هوامش في شتم الحداثة!!

هوامش في شتم الحداثة!!

سمحت الحداثة بتأجيل سؤال الوجود الذي كان الواقع يطرحه بقسوة على النخبة التي فقدت وظيفتها.. فالحداثة بنسختها الغربية، وقبل الحكم على نسختها العربية بوصفها تغريباً أو «مؤامرةً»، ملكت في داخلها ما سمح للنخبة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين بتبنيها

فهذه النخبة ذاتها كانت تبحث عن شيءٍ يخرجها من مأزقها الوجودي، فوقعت في الحداثة على كنزٍ، هو ضالتها التي لم يبق عليها إلا «تعريبها».. ولا غرابة في ذلك إذا كان أصل «الحداثتين» - الغربية ونسختها العربية- هو عجز النخبتين عن قراءة وفهم تغيرات الواقع وانقطاعهما بالتالي عن أي دورٍ حقيقيٍ تؤديانه.
بكلامٍ آخر، لو لم تقم النخب المحلية بتعريب الحداثة، إذاً لخلقت «حداثتها» الخاصة، ولكنّ شرعيّة حداثة غربية «متطورة» تحمل من الوهج ما يسهّل المهمة المطلوبة ويوفر حجماً هائلاً من معاناة ترسيمها. وذلك من باب «عقدة النقص الشرقية» المكملة لـ«مركزية أوروبا».
وغياب الوظيفة يتجلى في مبدأ «انتفاء القصدية» الذي تعمل الحداثة في ظلاله، والذي يعني ضمناً عدم إمكانية انطلاق نقد نصٍ أدبيٍ من السؤال عمّا يريده كاتبه، وهو مبدأ صحيحٌ في حدودٍ معينة تتأتى شرعيته في المقام الأول من كون اختزال العمل الأدبي إلى «رسالة» بالمعنى الإعلامي، أي رسالة بين مرسل ومتلقٍ تفترض أن المرسل له أغراض معينة يريد إيصالها وفقط.. هو اختزال ميكانيكي يحول النص الأدبي عمليةً جامدةً ويفقده خصوصيته وتعقيده..
ولكن على الضفة الأخرى، فإن «انتفاء القصدية» الكامل، وبالتحديد انتفاء قصدية عامة يعبر عنها في النص المسرحي مثلاً بمقولة المسرحية، هو محاولةٌ لتحرير الفنان من المعنى!، وتالياً تحرير الناقد من البحث عن المعنى وإطلاق يده وخياله في التأويل وفق ما يسمونه «إعادة إنتاج النص».
والبنيوية - بوصفها أولى المدارس الحداثوية - إذ تدّعي بحثها عن معايير نقدية محددة علمياً، تصل في نهاية المطاف نتيجةً لآليات عملها من «لعب الحر»، و«نصوص متوازية» و«مقاربات» إلى سلسلةٍ مفتوحةٍ من القراءات ليس في إطار ما يسمى «إضاءة النص» ولكن في إطار تحويله إلى «تنّاص» بتجريده من خصوصياته الإبداعية.. فالبنيوية إذ تحاول اكتشاف القانون العام لبناء النص الإبداعي انطلاقاً من النصوص المنفردة دون ارتباطات تلك النصوص الواقعية والتاريخية، فإنها ونتيجةً للتعقيد الهائل للظاهرة الإبداعية من جهة، ونتيجةً لغياب أي منهج علمي (حيث يفصل النص عن تاريخه وعن كاتبه ويعتمد على بنيته فقط)، نتيجة لهذين العاملين فإن البنيوية تضحّي حتى بأعم قوانين علم الجمال محوّلةً الظاهرة الإبداعية إلى ظاهرة عقيمة منغلقةً على ذاتها ومستحيلة التفسير..
وبذلك فإن فلسفة الحداثة والبنيوية ضمناً لا تنكص عن الفلسفة المادية في معالجتها الظاهرة الإبداعية باعتبارها تفاعلاً بين الموضوع والذات فحسب، بل وتنكص أيضاً عن المثالية الموضوعية التي ترى الإبداع تواصلاً مع «عالم المثل» ومع «الفكرة المطلقة» واستلهاماً لها، لأنها تقتل الكاتب وتحرمه من ميزة «نزول الوحي» وتجعل منه آلةً لإعادة الإنتاج آليتها «التناص» الذي يعمل لا على إعادة إنتاج الفكرة ولكن على إعادة إنتاج النص!!
وإذا كان النص كما أسلفنا غير مستوحىً من «الفكرة المطلقة»، وليس مستوحىً من الواقع أيضاً، بل من النصوص والنصوص فقط، فإن البنيوية إذ تقول بـ«موت المؤلف» فإنها تدفن نصّه معه في عملية إعادة تدوير مستمرة إلى ما لانهاية وإلى «اللامعنى» وإلى «إساءة الفهم» وإلى «إساءة القراءة» وعبر «اللعب الحر» إلى «اللاشيء»..
هي فلسفة اللاشيء. وبدقة، فلسفة اللاوظيفة التي تبرر للنخبة انعدام حيلتها تجاه واقع تردّى وتقهقر باستمرار منذ مطالع خمسينييات القرن العشرين، مروراً بإعلان وفاتها –البنيوية- على لسان دريدا عام 1966 وولادة ابنتها الشرعية «التفكيكية» وصولاً إلى وفاة هذه الأخيرة أواسط التسعينيات في أوروبا، وبقاء جثتها المتعفنة محمولةً على أكتاف نخبنا المحلية وجاثمةً معهم فوق صدورنا