مشوار

مشوار

لدى صعودي باص النقل الداخلي، فوجئت بأنه قليل الازدحام خلافاً للعادة. مسحت بعينيّ المقاعد بسرعة، فوقع نظري على مقعدٍ شاغرٍ في آخر الباص، توجّهت إليه فوراً وجلست. ..

وقد صادف جلوسي إلى جانب امرأة بالعقد السابع من عمرها.
فجأةً ينهض السائق من مكانه ويتجه صوبي وقد اشتعلت عيناه بالشرر واكتسى وجهه بكل مظاهر الغضب! أُصبتُ بنوعٍ من الذعر، فقد قطعت تذكرة حسب الأصول. فما هو السبب في هجومه المحيّر هذا؟! لكن سرعان ما تبدّدت هواجسي عندما خاطب المرأة التي بجانبي وهو في منتهى العبوس:
حجة انت وين نازلة؟
أجابت بحزن وارتباك وكأنها تدفع تهمةً عنها:
بالموقف اللي جايي ولاه ابني..!
سألها بلهجة معاتبة وبنبرة من طفح الكيل لديه:
بس يا حجة صرلك أكتر من تلات مشاوير وما نزلتي.. شو فاتحلك الباص أنا هون سيران!؟
أجابته بأسى بعد أن استعادت جأشها:
خلاص ولك ابني رح انزل بالموقف اللي جايي.. يالله مشّيها..
برم بوزه ممتعضاً واستدار عائداً إلى مقوده وانطلق وسط همسات وضحكات مكبوتة من الركاب القريبين منها والمندهشين من هذه المحادثة.
ويبدو أنها شعرت بأن دفاعها لم يلقَ قبولاً عند الجوار فاستطردت موضّحةً:
- العمى والله ما حدا بعلّق من كل الشوفيرية على مشاويري إلا هاد الشوفير..!
وكعادتي في اقتناص فرصٍ كهذه سألتها ممازحاً ملطفاً الأجواء:
حجة لا تآخذيني بهالسؤال هي أول مرة بحياتي بسمع أنو الطلعة بالباص تعتبر مشوار!
تفادت مكر السؤال وأجابت ممعنةً في دفاعها:
يا ابني بيتي قبو.. ما بيشوف الشمس.. ما بصدّق من الله بخلّص شغل البيت حتى اطلع شمّ هوا.. وبركب بالباص ساعة ساعتين.. حتى ارتاح شوية..
سألتها من قبيل التسلية:
-  شو عندك أولاد يا حجة؟
سحابة من الرضا والحبور عبرت فوق محيّا العجوز التعب تعبيراً عن امتنانها لتغيير دفة الحديث وأجابت:
والله يا ابني عندي واحد بيشتغل بياع يانصيب والتاني بياع جرابات وقدّاحات.. (أضافت بعد صمت وقد امتقع وجهها) وفي اتنين شباب مابعرف وينُن، عم يقولوا العالم أنّو يمكن يكونوا بالحبس..
خير شو عاملين؟
والله يا ابني مابعرف.. يمكن لأنو بزمانن تظاهرو ضد الدولة.
وزوجك حجة شو بيشتغل؟
(زفرت بحرقة) ارتاح وريّح.. طلع لعند ربّه.. ضلّ المرحوم خمس سنين مريض.. الله يسمحله.. خدمتو اللي فيني عليه.
تصفّحتُ بسرعة وجهها المليء بالأخاديد، وفمها الذي غادرته أكثر من نصف أسنانها، وثيابها المهملة.. شعرتُ بالبرودة تسري في جسدي والارتجاف يغمر بدني.. قرّرتُ سريعاً الخروج من هذا الحوار المقيت وسارعتُ بقلب الصفحة من جديد:
حجة والله ما عم تروح من بالي فكرة المشوار بالباص، يـعني..
قاطعتني متهكّمةً بابتسام لا يخلو من المرارة: طيب في أرخص من هالمشوار بهالبلد؟ ولك يا ابني لا فينا نروح مطاعم، ولا نسوح برّات البلاد، ولا نتزقّم أكلة طيبة متل العالم والناس.. بيستكتروا علينا هالشمّة الهوا.. أي والله شي بطقّق!
ونهضت لدى وقوف الباص لتفي بوعدها مطلقةً تنهيدة ارتياح. ولا أدري إن كانت قد اكتفت بمشوارها هذا أم أنها ستكمله في باصٍ آخر