«أبونا».. يا جهاز الدولة!!

«أبونا».. يا جهاز الدولة!!

يميل جهاز الدولة إلى تقديم نفسه إلى الشعب على أنه «الأب الراعي» المترفع عن صراعات أبنائه والحكم بينهم، ويظهر هذا بشكل خاص في الشرق وفي دول الأنهار الكبرى تحديداً حيث الدولة المركزية الأقدم وحيث الحاكم صورة للإله كما كان أخناتون مثلاً.
لعل هذه الصفة، أو هذا النوع من العلاقة «الأبوية» إذ يشمل سورية، فإنها لا يتوقف عندها، بل يتعداها في عموميته ليشمل دولاً عديدة تشترك بميلها نحو دور اجتماعي قوي، أي ذلك الدور الذي يقدم التعليم المجاني والطبابة والتعويضات والدعم..الخ.. أكان ذلك بشكله القوي والرحيم الذي مثلته في وقت مضى دول المنظومة الاشتراكية، أو كان بشكله القوي أيضاً ولكن المخاتل والمخادع الذي انتهجته «دول الرفاه» الأوربية في سياق صراعها مع الأولى..وربما تمتد العلاقة الأبوية لتشمل جهاز الدولة على العموم من جانب محدد هو قيامه بوظيفتين أساسيتين: فهو «يطعم الرعية» وإن كان الناس هم من ينتجون الطعام!، وهو أيضاً «يربّيهم»، أي أنه وبكلام آخر، يشرف على توزيع الثروة-الدخل الوطني- أو «الخرجية»، ويضرب ويقمع في الوقت نفسه، ولكن ضمن حدود معينة يرسمها توزيع الثروة نفسه، فكلما كان توزيع الثروة أكثر عدلاً، كلما سمح له المجتمع بالقمع بدرجات أعلى..وطالما هو يوزع الثروة بشكل غير عادل، وهو واقع الحال في سورية وغيرها، فإنه لا بد سيستخدم عصاه الغليظة ليؤدب بها كلّ من تسول له نفسه الاعتراض على شكل توزيع الثروة القائم.. وربما الأصح هو أن عصاه تلك ليست إلا أداة حفاظه على نمط توزيع ثروة محدد، بما يشكل وظيفته الجوهرية.. ومع ذلك فهو يبقى «أبانا» ما دام الشعب المتضرر «قاصراً» و«أقل نضجاً» من أن يكسر الطوق ومن أن يدرك «حقيقة تلك الأبوة»...! لكن ظرفاً خاصاً يجعل «الابن» يثور حتى قبل أن يدرك حقيقة علاقته «بأبيه»، وذلك حين يتوهم جهاز الدولة أن العصا هي من جعلته أباً وليس تنظيمه لتوزيع ثروة محدد غير عادل ولكن قابل للاحتمال. إن وهماً كهذا إذ يدفع «الأب» إلى مزيد من العنف ومزيد من الجور في توزيع الثروة، فإنه يسقط عنه للحظة صفته الأبوية، ويحوله عدواً مطلقاً ويدفع بالناس «للعقوق».. ومن جانب آخر، فإن الصفة الأبوية لجهاز الدولة هي صفة اكتسبها تاريخياً، بدءاً بالانقلاب على الأم أواخر عهد المشاعة البدائية حيث تشكلت العائلة بشكلها الحالي التي يرأسها الأب.. وإنّ تحول القيادة إلى الأب كان ذا أساس اقتصادي هو حفظ الملكية الخاصة التي كانت حديثة النشوء.. وليس مصادفة أن الدولة في نشوئها الأول كانت ذكورية لتحفظ الملكية الخاصة الناجمة عن الفائض الذي بدأت البشرية بتحقيقه بعد مئات آلاف السنين من العوز والصراع مع الطبيعة.. وقد نجد في عهد الثورة الفرنسية في أوروبا، أنها في أحد جوانبها ثورة على بابا روما وعلى شكل محدد من أبوية جهاز الدولة الإقطاعي، ثورة لم تقطع نهائياً مع بطش جهاز الدولة لكنها جعلته مكشوفاً دون ستائر أبوية، الأمر الذي لم يتحقق في مجتمعاتنا حتى حينه.. وبالعودة إلى الإحداثيات السورية، فربما يمكن أن يساعدنا وضع المسألة بهذا الشكل على أن نفهم بعمق لماذا يحن بعضنا إلى الثمانينييات رغم أن«أبانا» كان قاسياً كما هو الآن.. ولكنه كان «يطعمنا»! وربما وبحكم درجة تعقيد الحالة التي نعيشها فإن عودة إلى روح الثمانينيات لن تحدث إلا حين يشترك الابن العاق بولادة أبيه الذي يريد!!