!!».
ورغم الجدل المتصاعد على مواقع التواصل الاجتماعي حول هذا الخبر بالذات، إلا أن الغالبية العظمى ترى مفارقة منافية للمنطق في اختصار الفن الشعبي السوري الغارق في القدم في ما يقدمه «عمر سليمان»...!! ولا يمكن بأي شكل من الأشكال التعريف بالبلد الذي قدم أول تدوينة موسيقية في التاريخ عن طريق أحد مشاريع «البوب» العربي الهجينة التي  نراها كل يوم تحاول مزج التراث الشعبي بالموسيقى العصرية الغربية، لنحصل في النهاية على زعيق لا ينتمي إلى أي من الاتجاهين على الإطلاق، كما لم يخف الكثير من الناس ريبتهم في توقيت هذا الاختيار، فالعالم اليوم يرى ويسمع ويحلل ويدلي برأيه حول كل ما قد يتعلق بـ«سورية»، وها هي الأخبار السورية تأخذ الحيز الأكبر من اهتمام العالم أجمع، ثم يتم تقديم «عمر سليمان» للجمهور بهذا الشكل معززاً مكرماً مشكوراً على «إنجازاته» الفنية الرائدة في الموسيقا السورية، وكأن سورية لم تنجب موسيقياً غيره..!!هنالك بالفعل ما يثير الريبة في هذا..!


«غنيلي تغنيلك..»


تستمر الدهشة ويتصاعد الجدل، لكن في مكان آخر وبطريقة أخرى، نراه أسبوعياً مساء كل سبت، حيث تتجمع العائلة أمام مشاهد ريفية دافئة على الشاشة، تتخللها لوحات من الدبكة الشعبية المحبوبة، يجلس في منتصفها أحد «أيقونات» التراث الشعبي السوري، إنه «علي الديك» في برنامجه الجديد «غنيلي تغنيلك»، لنرى التململ عند البعض والحماسة عند البعض الآخر، لكن الجميع يكمل الحلقة الأسبوعية حتى النهاية، بعد أن حقق هذا البرنامج بالذات شعبية هائلة في زمن قياسي، وصلت إلى حد شعبية «الحاصودة»، رائعة علي الديك وجوهرة أعماله..!
وكالعادة، يبدي الكثير من المتابعين إعجابهم الشديد بهذا البرنامج، فهو «يعيد إلى الواجهة الجميل من تراثنا الأصيل» كما يقول البعض، لكن البعض الآخر أعلن بصراحة عن امتعاضه الشديد عما يعرض في حلقاته، وصلت إلى حد إنشاء تجمعات إلكترونية، أعلنت وقوفها ضد ما يقدمه «علي الديك» تحت مسمى «الفولكور الشعبي»، كما حملت الكثير من الصفحات الفيسبوكية على «الديك» بالذات، لأنه يساهم في تشويه التراث السوري في منطقة الساحل ويسيء إلى عمقه الفكري عن طريق اختصاره بنماذج سطحية جاهلة نراها تتكرر في كل مكان، وقامت تلك الصفحات بالرد على برنامج «الديك» عن طريق نشر الكثير من المنتجات الثقافية الأدبية والفنية من أشعار وروايات وأفلام ومسرحيات وحتى الأغاني الشعبية للكثير من السوريين المنحدرين من الساحل السوري التي تُغني بالتأكيد عن جلسات «الديك» التراثية، فالأخير يستقبل في "بيته القروي" الكثير من الأصوات المميزة، لكنه يملأ الوقت المخصص له بصياحه وأخباره وتعليقاته التي تصل في كثير من الأحيان إلى حد الإساءة له ولجميع الحاضرين، عن طريق الدخول في أحاديث سطحية وذكريات سخيفة لا قيمة فكرية ولا فنية لها تحط من مستوى البرنامج ككل وتنفر الكثيرين من التراث و«سيرة التراث»من أصله، كما علق البعض، وبالأخص عندما يباغت أسماعنا بموال انفجاري يجعل متابعيه يسرعون باحثين بعصبية عن جهاز التحكم لخفض مستوى الصوت قليلاً حفاظاً على سلامة آذانهم..!


ماذا نريد.. ؟؟


مشكلتنا ليست مع التراث، فهو الغني الواسع الحاضن لخلاصة آلاف من السنين، مشكلتنا في جزء منها، مع الوجوه، مع من نأتمنه على تراثنا، مع من نرفعه عن غير قصد ممثلاً لنا ولأفكارنا على مبدأ التمتع بتسلية فنية بريئة وبعد أن يشوه ويعلك منها ما استطاع ليحقق نجومية مؤقتة أو ليحصد الكثير من التصفيق على مسارح غربية كانت يوماً مسحورة بعبق الشرق وسحر تراثه، هي اليوم تستمتع بالهزيل المشوه منه فقط..!! في مفارقة عجيبة.
كما العودة إلى التراث لا تعني على الإطلاق التمسك بالجامد منه والاكتفاء بالأساليب البالية في نشره وتقديمه بحجة حمايته من التلوث الفني المعاصر، بل تعني رفد الحركة الفنية الشبابية بزاد من الأصالة يطرد منها الزعيق الهجين ويستبدله بالألحان الحنونة تلون مفرداته وتقربه من قلوب السامعين.
لم يعد كافياً اليوم للاكتفاء بتقديم الأغاني الطربية الثقيلة على مسرح عتيق تكريماً لهذا أو ذاك من عمالقة الغناء العربي، فالتكريم الحقيقي يتجسد أحياناً بالعديد من المحاولات الشبابية التي أدخلت الآلات الشرقية في أداء معزوفات عالمية أذهلت الحاضرين، يتجسد التكريم الحقيقي للتراث في إطلاقه أمام الناس في قالب محبب متجدد دائماً يبعد المزيفين من «حماة التراث» عن الواجهة ويقدم للعالم أجمع الصورة الحقيقية للفلكلور الفني السوري المميز، بعيداً عن نماذج طفيلية تغذت على شجرة الفن السوري الشرقي الأصيل.