«صورة الفنان في شبابه» لجيمس جويس: المدينة المتأرجحة بين القسوة والحنان
إبراهيم العريس  إبراهيم العريس

«صورة الفنان في شبابه» لجيمس جويس: المدينة المتأرجحة بين القسوة والحنان

كان ذلك قبل زمن من انتشار شهرة جيمس جويس بصفته كاتباً عسير المنال صعب اللغة والأسلوب، يغرق في أعماله وسط التفاصيل والاستطرادات وشتى أنواع «تيار الوعي» ذلك التيار الإبداعي الذي سيرتبط اسمه به لاحقاً. ففي النصف الأول من العقد الثاني للقرن العشرين، كان جويس لا يزال شاباً وشبه مبتدئ.

كان همه في ذلك الحين ان يحصل على وظيفة تدريس دائمة في تريستا، مدينة الشرق الايطالي التي ستصبح وطنه البديل. وكان من الواضح بالنسبة اليه في ذلك الحين ان هناك شياطين في داخله يريد ان يتخلص منها. ولعل تلك الشياطين كانت اصداء طفولته وحياته العائلية وتربيته في مدارس اليسوعيين: في اختصار كانت شياطينه، في نهاية الأمر تفاصيل حياته شاباً في ارلندا سنوات حياته الأولى التي سيعيش حياته كلها يكتب عنها ويحنّ اليها ويعيش معها علاقة ولا أغرب. صحيح أنه كان قبل ذلك قد أنجز مجموعته «أهالي دبلن» المؤلفة من حكايات واقعية ومن بورتريهات لأناس عرفهم أو أناس ركّبتهم مخيلته من اناس عرفهم، في تلك المدينة، لكن «أهالي دبلن» كانت عملاً خارجياً - اجتماعياً / سيكولوجياً - بالأحرى. وكان على جويس، قبل ان يحقق نقلة كبيرة في حياته الفكرية، ان يرسم صورة لصباه وشبابه، لعل الغاية الأساس من رسمها بالنسبة اليه، ان يضع على الورق ما كان يستبد به من أفكار وصور وذكريات وإحباطات مبكرة. ونعرف ان تلك الصورة صدرت تحت عنوان «صورة الفنان في شبابه» في عام 1914، مسلسلة في مجلة «الاناني» بناء على توصية من آزرا باوند الذي كان تعرّف الى جويس قبل عام من ذلك وقدمه الى مسؤولي تلك المجلة.

والحال ان عام 1914 كان عام خير عميم بالنسبة الى حياة جويس الأدبية، اذ انه، في ذلك العام، والى نشره «صورة الفنان في شبابه» على حلقات في «الاناني» نشر في لندن مجموعة «أهالي دبلن» التي كان ناشر آخر رفض اصدارها ومزق ما طبع منها، قبل ذلك بعامين. وكذلك في عام 1914 نفسه، بدأ جويس يكتب مسرحيته «المنفيون» اضافة الى بدء كتابته الكثير من فصول «صورة الفنان في شبابه».

لقد بدا واضحاً في ذلك العام، أن «التخلص» من هذا العمل بنشره، إنما كان أشبه برمي ماض ما كله وراءه لينطلق الكاتب في حياته الأدبية الجديدة. ومع هذا علينا ألا ننسى هنا ان العملين الكبيرين اللذين كتبهما جويس لاحقاً في حياته، انما كانا في شكل أو في آخر، امتداداً لـ «صورة الفنان في شبابه»، ذلك ان «يوليسيس» و «يقظة فنيغان»، ينتميان كذلك الى سيرة جويس، بل إن «يوليسيس» نفسها، وإن كانت تستعيد اوديسا هوميروس، لتحوّلها عملاً حميماً ورواية تدور «احداثها» في يوم دبلني واحد، فإنها في جوهرها استعادة لشخصية ستيفن ديدالوس، الأنا - الآخر لجويس، الذي يمضي هنا يومه العادي في مدينته، بينما نرى صورة طفولته وشبابه كلها في «صورة الفنان».

غير ان الذين يعرفون «يوليسيس» ويحبون أسلوبها المتشابك والصعب، الواقعي حيناً والغرائبي في حين آخر، سيخيب أملهم لدى قراءة ذلك العمل السابق عليها. فـ «صورة الفنان في شبابه» هي في نهاية الأمر رواية واقعية بل طبيعية تتضمن سيرة ذاتية موصوفة حقبة حقبة، لفتى يعيش موزعاً بين تربيته اليسوعية الصارمة، وعائلته التي اذ يقدمها لنا الكاتب - الذي يروي الاحداث بصيغة الغائب -، أحياناً بصورة حنون وطريفة، يقدمها لنا في فصول عدة، على صورة مجموعة من الناس الأنانيين المتّسمين بنذالة لا حدود لها والذين لا يتطلّع «الشاي» في نهاية الأمر إلا الى الهرب منهم باحثاً عن شاطئ أمان له يقيه شرور تلك العائلة المؤلفة من أفراد قساة في تصرفاتهم.

قاسية كذلك تأتي الصورة التي يرسمها جويس للمدينة نفسها: فدبلن هنا مدينة تتوزع بين الحنان والجمال، وبين القسوة. انها صورة للعالم نفسه، لكنها في الوقت نفسه لا ترقى الى مستوى الرمز والكناية. فأدب جويس لم يكن وصل بعد الى ذلك القدر من الشمولية. كان يريد فقط ان يستخدم صورة المدينة والعالم الداخلي للعائلة من حول الفتى، كمجرد ديكور لكي يغوص في حياة ستيفن ديدالوس وتربيته. فما يهم جيمس جويس هنا، انما هو الشخصية الرئيسة التي يصوّر نفسه من خلالها. والأزمات الروحية الكثيرة التي تعبر بها هذه الشخصية، لا سيما حينما يطرح ستيفن ديدالوس على نفسه مقتضيات ازمة الايمان التي تستبد به (في الفصل الثالث إثر سماعه عظة يلقيها الأب آمال)، لا سيما أن هذه الأزمة الايمانية تتضافر لديه مع أزمة ضمير ينتج من أولى تجاربه الجنسية وعقدة الذنب التي تنتج لديه بفعل ذلك.

ومن اللافت ان الزمن الذي تندلع فيه لدى بطل الرواية هذه الأزمة يكون هو هو الزمن الذي يشعر فيه بقوة اندفاعه نحو مصائره الثلاثة: كشاعر، ووطني وفاقد للإيمان في الوقت نفسه. وبالنسبة الى بطلنا، فإن النتيجة تكون ان تستبدّ به رغبة الرحيل من المدينة، ومن الوطن ككل. فلماذا الرحيل؟ «لكي اجابه حقيقة التجربة، ولكي اولد لديّ، داخل روحي، ذلك الوعي الذي لم يتمكن العرق الذي انتمي اليه من خلقه لديّ». وهنا لا بد من الاشارة الى ذلك التمازج، في الأسلوب، لا سيما في الفصل الاخير من «صورة الفنان...» بين الرواية، وبين ما يشبه اليوميات التي يدونها الكاتب، لتشكل النصف الثاني من ذلك الفصل. اذ هنا، وبعد ان يكون ديدالوس قد اتخذ قراره، يصف لنا، وبتفصيل، الحياة اليومية وكذلك الأفكار والأحلام اليومية والتي تحصل لديه بين العشرين من آذار (مارس) والسابع والعشرين من الشهر التالي، وهي يوميات تنتهي بإخبارنا كيف ان «أمي رتبت ثيابي الجديدة التي اشتريتها للمناسبة. وها هي الآن تصلي، كما قالت لي، لكي أتعلم بتجربتي الخاصة، بعيداً من عائلتي ومن اصدقائي، ما هو القلب وما يستشعره هذا القلب... آمين... ومرحبا يا أيتها الحياة! ها أنذا أرحل للمرة الألف...».

لقد أثنــــى النقاد والباحثون على الدوام، على هذا العمل، ونظروا بعين التقدير الى ما فيـــه من رصد سيكولوجي وفني شديد الثراء والقوة، وبخاصة في الصفحات التي يعبّر فيها الكاتب عن نظرته النقدية الحادة الى ما يحيط به والى حياته العائلية، ثم - وهذا أهم ما في الرواية وما يبرر، بالطبع، عنوانها - وصفه لتحرر الكاتب النهائي من طريق الفن الذي اختاره سبيلاً لحياته. ان الفن هذا، كوسيلة للتحرر، هو ما وضعه جويس في مواجهة المجتمع وضغوطه الدينية، المدرسية لا سيما العائلية. واللافت هنا هو ان جويس يصف هذه الضغوط بصراحة وقوة ما كان يمكن أهله وأهل دبلن ان يغفروهما له، لولا تلك الصفحات الأخرى - القوية بدورها - التي يروي فيها آلام ايرلندا في ظل الهيمنة الانكليزية، وكذلك الصفحات الاخرى التي يتحدث فيها عن المناضل بارنيل الذي غدر به رفاقه على مذبح مبادئ أخلاقية ضيقة... اذ في هذه الصفحات بدا جويس شغوفاً بوطنه الأم مدافعاً عنه.

لكن جيمس جويس (1882-1941) حينما كتب «صورة الفنان في شبابه» كان قد اضحى مقيماً خارج ارلندا. وهو خارجها سيكتب اعظم اعماله، وسيعيش معظم سنوات حياته. فإذا كان جويس قد اعتبر على الدوام ارلندياً، بل واحداً من أكبر كتاب ارلندا على مر العصور - ناهيك بكونه مؤسساً للرواية الجديدة في القرن العشرين، الى جانب مارسيل بروست وسيلين وغيرهما -، فإنه كان في حياته مواطناً أوروبياً لم يتوقف عن التجوال بين اقطار القارة القديمة، كما انه - كما أشرنا - عاش معظم حياته في تريستا... ومع هذا، فإن دبلن مدينته الاثيرة، ظلت على الدوام مصدر وحيه وإلهامه. ولربما يكون حضورها في «يوليسيس» أعظم وأغرب حضور لأي مدينة في اي رواية أوروبية على مر العصور.

 

المصدر: الحياة 

آخر تعديل على الخميس, 26 أيلول/سبتمبر 2013 20:40