سلّم قلبك إلى «كوليا»...

سلّم قلبك إلى «كوليا»...

«لوكا» عازف تشيللو خمسيني أعزب، يعيش في تشيكوسلوفاكيا «عشية ما يسمى الثورة المخملية على السيطرة السوفييتية» في أواخر العقد الثامن من القرن الماضي. تمكن عن طريق مهنته السابقة كعازف في الفرقة الفيلهارمونية الوطنية أن يؤمن لنفسه حياة جيدة ومنزلاً رائعاً في أحد الأبراج في براغ، ولكن حياته الرغيدة تنتهي بسبب تمرد صغير على موظفي الدولة، فيطرد من الفرقة ويضطر للعمل بأعمال جزئية لاتدر مالاً وفيراً كالعزف في الجنازات وإصلاح شواهد القبور.

يرفض لوكا الزواج لأن فنه يتطلب منه الالتزام الكامل، فيعيش حياته وحيداً في برجه العالي، ويشغل أوقاته بالبحث عن فتيات أصغر سناً، يغويهن بفنه وشخصيته اللامعةً، دون أن يفكر بشيء جدي للمستقبل. لكن حاجته للمال تضطره لقبول عرض صديقه بالزواج وهمياً من امرأة روسية تريد الحصول على الجنسية التشيكية ومستعدة لدفع مبلغ كبير لمن يتزوجها. وتتسارع الأحداث كارثياً بالنسبة له، فتهرب زوجته وتترك طفلها الصغير «كوليا» ذا الخمس سنوات مع جدته التي تموت بحادث مفاجئ فتوصي بالطفل إلى «لوكا».

لا يشذ المخرج التشيكي «يان سفيراك» عن السيناريو الهوليودي التقليدي المعروف، فيسلب الطفل الروسي البريء قلب لوكا الأناني ويجبره على محبته والاعتناء به، لكنّ ذكائه في اختيار التفاصيل ولغته السينمائية الراقية وتعامله الذكي مع الممثلين خصوصاً الطفل أندريه شاليمون، هي من منحته جائزة الأوسكار عن أفضل فيلم أجنبي عام 1996.

يعتمد المخرج على شخصية والده الممثل وكاتب السيناريو «زدينيك سفيراك»، في بناء الجذب الدرامي، فتمثيله المتوازن وشخصيته اللامعة وتعابير وجهه التي تجسد القصة دون عناء تمثيلي كبير، هي محرك الفيلم الأساسي، وهي من ربطت عناصره ومراحله المختلفة، وساهمت في إقحام المشاهدين في الفيلم، ساعده في ذلك وجود أحد أجمل الأطفال الذين مروا على السينما وربما أكثرهم مصداقية.

 يصعّد الطفل كوليا (أندريه شاليمون) التأثير الحسي في هذا الفيلم ويأخذنا إلى عالم الطفولة البسيط بعينيه الجميلتين المعبرتين بصدق عن إحساس الحزن فيه وعن خيبة أمله من عالم الكبار الأنانيين الذين يتخلون عنه. فكوليا لا يتحدث التشيكية وبالتالي لا يمكنه التواصل مع المحيط التشيكي في البداية، ولكن تعابير وجهه وهو يتعرف لوكا الذي يرفضه في البداية ثم يحبه كأب، ثم تعرفه على معنى الموت وشوقه لجدته وفرحه عند رؤية علم بلاده الروسي الأحمر هي أكثر مايستحق المتابعة في الفيلم.

«سفيراك» الشاب أبدع بعمر 31 عاماً فيلما رائعاً، يدهشك فيه التوازن الحاصل بين مختلف العناصر، والتحكم الهائل (الموجود عند كبار المخرجين) بالتفاصيل الفنية والرتم، والإحساس الطاغي بالتعاطف والحنان نحو شخصيات الفيلم وحياتهم البسيطة. وهو لا يبالغ بمشاهده كثيراً فيبقي سير العمل سلساً سهلاً مع التركيز على التمثيل وتعابير الوجوه، وعلى الألوان الغنية وحركة الكاميرا الساحرة التي تشكل خلفية فنية راقية للعمل ولاتطغى عليه أبداً. ومع ذلك فإنه يقحم مشاهد تجريبية وإبداعية خالصة في بعض اللحظات تعبر عن تأثره بـ«أورسن ويلز وألان رينيه»، وينجح في ذلك ببراعة دون أن يؤثر على طابع الفيلم وسيره.