تراتيل آخر الليل..

تراتيل آخر الليل..

حبات المطر تدق على لوح التوتياء المغطى بالثلج, وأربعة أطفال يختبؤون تحت غطاء سميك من شعر الماعز, تدب في أجسادهم هبات القشعريرة جراء احتكاك الأقدام ببعضها لتوليد شيء من الدفء.

 جلس الأب في إحدى زوايا الغرفة وأسند جبينه براحة يده, بعد أن وضع ثلاثة أوعية تحت ثقوب السقف لتتلقى قطرات المياه المتسربة, أما الأم فكانت تواسي ابنتها ببضع قبلات على وجنتيها, وترجو السماء أن توقف المطر قبل أن يغرق المنزل, أشعلت الشمعة للمرة الخامسة بعد انطفائها, لترى وجه زوجها, «حرارة ابنتك ترتفع, ماذا سنفعل؟» قالتها بصوت مرتجف, رفع الرجل بصره عن الأرض, ثم مسح وجهه ببطء، « إن تخطيت هذا الباب فلن أعود حياً, سأنتظرحتى الصباح».
 إنها الثالثة بعد منتصف الليل, وإن رأى القناص قطة قتلها..!!. دخلت قافلة ريح من زاوية الشباك المكسور إلى الغرفة, أطفأت الشمعة ثم هربت, لم تأخذ الطفلة التي لم تبلغ الشهرين بعد, من صدر أمها سوى رائحة الدفء, ودقات قلب تبعث الحياة من جديد, أما الحليب, فهيهات, أرادت الأم أن تخفي خوفها وتوترها أمام أطفالها, ودفن الأب دمعه في الظلام وقطرات المياه المتساقطة من السقف.
رغم عجز الطفلة عن الأنين, إلا أن أمها فهمت نظراتها البليدة, لم تعد الأم قادرة على الصمود أكثر, فضربت بقبضة يديها على ركبتيها, وأمسكت بسترة زوجها المبللة, وأخذت تلطم على صدره وتصرخ «هيا قم, لن أدع ابنتي تموت في حضني, قم هيا», زحف الأطفال تحت الغطاء وخبؤوا رؤوسهم, لم يكن الأب خائفاً من أن يموت, لكن من سيطعم أكوام اللحم هذه إن قُتل؟ كما أنه كان يعلم أن المنزل هو أكثر أماناً لطفلته من الخارج.
لاخيار لذلك الرجل سوى المخاطرة بحياة طفلته, خاصة بعد أن أقسمت زوجته بأن تأخذها بنفسها لتنجيها من الموت إذا لم يفعل هو ذلك! أدرك شعور الأمومة الذي لا يدع للعقل فرصة للتفكير أو التردد.. فكفكف دموع زوجته التي يعشقها وأخذها إلى صدره, وصار يقرأ لها تراتيل حبٍ, ويمسح شعرها,«كفى حبيبتي, سآخذها إلى المستشفى, وستكون بخير» قالها وهو يعرف جيداً أن الوصول إلى المستشفى أشبه بالمستحيل. غطت الأم طفلتها بغطاءٍ مهترئ, عله يحول ما بين البرد وعظامها ويحميها من زخات المطر, ووضعتها بين يدي أبيها, أظهر الصغار رؤوسهم ونظروا إلى أبيهم الواقف عند الباب «سأجلب لكم الطعام وأعود» قال مُطمئناً.. أسندت المرأة يدها على كتف زوجها ووضعت اليد الأخرى على وجهه وأراحت ذقنها على صدره, رافعةً رأسها محدقة بعينيه فهي أقصر منه بقليل.. أخذ قبلته المشتهاة, وخرج حاملاً ابنته, راقبت المرأة الظل الطويل لزوجها وهو يختفي من بعيد, تاركاً وراءه آثار أقدامه على الثلج, وقبل أن تغلق الباب دوت رصاصة في الهواء, وارتطم الظل الطويل بالأرض, لتموت الطفلة بعد أن وقعت من بين ذراعي أبيها.