العلاج النفسي بوصفه أداة هيمنة... نحن عقلاء في عالم مجنون
ازدهرت مهن العلاج النفسي في العقود الأربعة الماضية بهذا الشكل المهيمن لسبب واحد، وهو لا يتعلق بنجاحها لا بالعلاج ولا بالتشخيص ولا بتحقيق أيّ تقدّم في الصحّة النفسية. لقد ازدهرت لأنّها متحالفة مع متطلبات الرأسماليّة النيوليبراليّة
بروس كوهين بروس كوهين

العلاج النفسي بوصفه أداة هيمنة... نحن عقلاء في عالم مجنون

إن الشعور بعدم الرضى هو شيء موضوعي في عالم تسوده اللامساواة، لكن الرأسمالية ابتدعت العديد من أدوات الهيمنة، التي من شأنها إعاقة أي محاولة بشرية للمقاومة والتغيير، وتم استخدام علم النفس ومؤسسات الصحة النفسية كجزء من تلك الأدوات، عبر بناء تشكيلة أوسع من الاضطرابات النفسية، ووصم أي سلوك مغاير بالمرض، بهدف إقناعنا نحن البشر بأننا معتلون نفسياً، وأن الحل ذاتي لا جماعي، فعلى الفرد أن يتصفح كتب التحليلات النفسية بحثاً عن الحل والعلاج، بدلاً من النضال السياسي الاجتماعي...

إعداد وتعريب: عروة درويش

علينا أن نشدد قبل الخوض في هذا المقال على ناحيتين:

أولاً: ليس المستهدف هنا المرضى أو المصابين أو الذين يعانون من اعتلالات واضطرابات نفسيّة، بل المستفيدون والمتاجرون باعتلالاتهم وبصدماتهم وبمعاناتهم. وقد قال بروس كوهين في مطلع الكتاب الذي نستند إليه: «أنا أقدّر بأنّ التشكيك في صحّة الاعتلال النفسي قد يكون أمراً غير مريح للأشخاص الذين يعانون في الوقت الراهن من التوتّر أو الصدمات أو السلوك الذي يسبّب ما أشار إليه، توماس ساز، مشاكل الحياة». دعوني أوضّح باختصار هنا أنّ هذا الكتاب لا ينكر مثل هذه المعاناة، بل يشكك في خطاب الاعتلال النفسي، الذي أنتجه مجموعة من الممتهنين الذين يدّعون امتلاك معرفة خبيرة بهذه المعاناة. وعليه، فإنّ النقاش الحالي هو نقدٌ لسطوة الممتهنين وليس لمعاناة وسلوك الأشخاص الذين تمّ تصنيفهم، أو صنّفوا أنفسهم، بأنّهم – معتلون نفسياً –».

ثانياً: نحن لا نتناول هنا علم الأعصاب، أو علم النفس العصبي «Neuroscience»، وهو العلم المتفرّع عن الطبّ البيولوجي الذي يعتمد الدراسة المخبرية للدماغ والجهاز العصبي في أبحاثه. فعلم النفس العصبي، رغم تداخله في بعض الأحيان مع مؤسسة العلاج النفسي المهيمنة بسبب قيام الأخيرة بالتطفل عليه ومحاولة التسلّق على إنجازاته، لا يُعنى عادة بالتقييم السلوكي-الاجتماعي للأفراد بل بدراسة الحالات التي فيها خلل فيزيائي-عصبي ومحاولة علاجها.

علم نفس الهيمنة

قد يبدو الأمر وكأنّه بحاجة إلى مناظرة جذريّة، لكنّني أعتقد في الوقت ذاته بأنّ الحجج بسيطة بشكل نسبي ومباشر، وأعتقد أيضاً بأنّ هنالك الكثير من الأدلّة لدعم ذلك. نحن نعيش في ظلّ الرأسماليّة في مجتمع من اللامساواة الجوهريّة، التي تحددها علاقتنا بوسائل الإنتاج الاقتصادي. إنّ كلّ مؤسسة في المجتمع الرأسمالي، سواء أكانت عامّة أم خاصّة، مؤطّرة بالتفاوت ذاته في السلطة. تقوم الطبقة الرأسمالية بإنشاء وتحديد الفهم السائد لما نحن عليه ولما هو متوقّع منّا ولحدود سلوكنا، ثم تعيد توليد نفسها عبر الدولة ومؤسسات المجتمع المدني، مثل: أنظمة التعليم والعدالة والصحّة. هذا ضروريّ لتقدّم وبقاء الرأسماليّة. كمثال: لقد تمّ إدماجنا اجتماعياً عبر الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام الجماهيريّة لكي نقبل التفاوتات الاقتصاديّة والاجتماعيّة على أنّها أمر طبيعي ومفهوم، بوصفها النتيجة الحتميّة للمهارات المتمايزة وللمنافسة داخل السوق، وذلك بدلاً من كونها نتيجة للامتياز الطبقي ولاستغلال غالبية السكان. وفي هذا السياق، لا يشكّل نظام الصحّة النفسيّة والعلاج النفسي استثناء. فممتهنوا العلاج النفسي، الذين يقودون المؤسسة بوصفهم الخبراء المطلقين في العقل، بعيدون كلّ البعد عن أن يكونوا محصنين ضدّ الحاجة لرأس المال. في الواقع، سنوضّح تالياً بأنّ نظام الصحّة النفسيّة لطالما كان مطواعاً بشكل لافت لرغبات الطبقة الحاكمة، وبأنّه اكتسب لهذا السبب المزيد من القوّة والسطوة والولاية، مع تزايد تطوّر المجتمع الصناعي. 

لقد خدم نظام الصحّة النفسيّة الاحتياجات الاقتصاديّة والإيديولوجيّة للمجتمع الرأسمالي، وهذا ما سبّب انتشار خطاب العلاج النفسي على مدى العقود الماضية مع نموّ النيوليبرالية، وهو ما أدّى إلى تحقيق الهيمنة التي يملكها حالياً على المجتمع الرأسمالي. يجب أن نفهم «أزمة» العلاج النفسي التي حدثت في منتصف السبعينيات وبنية «الكتيّب التحليلي والإحصائي للاضطرابات النفسيّة 3 DSM III» -كتيّب إرشاد يصدر عن الجمعية الأمريكيّة للطب النفسي، وهي الجسم الأهم على مستوى العالم في هذا المجال، ومنه يُستقى تصنيف الاضطرابات النفسيّة – المترجم- الصادر عام 1980، في إطار السياسة الأوسع لدولة الرفاه المتدهورة والتركيز على النزعة الفرديّة.

لقد خدم من امتهنوا العلاج النفسي «Psy-professionals» المجتمع الرأسمالي في مجالات محدّدة من الحياة الخاصّة والعامّة، وقد اصطدم علم النفس المهيمن بالشباب وبالنساء، وكذلك بالحياة في العمل وبصيغٍ من الاحتجاجات السياسيّة والاجتماعيّة. لقد عكست فئات وتصنيفات الاضطرابات النفسيّة بشكل متزايد معايير وقيم المجتمع النيوليبرالي السائدة. انخرطت البيئات النفسيّة في عالم العمل، ومن ضمن ذلك الانخراط: اضطرابات القلق الاجتماعي، وهو البنية التي لا يمكن فهمها بشكل كامل إلّا في سياق المطالب النيوليبرالية المتعلقة بـ «الصلاحيّة للعمل Employability» و «الذوات الصالحة للبيع Sellable selves» من القوى العاملة.

وكجزء من السيطرة على العمالة المستقبلية، تبين التحقيقات بأنّ النمو في مجال الاضطرابات النفسيّة يستهدف الشباب بشكل خاص، ويتضمن ذلك التحليلات التاريخية-الاجتماعيّة لأكثر العلل النفسيّة شيوعاً في مرحلة الطفولة «اضطراب نقص الانتباه/فرط النشاط ADHA». إنّ اللحظة التي عاصرت وصم الأطفال بالاضطرابات النفسية، مرتبطة بشكل وثيق بمتطلبات الرأسماليّة المتأخرة المتعلقة بإيجاد عمّال مذعنين ومنضبطين وذوي مهارة عالية.

ومقارنة بتركيز نظام الصحّة النفسية الحديث نفسياً على الشباب، لطالما شكّلت المرأة هاجساً مستمراً لمختصي العلاج النفسي منذ بداية المجتمع الصناعي. يبدو واضحاً، بدءاً بالهستيريا ووصولاً إلى «اضطراب الشخصيّة الحدّي BPD»، النهج الذي اتبعه مختصو العلاج النفسي لإدراج عواطف الأنثى وتجاربها في علم الأمراض. حيث أدّت هذه المقاربات بشكل رئيسي وظيفة تدعيم العمالة والأدوار التقليديّة القائمة على الجنس والسطوة البطريركيّة-الأبويّة.

يمكن فهم نظام الصحّة النفسيّة بشكل أدق عند النظر بشكل واسع إلى أحلك اللحظات في تاريخه، ابتداءً من دعمه للعبوديّة ومروراً بالدور الرئيسيّ الذي لعبه في جرائم النازيين، ووصولاً إلى مشاركته الحديثة في تعذيب أسرى الحرب ضمن «الحرب على الإرهاب». ليست عمليات التعذيب مجرّد أحداث معزولة ومنفصلة أدّت إليها عوامل صعبة، بل لقد نتجت عن الدعم الواسع له من قبل خبراء الصحّة النفسيّة. لقد خدمت «ثقافة الخوف» التي انتشرت في المجتمعات الغربية بشكل متزامن مع هجمات أيلول 2011، فرض هيمنة نفسيّة أكبر، وهي الحالة التي تحققت عبر المراقبة الشديدة للمعارضة الاجتماعية والسياسيّة، والتي وجدت انعكاسها بصدور كتيّب «الإرشاد» بإصداره الخامس.

لكن لا يعني هذا بأنّ علينا أن نذعن لهيمنة المؤسسات النفسيّة الحاليّة، وكذلك لا يعني بأن ننكر كلّ الإنجازات التي حققتها العلوم النفسيّة في ظلّ المجتمع الرأسمالي، بل يعني بأنّ علينا أن ندرك الهيمنة القائمة حالياً ثمّ نتحداها. يتضمن هذا تحدّي المدافعين الأكاديميين عن ممتهني الصحّة النفسيّة، وإطلاق الحملات من أجل حظر العنف النفسي والعلاجات الإلزاميّة، وتشكيل تحالفات مع الباحثين الراديكاليين غير الراضين عن الحال ومع الناجين من الأمراض النفسيّة ومع ناشطي الجناح اليساري.

النظرية الماركسيّة والاعتلالات النفسيّة

يمكن عبر تطبيق الماديّة التاريخيّة الماركسيّة أن نتبيّن بأنّ نظام الصحّة النفسيّة المعاصر قد تمّ تأسيسه وتأطيره من قبل القوى الاجتماعية والاقتصادية للرأسمالية الصناعية. يتبدّى لنا عند القيام بفحص تاريخي-اجتماعي لممارسات وفلسفات خبراء الصحّة النفسيّة، بدءاً من العلاج الأخلاقي ووصولاً إلى التدابير الصيدلانيّة النفسيّة، بأنّ نجاح ممتهني العلاج النفسي يعتمد على ادعاء المعرفة المتسقة مع أهداف النخب الحاكمة في تطويع العمّال التابعين.

لقد دعّم نظام الصحّة النفسيّة، بوصفه جزءاً من البنية الفوقيّة، القاعدة الاقتصاديّة من خلال تطبيع أوجه اللامساواة الجوهريّة في المجتمع الرأسمالي. عمل الدور الإيديولوجي لنظام العلاج النفسي على نزع الصفة السياسيّة عن الحقائق الوجوديّة ضمن النظام الاجتماعي الحالي وعلى التشديد على فرديتها، وذلك عبر تطبيب «الانحرافات» وفرض الامتثال على المجموعات المشتبه في تمردها.

لقد تمّ توسيع هذا الدور الإيديولوجي في المجتمع النيوليبرالي، ممّا أدّى إلى تحويل الخطاب النفسي إلى خطاب مهيمن. وقد لخّص، بورستو ، هذا التوسّع بملاحظته بأنّ الناس الذين دخلوا ضمن التصنيفات الاضطرابيّة قد ازدادوا بشكل لا يصدق، حيث كانت أعداد الناس تتضاعف مع مرور كلّ يوم. لقد باتت الرقابة على أيّ أحد قد يثير المشاكل، أطفالاً أو كباراً، أمراً روتينيّاً. ما إن يبدي أحدهم «انحرافاً» أو «سلوكاً غير معتاد» حتّى يصبح في عهدة «النظام»، إلى حدّ أنّ الطفولة العاديّة مؤهلة لتكون اعتلالاً. علاوة على ذلك، وصل التطفّل إلى مكانٍ أعمق بكثير من أغلال الأمس، ليصل إلى أعماق العقل الداخلي. لقد بات الأمر وكأنّ العلاج النفسي قد أزال الأغلال من على جسد «المجانين» ليضعها في مكان أكثر استدامة في عقول الجميع.

الاعتلالات النفسيّة في المجتمع النيوليبرالي

توقّع إنغلبي عام 1980 أن تتوسّع الإيديولوجيا النفسيّة إلى الفضاءات العامّة عندما أعلن بأنّ أفكار العلاج النفسي: «باتت مدمجة ضمن الحسّ السليم نفسه». لم يعد المريض النفسي يخضع لأشكال القمع العلنيّة داخل مؤسسة العلاج النفسي، بل بات عوضاً عن ذلك يأتي ليحتوي خطاب العلاج النفسي على أسس أكثر طواعية. وكما لاحظ إنغلبي: «فكلّما تمّ التخلص من المستشفيات النفسيّة أكثر، كلّما ازداد دور أطباء العلاج النفسي في المستشفيات العامّة. لكنّ المريض النفسي لا يزال مسجوناً بشكل فعّال داخل الدور الذي يلعبه كمريض نفسي. علاوة على ذلك، فقد تمّ استيعاب هذا الدور من المريض نفسه ومن الناس المحيطين به. وبات هذا الدور يوجّه تفسيرات الأفراد الذاتيّة لسلوكهم، سواء أكانوا مرضى رسميين أم لا».

ومع تطوّر المشروع النيوليبرالي، بتنا جميعنا متورطين لكوننا عرضة لخطر معاناة اضطراب نفسي. لكنّ هذا ليس مرتبطاً بأيّ حال بالتطوّر في علم الأمراض الحقيقي، بل هو مجرّد توسّع في خطاب العلاج النفسي إلى النقطة التي اتخذ فيها وضعيّة الهيمنة. وكما لاحظ، ديفيس، فالأمر أكثر من مجرّد مصادفة: «لقد نمى التشابك بين تعظيم المجال النفسي وبين تعظيم الربح، ليصبح أكثر وضوحاً في الحقبة النيوليبرالية».

تتطلّب النيوليبراليّة من الناس المتنافسين والطيّعين أن يركزوا على تصحيح وتحسين عواطفهم وسلوكهم وقدراتهم الاجتماعيّة. لقد تمّ تدعيم هذا بتوسيع امتهان العلاج النفسي بين الناس الحاكمين «عن بعد». لقد نزع علم نفس الهيمنة التسييس عن اللامساواة الجوهريّة للرأسماليّة، وذلك أثناء نشره للقيم النيوليبرالية من خلال تصنيفاته وفلسفاته بشأن «العلاج». وقد سمح التذرّع بالسلطة العلميّة على العقل لممتهني العلاج النفسي، بفرض قيم الطبقة الحاكمة ومعاييرها بوصفها افتراضات توافقيّة ومن مسلّمات السلوك البشري. لقد حدث هذا إلى حدّ أن الأفراد باتوا يشاركون الآن في أعمال المراقبة الذاتيّة، ويسعون لإيجاد حلول للمشاكل التي سبّبها الإخفاق الهيكلي للمجتمع النيوليبرالي، عبر تفحّص أعراض كتيّب «الاعتلالات النفسيّة».

لطالما كانت مهنة الطب النفسي متراساً للتحكّم الاجتماعي من أجل ضبط الطبقات داخل المجتمع الصناعي، إلّا أنّ دورها الإيديولوجي لم يكن أبداً مهماً بقدر ما هو عليه الآن.

فرض الإذعان في العمل

 يمكننا أن ندرك من إشارة، روبرتس،  إلى الزيادة الأخيرة في استخدام ممتهني العلاج النفسي لتصنيف «التوحّد»، بأنّ علم الأمراض المتعلق بمظاهر التهذيب يعكس رغبة رأس المال النيوليبراليّ بوجود «عمالة عاطفيّة» ضمن قوى العمل. يعلن روبرتس: «لم يعد كافياً القيام بتصنيع المنتج، فعلى المرء الآن أن يقوم بالأمر بابتسامة وبصميميّه وبلمسة وديّة».

لقد تمّ إشراك مهنة العلاج النفسي في مجال العمل، بدءاً من استخدامها كشكل من أشكال «علاج» التراخي والتبطّل في القرن التاسع عشر، ووصولاً لتشميل المثل العليا النيوليبرالية المهيمنة الخاصّة بالصلاحيّة للعمل وبالإنتاجيّة في كتيب الإرشادات الحالي. لقد سمح تدعيم أفكار إيديولوجيّة، مثل مسؤولية العمّال عن إخفاقاتهم الفردية عوضاً عن كونها حقيقة اجتماعيّة ناجمة عن الاستغلال الرأسمالي، لخبراء العقل بتوسيع مناطق صلاحيتهم لتشمل المكتب والمصنع والمنزل والمدرسة.

صنّف «مكتب إحصاءات العمالة» عام 2014، المعالجين النفسيين المختصين بالمنظمات الصناعية بأنّهم المهنة الأسرع نموّاً في الولايات المتحدة. حيث لاحظ فارنهام في 2014 بأنّه «يتمّ استخدام هذه المهنة لخبرتها في: توظيف الأفضل وزيادة الإنتاج وخفض عدد العمّال البدلاء وتخفيض تكاليف العمالة». بينما كان قسم العمل والتقاعد في الحكومة البريطانية يدرس مؤخراً فرض استشارات صحّة نفسيّة إلزاميّة على العاطلين عن العمل، وفرض عقوبات على الذين يرفضون مثل هذا «العلاج» . إنّنا نشهد من جديد قيام ممتهني العلاج النفسي بالتوفيق بين «خبراتهم» و«علمهم» وبين احتياجات الرأسماليّة. وعلى النقيض لما يقوله لنا رؤسائنا في العمل، فإنّ تسلل العلاج النفسي والمهن المرتبطة به إلى داخل حياتنا في العمل ليس خطوة تقدميّة في المجال الصحي، وإنّما هو إشارة إلى المراقبة الوثيقة والسيطرة الاجتماعية على العمّال في ظلّ الظروف النيوليبرالية.

جدول بالكلمات/المصطلحات المتعلقة بالعمل ما بين 1952 و2013:

 

DSM-I

DSM-II

DSM- III

DSM- III-R

DSM-IV

DSM IV-TR

DSM-5

الكلمة/العبارة

(1952)

(1968)

(1980)

(1987)

(1994)

(2000)

(2013)

الأعمال

4

0

8

7

9

9

11

البطالة/العاطل عن العمل

1

0

6

17

31

23

46

المرونة

0

0

0

1

7

4

14

فقدان الوظيفة/التوظيف/دون عمل

0

0

8

1

9

10

16

لا إنتاجيّة/ إنتاجيّة قليلة

0

0

10

2

11

8

12

العمل/العمالة/العامل

5

1

72

122

186

204

288

المجموع الكلّي

10

1

104

150

253

258

387

 

الشباب وتطبيب «الانحراف السلوكي»

علّق، روز،  على أهميّة الشباب بالنسبة للمجتمع الصناعي بالقول: «أصبح الطفل، كفكرة وكهدف، مرتبطاً بشكل لا ينفصم بمطامع السلطات». مع مرور الوقت، قامت السلطات النفسيّة بتطبيب -تحويلها إلى شأن طبّي يجب أن يعالج - مجالات أكثر فأكثر من خبرات وسلوك الأطفال. بدءاً من اختبار الذكاء ومروراً بمأسسة الأطفال «الذين يعانون من نقص عقلي» ووصولاً إلى الكتيّب في نسخته الثالثة ومطالب النظام التعليمي الحالي، لقد ركّز توسع امتهان العلاج النفسي على الأطفال والمراهقين خلال القرن الماضي. يتبيّن لنا من التحقيق التاريخي-الاجتماعي ومن تحليل نسخ الكتيّب المتتالية وكذلك من الاستفادة من دراسة حالة «اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط ADHD»، كيف عمل «خبراء العقل» المفترضون على تدعيم الامتيازات الاقتصاديّة والإيديولوجيّة للطبقة الرأسماليّة. 

بالنسبة للشباب، يتمّ ذلك في المقام الأول عبر السيطرة على التعليم الإلزامي بوصفه أداة بالوكالة للتطويع الاجتماعي لقوى المستقبل العاملة. لقد ثبت خلال كامل فترة تطوّر الرأسماليّة الصناعيّة بأنّ مهنة العلاج النفسي قد عُنيت بالانحراف الدائم لدى شباب الطبقة العاملة. وقد حوّل الخطاب النفسي في وقت سابق مثل هذا السلوك المنحرف إلى مرض، عبر بناء تشكيلة أوسع من الاضطرابات النفسيّة المصممة بشكل خاص لتستهدف الشباب والتدريس. فكما استنتج رافالوفيتش (2004)، من تشخيص «التهاب الدماغ النوامي EL» قبل مائة عام ووصولاً إلى «اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط ADHD» حالياً، فقد كان الموقع المؤسساتي عاملاً متغيراً رئيسياً في فهم بنية اعتلالات الطفولة النفسيّة. لقد قال: «لقد تمّ النظر على الدوام إلى المشاكل في المدرسة على أنّها مؤشر على سوء التكيّف الاجتماعي الشديد، وبأنّ التحسّن في الأداء المدرسي هو مساوٍ للسلوك الاجتماعي «الملائم»».

وكما هو مؤطّر في التركيز النيوليبرالي على الفرد بوصفه موقعاً للتغيير، فإنّ المتطلبات المؤسساتيّة المدرسيّة للتطابق والإذعان تعني بأنّ المُدرسين، الآن أكثر من أيّ وقت مضى، مدعومون من قبل نظام الصحّة النفسيّة. ويعلّق آدامز (2008) بأنّ: تركيز المدرسين على فكرة «العجز الفردي Individual deficit» لدى الشباب، يجب أن يتمّ النظر إليه بوصفه قد «أصبح سياسيّاً أكثر من وصفه سيكولوجيّاً-نفسانياً حتّى». يعلن كونراد (2006) عند الحديث بشكل أكثر عموماً عن محفزات تحويل السلوك المنحرف إلى شأن طبي في دراسته الكلاسيكيّة عن الأطفال الذين يعانون من فرط النشاط: «كلّما زادت منافع المؤسسات الراسخة، كلّما زاد احتمال تحويل العوارض إلى شؤون طبيّة».

جدول بفئات التشخيص المتعلقة بالشباب والمراهقين ما بين عام 1952 وبين 2013:

 

DSM-I

DSM-II

DSM- III

DSM- III-R

DSM-IV

DSM IV-TR

DSM-5

الكلمة/العبارة

(1952)

(1968)

(1980)

(1987)

(1994)

(2000)

(2013)

المراهقة

9

39

211

274

206

216

179

الطفولة

32

71

672

762

822

855

1318

التعليم

0

0

6

4

14

16

26

اللعب

0

0

6

12

12

12

75

زمالة اللعب

0

0

27

37

66

59

87

المدرسة

4

2

91

105

158

170

257

المدرسين/التدريس

0

0

8

6

12

19

18

الشباب

0

0

3

6

4

6

23

المجموع الكلّي

45

112

1024

1206

1294

1353

1983

 

المرأة وإعادة إنتاج العلاقات البطريركية-الأبوية

في حين أنّ المتطلبات المتغيّرة للرأسمالية قد سبّبت التوسّع الحديث نسبياً في نشاطات مهن العلاج النفسي التي تركّز على الشباب، فإنّ تأثير تدابير مهن العلاج النفسي قد استمرّ لفترة طويلة على الوحدة الأكبر التي تسمّى الأسرة. لقد خدم مفهوم الأسرة-النواة التقليديّة «Nuclear family» المُعاد تأسيسه في المجتمع الرأسمالي هدف قمع المرأة، خدمة لأسباب اقتصاديّة معيّنة. وتمّ تدعيم علاقات هذا النظام البطريركي-الأبوي بشكل مستمر من قبل مهن العلاج النفسي على مرّ الزمن.

بدءاً من «فرط الشهوة الجنسيّة عند الإناث Nymphomania» ووصولاً إلى «اضطراب الانزعاج السابق للطمث PMDD»، فقد شكّل وصم النساء بأنّهن مضطربات نفسياً آليّة ناجحة، كسب من خلالها ممتهنوا العلاج النفسي الهيبة والقوّة في المجتمع الرأسمالي. فلطالما كان العلاج النفسي مؤسسة قائمة على السطوة البطريركية-الأبويّة، مسؤولة عن تدعيم الدور القائم على الجنس بوصفه أمراً طبيعياً ومسلماً به، وتحويل أيّ انحراف محتمل عنه إلى شأن طبي.

رغم أنّ التشخيصات «المؤنّثة» تفتقر إلى أيّ شيء يبرر صحتها، فقد لعبت دورها في تدعيم الاقتصاد المهيمن والامتيازات الإيديولوجيّة على حساب الأمّهات والراعيات والعاملات الطيعات بشكل متزايد. خلافاً للمؤسسات الأبويّة الأخرى، مُنح العلاج النفسي والمهن الملحقة به ميزة أن يكون قادراً على تحويل الظروف المعيشيّة وخبرات وسلوك النساء إلى أعراض مرضيّة طبيّة. وكما قال خيمنيز (1997) معلقاً على عمليّة التطبيب هذه: «إنّ أفكار العلاج النفسي حول السلوك الملائم القائم على الجنس هي بالكاد فريدة من نوعها. أمّا الفريد بحق فهو دور هذه الأفكار في البنية الاجتماعية للاعتلال: فالعلاج النفسي يقوم، عبر تجسيد نظام التشخيص فيه بشكل مادي، بترجمة الإيديولوجيات القائمة على جنس الفرد، إلى رموز محددة لسلوك المرأة».

لقد ازداد الطلب على النساء في المجتمع النيوليبرالي، وزاد معه عدد الوصمات النفسيّة التي يمكنها أن تطبّق على أولئك الذين يخفقون في أن يكونوا أفراداً منتجين وذوي تنظيم ذاتي. وهكذا ومع وصول خطاب العلاج النفسي إلى حالة الهيمنة، فقد استمرّت الرقابة على الإناث في كونها جزءاً مهماً من نشاط مهن التطبيب النفسي. لقد تمّ تغطية أيّ احتجاج سياسي واجتماعي تقوم به النساء من خلال ربطه بحالة مرضيّة من قبل خبراء الصحّة النفسيّة.

جدول بفئات التشخيص «المؤنثة» ما بين عام 1952 وبين 2013:

 

تحويل أيّ مقاومة ومعارضة إلى مرض

لقد زادت مهن العلاج النفسي، بوصفها قوّة محافظة ومتحكّم بها أخلاقياً داخل المجتمع الرأسمالي، من رأس مالها المهني وسطوتها عبر تعزيز الخطاب العلاجي النفسي الذي يخدم حبس وتعذيب وقتل المعارضة السياسيّة والمجموعات المنحرفة، تحت شعارات «التقدّم الطبي» و «التصرّف وفقاً لمصلحة المريض العليا». يوضّح المعالج النفسي فريدريك هيكلينغ (2002) هذا النقاش: «تستخدم المجتمعات العلاج النفسي بغية الحفاظ على الاستقامة الثقافيّة والإيديولوجيّة». وفي الردّ على الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة الأخيرة، فقد أصبح الدور الإيديولوجي للعلاج النفسي أكثر أهميّة حتّى في هذا الصدد. يقول هيكلنغ في التعقيب على العلاج النفسي الذي تلى أحداث 11 أيلول: «جميع العلاجات النفسيّة هي علاجات مسيسة».

يمكننا كمثال، أن نستدلّ من التوصيف المذكور في الكتيّب للأفراد المصابين «باضطراب الشخصيّة المضادة للمجتمع APD» على الأشخاص الخطرين ومثيري المشاكل للرأسماليّة:

«قد يقيّمون أنفسهم بشكل مضخم ومتغطرس، مثال: يشعرون بأنّ عملهم أدنى من مستواهم ويفتقدون للواقعيّة بخصوص مشاكلهم الحالية ومستقبلهم، ويمكن أن يكونوا متشبثين برأيهم أو واثقين من أنفسهم أو متغطرسين بشكل مفرط. قد يملكون جاذبيّة وسحراً عفوياً وسطحياً، ويمكنهم أن يكونوا بليغين جدّاً وفصيحين خطابياً، مثال: يستخدمون مصطلحات تقنيّة أو مصطلحات ليست مألوفة لدى غير المختصين».

إذاً هؤلاء الأفراد لا يمكن الوثوق بهم، وهم غالباً ما يكسرون القوانين، ومن المرجح أن يكونوا قد سجنوا، وأنّ حياتهم ستكون أقصر من حياتنا. ونقتبس عن هؤلاء من الكتيّب من جديد:

«يمكن أن يتم صرفهم من الخدمة العسكرية، وقد يفشلون في دعم نفسهم ذاتياً، وقد يصبحون فقراء بل وحتّى مشردين، أو قد يقضون الكثير من سنين حياتهم في السجن. الأفراد المصابون باضطراب الشخصيّة المضادّة للمجتمع هم أكثر عرضة من الناس العاديين ليموتوا بوسائل عنيفة، مثل الانتحار والحوادث العرضية أو مقتولين».

وبناء عليه، عندما يشكّل الأشخاص المرضى خطراً على المجتمع، فإنّ عمليات القمع والتعذيب والاستجواب العنيف مسموحة ضدهم، وخاصّة بوجود «خبراء». فكما قال ويلش (2010) عن الانخراط العلني للجمعيّة الأمريكيّة للطبّ النفسي في ممارسات التعذيب: «متمسكين بقشور علميّة، يدّعي المدافعون عن الاستجواب «المحسّن» – تقنيات التعذيب التي انفضح استخدامها علنياً في عهد إدارة بوش – بأنّ أولئك الذين يستخدمون مثل هذه التقنيات هم من «الخبراء» و «المحترفين» الملتزمين بالأمن الوطني. وعليه فقد ينظر بعض المراقبين إلى كامل برامج الاستجواب، وإلى المشاركين فيها، على أنّها برامج إنسانيّة تبعاً لإشراف علماء نفس مرخصين عليها». يبدو بأنّ حالة الهيمنة التي يحجزها العلاج النفسي في المجتمع النيوليبرالي سوف تجعل من أيّ شكل من أشكال تحدي أدوات الدولة الإيديولوجيّة أمراً عقيماً.   

جدول بالكلمات/العبارات المتعلقة بالاحتجاج ما بين عام 1952 و2013:

 

DSM-I

DSM-II

DSM- III

DSM- III-R

DSM-IV

DSM IV-TR

DSM-5

الكلمة/العبارة

(1952)

(1968)

(1980)

(1987)

(1994)

(2000)

(2013)

ارتياب ووهم الاضطهاد

10

7

31

19

5

3

14

العنف/العنفيّة

1

4

38

40

41

43

148

التحكّم بالذات

0

0

0

1

1

1

10

الحفاظ على النظام/الشرطة

0

0

4

4

6

5

7

الاجتماعيّة/السياسة/السياسيّة

0

0

6

7

8

9

13

إرهاب/ترهيب

0

0

1

1

2

2

9

المجموع الكلّي

11

11

80

72

63

63

201

 

تحدّي هيمنة العلاج النفسي

رغم مواجهة الناس الذين يعيشون في البلدان منخفضة الدخل لمستويات مرتفعة من الصعوبات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، فإنّ هناك أسباباً وجيهة لكونهم يختبرون اضطرابات نفسيّة أقل ويملكون فرصة أكبر في التعافي من ظروفهم على المدى الطويل، منهم من نظرائهم في الدول ذات الدخول العالية (وايتيكر 2010). السبب هو أنّهم إمّا ليسوا معرضين، أو معرضين بشكل ضعيف، لخبراء الصحة النفسية المدربين غربياً والجاهزين لتجيير سلوكهم وتحويله للدلالة على إصابتهم باعتلال نفسي. فالقاطنون في الغرب هم عرضة أكثر من غيرهم، ممّن امتدّت العولمة النيوليبرالية لتعديهم، هم المتلقون للمؤسسة النفسيّة الفاشلة التي تستمر كميّة «اعتلالاتها النفسيّة» بالازدياد. وليس ذلك بسبب جائحة صحيّة بل هو أحد أشكال تطبيب السيطرة الاجتماعية التي يحرّض عليه رأس المال النيوليبرالي. ولهذا وكما قال بورستو (2015): «يجب أن نوقف مؤسسة العلاج النفسي»، ونوقف معها المهن الملحقة بها والتي ارتبطت بمحاولة السيطرة على سلوكنا كجزء من خطابها في العلاج النفسي.

هناك بعض الإجراءات السريعة التي يمكننا أن نقوم بها في سبيل تحدّي هذه المؤسسة التي لا تقف إلى جانبنا ولا تهتم بنا، وهي:

أولاً: علينا أن نتخلّص من القوّة الإلزاميّة التي يتمتّع بها العلاج النفسي. يتضمن ذلك سلطة إيقاع الحبس وفرض العلاج بالصدمات وبالعقاقير، حيث أنّ هذه القوّة لم تخدم سوى سطوة إجراءات الرقابة والحفاظ على النظام التي يتمتّع بها نظام العلاج النفسي. وحتّى إن كنّا لا نزال نؤمن بالعلاج النفسي، فكيف يمكن تخيّل وجود التعذيب والحبس في أيّ نظام رعاية صحيّة معاصر؟

ثانياً: يجب سحب حقّ وصف الأدوية من مؤسسة العلاج النفسي. فهم يريدوننا أن نصدّق، عبر وصفهم للأدوية التي «لا تنفع» والتي تتربّح منها شركات الأدوية لمجرّد تسميتها نفسيّة، بأنّ لديهم امتياز استخدام صدمات الأنسولين أو الصدمات بالكهرباء التي يجب أن تكون في متحف الرعب وليس في المستشفيات.

ثالثاً: أن نكوّن التحالفات مع الناشطين اليساريين ومع الأكاديميين الذين يقفون في مواجهة هذه المؤسسة، وذلك بهدف مقارعة الأكاديميين المتواطئين معها والذين لا ينفكون يعيدون إنتاج ذات الهراء عن الصحّة النفسيّة بما يلائم دوماً النخب الحاكمة.

ويبقى أنّنا بحاجة على المدى الطويل إلى أن نعيد منح الحياة للنظريات الاجتماعيّة التي تعمل ضمن الأطر النقدّية. فنحن سنفشل في واجبنا العام كناقدين وكضمير للمجتمع إن لم نشجّع الأبحاث على المضي إلى أبعد من الخبرات الآنيّة، وعلى التفكير النقدي الضروري لبناء قاعدة نظريّة قادرة على استيعاب مجموعة الأفكار التي تحلّل وتشرح القوى الاجتماعية والاقتصاديّة، التي تؤثّر على المجموعات.

لقد ازدهرت مهن العلاج النفسي في العقود الأربعة الماضية بهذا الشكل المهيمن لسبب واحد، وهو لا يتعلق بنجاحها لا بالعلاج ولا بالتشخيص ولا بتحقيق أيّ تقدّم في الصحّة النفسية. لقد ازدهرت لأنّها متحالفة مع متطلبات الرأسماليّة النيوليبراليّة.

آخر تعديل على الأربعاء, 15 تشرين2/نوفمبر 2017 14:34