تقرير اللجنة التحضيرية للمؤتمر الاستثنائي للحزب الشيوعي السوري

افتتح المؤتمر الاستثنائي للحزب الشيوعي السوري أعماله يوم 18/12/2003، بحضور مندوبي منظمات الحزب كافة، والتي سبق لها أن طالبت القيادة السابقة للحزب ـ وعبر عشرات الرسائل ـ بعقد المؤتمر الاستثنائي لحل الخلاف الناشئ في الحزب، والتي تمثل 56.2% من تعداده عشية المؤتمر التاسع، بالاستناد إلى المادة 22 من النظام الداخلي، وقد انتخب لعضوية المؤتمر (105) مندوبين على أساس اللائحة الانتخابية التي أقرتها اللجنة التحضيرية وفق مبادئ النظام الداخلي.

وبعد انتخاب هيئة رئاسة المؤتمر وإقرار جدول عمله، قدمت اللجنة التحضيرية تقريرها إلى المؤتمر (عن الفترة ما بين المؤتمر التاسع وحتى الآن) وقد شارك في النقاش العام للتقرير 49 رفيقاً.

ومن خلال النقاش العام قيّم الرفاق المندوبون أهمية الأفكار والمقولات والاستنتاجات التي تضمنها تقرير اللجنة التحضيرية للمؤتمر الاستثنائي وأهمية انعقاده، بهدف كسر مسلسل الانقسامات والخروج من الأزمة نحو وحدة جميع الشيوعيين السوريين في حزب شيوعي سوري واحد يلعب دوره الوظيفي ـ التاريخي في حياة البلاد ويلغي الحالة الفصائلية للشيوعيين.

وفيما يلي النص الكامل لتقرير اللجنة التحضيرية الذي أقره المؤتمر:

ينعقد مؤتمرنا الاستثنائي تحت شعار: «كرامة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار»، هذا الشعار الذي أُطلق خلال الحملة الانتخابية الأخيرة لمجلس الشعب، والذي خاض رفاقنا في مختلف المحافظات الانتخابات تحت رايته.

إن كرامة الوطن والمواطن، هي استمرار وتطوير بآن واحد لشعار: «الدفاع عن الوطن، والدفاع عن لقمة الشعب» في الظروف الجديدة.

استمرار لأنه يتضمن فكرة الدفاع عن الوطن، والدفاع عن لقمة الشعب. ويسير إلى الأمام لأن الحياة أثبتت أن الدفاع عن الوطن في الظروف الجديدة، ليس دفاعاً بشكل مباشر ضد التهديدات الخارجية فقط، لأن خط المواجهة مع العدو الخارجي، خاصة بعد المتغيرات العالمية والإقليمية في العقد الأخير، أصبح يمر عبر الاقتصاد الوطني، والمجتمع ككل. لذلك فإن كرامة الوطن هي وعاء يحمل الكثير من المعاني السابقة منها والحالية التي تتطلبها ظروف الصراع الجديدة.

أما كرامة المواطن، فأول عناوينها هو: الدفاع عن لقمة الشعب، ولكن التجربة والحياة برهنت، أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، وللمتطلبات المعنوية أهمية لا أقل من الحاجات المادية أحياناً، لذلك تصبح كرامة المواطن شعار جامع لكل المضامين المتعلقة بالمطالب الاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية للمجتمع وأوسع الجماهير الشعبية.

إن السير إلى الأمام باتجاه تطوير الشعار لا يحمل انقطاع عن الماضي، ولكنه يدفعه ويصوبه نحو الحاجات الجديدة.

لقد كان حزبنا دائماً سباقاً في صياغة الشعارات المكثفة التي تحمل المضامين المتنوعة والمتعددة الجوانب السياسية على مر تاريخه من «وطن حر وشعب سعيد»، إلى «الدفاع عن الوطن، والدفاع عن لقمة الشعب»، وصولاً إلى شعارنا اليوم «كرامة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار»!، وهذا يؤكد أننا ورثة كل ما هو حي وأصيل في تراثنا الثوري النابع من تجربتنا المستندة في رؤيتها إلى مجمل تجارب ونضالات الحركة الشيوعية العالمية. فكما أن «الدفاع عن الوطن، والدفاع عن لقمة الشعب» كان تطويراً لشعار الحزب التاريخي: «وطن حر وشعب سعيد»، فشعارنا الحالي هو استمرار وتطوير لكل الشعارات السابقة.

أولاً: لماذا انعقاد المؤتمر الاستثنائي؟

  • شعار: «كرامة الوطن والمواطن، فوق كل اعتبار» هو استمرار وتطوير بآن واحد لشعار: «الدفاع عن الوطن، والدفاع عن لقمة الشعب» في الظروف الجديدة.. وتطوير لكل الشعارات السابقة
  • «لا انقسام، ولا استسلام»!.. دفاعاً عن الحزب.. وصد للنهج التصفوي للقيادة السابقة..
  • نحو استعادة الحزب لدوره الوظيفي ــ التاريخي.

المادة 22 من النظام الداخلي:

  • يحق للمنظمات التي تضم أكثر من نصف أعضاء الحزب على أساس التمثيل في المؤتمر الأخير أن تطلب من اللجنة المركزية الدعوة لعقد مثل هذا المؤتمر خلال ثلاثة أشهر، فإن لم تفعل دعت هي لعقد المؤتمر». 
  • تجاوز عدد المطالبين بعقد المؤتمر الاستثنائي على أساس التمثيل في المؤتمر الأخير، أكثر من نسبة 50 % بكثير.
  • إن عقلية الإقطاع السياسي أوصلت القيادة السابقة إلى اختراع صيغة: «وضع نفسه بيده خارج الحزب»! ولكن الذي تبين أن القيادة طبقت مقولة «تطهير الحزب» عبر تصفية خيرة كادرات حزبنا وتطفيشهم وداست على النظام الداخلي ومبدأ المركزية الديمقراطية وحقوق العضوية وصلاحيات الهيئات وتنكرت لمواصفات النزاهة الشيوعية ووزعت الامتيازات التي تسمح بها ظروف التعاون يميناً وشمالاً لشراء الضمائر وتقاعست عن المهام الوطنية والطبقية المنوطة بالحزب.

لقد عشنا جميعاً مرحلة التحضير للمؤتمر التاسع ومجرياته ونتائجه. والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح على كل الشيوعيين هو: لماذا تصرفت المجموعة المتنفذة في القيادة السابقة بالشكل الذي تصرفت به، فهي قد افتعلت معركة تنظيمية غير مفهومة، أدت إلى نتائج وعواقب وخيمة أثرت على الحزب سلباً، وأعاقت تطور الحركة الشيوعية في البلاد، هذه الحركة التي كانت الجماهير الشعبية تعوّّل عليها الكثير من أجل النضال لتحقيق مطالبها وطموحاتها فخيبت آمالها بالشكل الذي سارت عليه.

لم تلتزم القيادة بالنظام الداخلي بل ضربت به عرض الحائط، وافتعلت معركة ضد أعداء وهميين في الداخل كي تتهرب من تنفيذ سياسة الحزب المصاغة في المؤتمرات المتتالية وفي وثائقه المختلفة وصولاً إلى قرارات المؤتمر التاسع نفسه.

لم يكن خافياً على الكثير من الرفاق سلوك القيادة السابقة خلال التحضير للمؤتمر التاسع، تجاه كوادر الحزب عامة، وخاصة في منظمة دمشق التي أرادت لها هذه القيادة أن تكون الضحية الأولى لسلوكها وقراراتها القمعية. مع ذلك، فقد أصر الرفاق المتضررون من سلوك القيادة على الالتزام بتقاليد العمل الحزبية المبدئية، ولم يتعاملوا معها من منطق رد الفعل، واستطاعت هذه القيادة، بفضل تحكمها بمقاليد الأمور، أن تؤمن أكثرية شكلية في المؤتمر التاسع عبر جملة من الألاعيب والتطبيقات كي تصفي بدون سبب أو مبرر يطرح علناً، جملة من الكوادر قارب نصف أعضاء اللجنة المركزية السابقة، للمؤتمر التاسع، ومع وضوح التلاعب الذي زوّر إرادة أعضاء الحزب، مارس الرفاق الذين أُبعدوا عن الهيئات القيادية أقصى درجة من ضبط النفس، وأعلنوا التزامهم بنتائج المؤتمر، راغبين بكسر التقاليد السابقة للأزمة التي كانت تجعل «المغلوب» عادة (يضب أغراضه ويمشي)، وارتضى  الرفاق الالتزام بنتائج المؤتمر رغم ملاحظاتهم الكثيرة عليها، راغبين في الحفاظ على وحدة الحزب، مما فاجأ المجموعة المتنفذة في القيادة وجعلها تلجأ إلى نقل حملة التصفيات إلى مستوى اللجان المنطقية فوراً بعد انتهاء المؤتمر، وفي هذه الحالة، أصر الرفاق على البقاء في حزبهم بعد سلسلة القرارات المجحفة بحقهم من طرد وفصل وإبعاد وحل هيئات بالجملة، بشكل مخالف للنظام الداخلي، رافعين شعار: «لا انقسام ولا استسلام»، مما أدى إلى زيادة الاستياء في صفوف جميع المنظمات التي مستها أولم تمسسها موجة القمع، مما انعكس على نتائج انتخابات اللجان المنطقية  التي جرت بعد المؤتمر التاسع، والتي يمكن اعتبارها أنها كانت تصويتاً حزبياً جماهيرياً على عدم الموافقة على سلوك القيادة بعد المؤتمر التاسع، مما اضطرها ولأول مرة في تاريخ كل أزمة الحزب، أن تلجأ إلى:

  1. حل اللجان المنطقية المنتخبة بإشرافها، مثل اللاذقية، طرطوس، حماة، دمشق، بدون أي سبب مقنع، وتعيين لجان منطقية لا تُمثل فعلياً أحد. 
  2. إبعاد عدد كبير من الكادرات والرفاق عن المنظمات وعن عملية الانتخاب تحت الحجة المشهورة: «وضع نفسه بيده خارج الحزب». وذلك من أجل تأمين انتخاب قيادات لاتعرف إلا أن تقول كلمة «نعم»، ولو على حطام وأنقاض منظمات باسلة بأكملها، وهذا ماجرى في الجزيرة وحمص.
  3. تجاوزت القيادة سلطتها بشكل تعسفي ومخالف للنظام الداخلي من أجل إحداث تعديلات جزئية في بعض اللجان المنطقية المنتخبة حديثاً بإشرافها عبر إبعاد البعض، وضم البعض الآخر للوصول إلى أكثرية شكلية في اللجان المنطقية، وهذا ماجرى في حوران وريف دمشق.

وهكذا تصورت المجموعة المتنفذة في القيادة أنها سيطرت على الحزب بقوة القرار، ولم يشغلها شاغل منذ انتخابها إلا التصفيات الداخلية التي تحولت إلى مبرر لعدم ممارستها لمهامها، ولتبرير عدم تطبيقها لقرارات المؤتمر التاسع المتعلقة بتنفيذ سياسة الحزب.

ومما يؤسف له، أن القيادة السابقة للحزب، ليس فقط لم تؤد واجبها تجاه تنفيذ سياسته، ولم تكتف بإدارة ظهرها كلياً لواجب العمل على وحدة الشيوعيين السوريين، مستمرة بالإصرار على أنها الحزب الأم، بل فبركت تهماً خطيرة تهدف إلى اختلاق أعداء وهميين يبررون المعارك الداخلية، من جهة ويبررون الإحجام عن النضال لتنفيذ سياسة الحزب من جهة أخرى.

إن عقلية العائلة والإقطاع السياسي أوصلت القيادة إلى رفع صيغة «وضع نفسه بيده خارج الحزب» ولكن الذي تبين أن القيادة طبقت مقولة «تطهير الحزب» عبر تصفية خيرة كادرات حزبنا وتطفيشهم وداست على النظام الداخلي ومبدأ المركزية الديمقراطية وحقوق العضوية وصلاحيات الهيئات وتنكرت لمواصفات النزاهة الشيوعية ووزعت الامتيازات التي تسمح بها ظروف التعاون يميناً وشمالاً لشراء الضمائر وتقاعست عن المهام الوطنية والطبقية المنوطة بالحزب بعد المؤتمر التاسع.

كل ذلك أدى إلى خلق أزمة عميقة في الحزب اصطنعتها القيادة السابقة عن وعي وسابق تصميم بسبب عدم إدراك لمهام المرحلة من خلال ما طرح من مستجدات انعطافية على الساحة السورية واستمرارها بالأشكال والأساليب القديمة في فهم وتطبيق المضامين الجديدة، التي لم تفهم أو تدرك أبداً عندها، بل فهمت وأدركت عند الكادر الرئيسي في الحزب مما أدى إلى مواجهة معه بسبب نمو وعيه الفكري والسياسي والذي أعلن شعار «لا انقسام ولا استسلام»، وطالب القيادة عبر عشرات الرسائل (من دمشق، الجزيرة، حماة، اللاذقية، طرطوس، حمص، ريف دمشق..إلخ..) إلى الاحتكام للنظام الداخلي وعدم السماح لأي كان بخرقه سواء على مستوى الهيئات أو الأفراد ومعالجة الوضع الناشئ بالحزب بروح رفاقية ومسؤولية عالية تجاه الحزب والوطن في ماضيه وحاضره ومستقبله وليس من خلال تأمين الولاء، بل على أساس التمييز بين الالتزام والاستزلام.

لكن القيادة تابعت مشروعها الانقسامي ـ التصفوي من خلال:

  1. إرهاب قواعد الحزب ومحاولة منعها من إبداء أي رأي حول ما يجري داخل الحزب وذلك عبر رسائل داخلية تطلب الولاء لها وتهدد كل من يخالفها الرأي بالفصل والتجميد وبمقولة «وضع نفسه بيده خارج الحزب» ويمكن العودة إلى رسالة القيادة الأولى تحت عنوان «بلا هوادة» التي لم تتضمن شيء عما دار في المؤتمر التاسع، بل كانت مليئة بالمغالطات والمصطلحات والنعوت الغريبة عن منظومة القيم الشيوعية.
  2. عدم الرد على رسائل المنطقيات وكادر الحزب الرئيسي التي طالبت القيادة بالتعقل ووضع المهمات الحزبية أمام الرفاق بدل الإصرار على خلق عدو وهمي داخل الحزب لا يفيده بشيء سوى تراجع دور الحزب داخلياً وعربياً وعالمياً وقد تجلت عقلية الإقطاع السياسي لدى قيادة الحزب بأنها ليس فقط لم تكلف نفسها عناء الرد على رسائل الاستفسار والانتقاد الموجهة إليها والتي تضمنت اقتراحات ملموسة لحل الوضع الناشئ في الحزب، بل تجرأت القيادة على إخفاء حقيقة وصول الرسائل إليها، فمن جميع الرسائل الموجهة للجنة المركزية لم يعرض إلا القليل جداً منها على اللجنة المركزية، وواضح كم في ذلك من مخالفة للنظام الداخلي وحقوق أعضاء الحزب وهيئاته.
  3. لقد فقدت القيادة السابقة احترامها أمام القواعد من خلال موقفها اللامبدئي من نتائج انتخابات المنطقيات التي أشرفت عليها بنفسهاعلى مستوى البلاد. فكل رفيق عاش مجريات الأمور من خلال منظمته يعرف كيف حضرت القيادة للانتخابات وكيف قادت المؤتمرات وكيف تنكرت للنتائج التي أثبتت أن غالبية قواعد الحزب لا تثق بالقيادة ولا بالموالين الذين تستقتل من أجلهم ومن أجل فرضهم على القواعد..
  4. بعد هزيمة القيادة وعزلتها تنظيمياً، وبعد أن أوغلت في إلغاء عدد كبير من نتائج المؤتمرات الانتخابية وتعيين منطقيات من الراسبين في الانتخابات /خصوصاً من المركزيين الذين سقطوا/، وبعد إضعاف قدرة الحزب على أداء دوره المطلوب في المسألة الوطنية والاجتماعية والديمقراطية في البلاد، رأينا بعض رموز القيادة سواء داخل بعض المنظمات أو على صفحات «صوت الشعب» يطلبون صراحة من الرفاق الذين يتصدون لانحراف القيادة عن شعار «الدفاع عن الوطن والدفاع عن لقمة الشعب» بأن يخرجوا من صفوف الحزب ويشكلوا حزبهم الخاص بهم!!!
  5. لكن القيادة فاتها أن الشيوعيين الذين أمضوا جل حياتهم في حزبهم الشيوعي السوري المجيد رفعوا شعارهم «لا انقسام ولا استسلام»، وأنهم ليسوا أُجراء عند القيادة أو عبيداً تطردهم إلى «مالك» آخر.. إنهم من يتمسكون بحزبهم كمحافظتهم على أحداق عيونهم.. كما أن تطور النضال سيثبت من هو الطارئ على الحزب ومن هو الرافع الحقيقي لراية الماركسية اللينينية. راية الوطنية والدفاع عن قضايا الجماهير في سورية.

إن الدعوة لمؤتمر استثنائي للحزب ليس الهدف النهائي منها إطلاقاً إزاحة قيادة واستبدالها بقيادة أخرى، بل معالجة الوضع الناشئ والأزمة وبحث جذورها وأسبابها في الحزب ووقف مسلسل التصفية والتنكيل الذي يطال اليوم أوسع صفوف الكادر الحزبي، ووقف تراجع دور الحزب في أداء مهامه الوطنية والطبقية في حياة البلاد، ومعاودة السير نحو وحدة جميع الشيوعيين السوريين بعيداً عن عقلية الولاء والنفعية والمكاسب أو المتاجرة باسم العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين، ومن هنا فالأزمة الحالية في الحزب هي من صنع القيادة وهي تتحمل المسؤولية الكبرى فيما وصل الحزب إليه ويجب أن تحاسب على ما فعلت بالحزب وفق المبادئ اللينينية في التنظيم بعيداً عن أية رغبة في التصفية أو الإبعاد والتنكيل كما تفعل القيادة اليوم بخيرة كادرات الحزب ولن يكون الانتقام أبداً بين أهداف الذين طرحوا عقد مؤتمر استثنائي للحزب، بل الوصول إلى حزب شيوعي طليعي يبرر وجوده الموضوعي في حياة البلاد.

لقد استندت الدعوة للمؤتمر الاستثنائي إلى المادة الثانية والعشرين، البند الثالث من النظام الداخلي التي تنص على أنه:

«يحق للمنظمات التي تضم أكثر من نصف أعضاء الحزب على أساس التمثيل في المؤتمر الأخير أن تطلب من اللجنة المركزية الدعوة لعقد مثل هذا المؤتمر خلال ثلاثة أشهر، فإن لم تفعل دعت هي لعقد المؤتمر». لقد تجاوز عدد المطالبين بعقد المؤتمر الاستثنائي على أساس التمثيل في المؤتمر الأخير، سواء كان عبر اللجان المنطقية أو الفرعية أو الرفاق فردياً، والذين يحملون بطاقات حزبية أكثر من نسبة 50 % بكثير. والملفت للنظر أن القيادة السابقة لم تتجاهل جميع طلبات الداعين فقط بل لم تستطع أيضاً أن تنكر وثائقياً حجمهم وشرعية مطلبهم.

فقد رفعت العديد من المنظمات المنطقية والفرعية طلبات إلى اللجنة المركزية بعقد مؤتمر استثنائي، وكانت الدعوة الأولى قد جاءت من اللجنة المنطقية في اللاذقية (6 من أصل 9) في 23/8/2001، وتلاها دعوة اللجنة المنطقية في حماة (10 من أصل 11) في 5/10/2001، ثم اللجنة المنطقية في طرطوس (5 من أصل 7) في 4/11/2001، ثم في دمشق في 1/2/2002، وفي الوقت ذاته، رفعت جملة من المنظمات المبعدة، فرعية كانت أو منطقية، رسائل تطالب بالمؤتمر الاستثنائي: (الجزيرة، حمص، درعا، السويداء، ريف دمشق، إدلب، دير الزور)، وكذلك العشرات من الرفاق بشكل فردي عبر منظماتهم أو مباشرة، وبعد انتهاء المهلة القانونية لآخر رسالة مرسلة حسب النظام الداخلي، اجتمع ممثلو المنظمات  المنطقية والفرعية المطالبة بالمؤتمر الاستثنائي في أوائل كانون الثاني 2003، وتوجهوا إلى القيادة للمرة الأخيرة وطالبوها بالاستجابة لنداء العقل والواجب وعقد المؤتمر الاستثنائي. وبعد استنفاد كل فرص الحوار مع القيادة السابقة، شكل ممثلو المنظمات لجنة تحضيرية لعقد المؤتمر الاستثنائي بتاريخ 6/6/2003 ووجهوا نداء إلى جميع أعضاء الحزب الشيوعي السوري يناشدونهم العمل للحفاظ على وحدة الحزب، والالتزام بالنظام الداخلي وعقد المؤتمر الاستثنائي لإخراج الحزب من أزمته التي سببتها أساليب القيادة وأفعالها.

والسؤال المطروح الآن: ألا يعني عقد المؤتمر الاستثنائي التخلي عن شعار «لا انقسام ولا استسلام»؟!، حتماً لا، لماذا؟!

أولاً: أكدنا دائماً، وأثبتت الممارسة: أنه لا يوجد الآن في سورية حزب شيوعي كفاحي حقاً يؤدي دوره الوظيفي. وبالتالي لا يمكن الانقسام عن شيء غير موجود أصلاً.

ثانياً: إذا أقر المؤتمر الاستثنائي إنهاء أعماله، فهذا سيعني أنه قد أعلن تشكيل فصيل جديد ينضم إلى جانب الفصائل الثلاثة الأخرى الموجودة، وهذا كما قلنا، ليس شرفاً كبيراً لنا، لأن هدفنا أسمى بكثير، والوصول إليه أصعب بكثير.

ثالثاً: إن عملية استعادة الدور الوظيفي للحزب، هي عملية تاريخية يجب أن تكون جلسة مؤتمرنا الاستثنائي هذه حلقة أساسية فيها، بل نقطة انطلاق لها. لذلك علينا تحمل مسؤولية قرار خطير له علاقة بمستقبل الحركة. فإما أن نتحول إلى فصيل لن يزيد الحركة إلا تشرذماً، وإما أن نتأنى، وأن ندرس الحالة بعمق وأن نستمر بالاستعادة التدريجية للدور الوظيفي للحزب.

رابعاً: لا شك أن لدينا كل مقومات التنظيم الجدي، ونكوّن حالة جدية، تتجاوز بكثير من المؤشرات الحالات المتبقية في الفصائل الأخرى. ونتحول بالتدريج إلى حزب شيوعي يؤدي دوره الوظيفي كاملاً، ولكن ذلك مرتبط بجملة ظروف لها علاقة بآفاق التنظيمات الشيوعية الموجودة حالياً، وبآفاق تطور الوضع السياسي. لذلك من السهل إعلان الحزب، ولكن ليس من البساطة ممارسة دوره، وكي لا نخلق أوهاماً عند أحد، يجب قول الحقيقة ووضع المهمات الجدية التي تحولنا إلى حزب حقيقي، إن مؤشرات ذلك واضحة للعيان، كما هو واضح عكسها عند الآخرين، فحالتنا يزداد تأثيرها السياسي واحترامها الجماهيري وإمكانية توسعها التنظيمي.

خامساً: ترتدي عملية توحيد الشيوعيين السوريين أهمية كبرى في مجرى استعادة الحزب لدوره الفكري والسياسي والجماهيري والتنظيمي لذلك لايمكن النظر إلى حالتنا وإلى مؤتمرنا الاستثنائي، إلا بالتوازي مع عملية  توحيد الشيوعيين السوريين التي أطلقها ميثاق الشرف في تاريخ 15/3 /2002

ونحن ننظر إلى عملية التوحيد، إلى أنها عملية بناء ما تهمش وتهشم خلال ثلاثين عاماً من الصراع الانقسامي.

 ثانياً: وحدة الشيوعيين السوريين

خلال ثلاثين عاماً من الانقسامات المتوالية، لم تَخِفْ رغبة الشيوعيين السوريين في توحيد صفوفهم، ولكن هذه الوحدة، رغم كل الأمنيات، لم يكتب لها التحقيق على أرض الواقع، بل بالعكس، كانت حالة التشرذم تزداد، وكانت الانقسامات تتوالى، وعند كل مرحلة منها كانت أطرافها تزداد انقساماً مرة بعد أخرى،

أي أن الواقع الموضوعي والذي من ضمنه الدور المعرقل لبعض التيارات في الفصائل كان أقوى من رغبة الشيوعيين السوريين في الإبقاء على صفوفهم موحدة، وخلال كل هذه الفترة كثرت المبادرات التوحيدية التي لم تعط أي نتائج ملموسة، وكان ما يميز هذه المبادرات أنها كانت تأتي من فوق، وكان دافعها الأساسي اعتبارات تكتيكية بالدرجة الأولى، هدفها تخفيف ضغط القواعد بهذا الاتجاه، أو تحميل الأطراف الأخرى مسؤولية عدم التجاوب مع هذه المبادرات من أجل كسب نقاط في عملية الصراع الحزبي الجاري على قدم وساق.

وكان من المبادرات الهامة، أولاً: نداء الرفيق خالد بكداش في عام 1987 الذي لم يتحول إلى واقع ملموس بسبب عدم نضج الظروف الموضوعية الملائمة، مع أن السقف الذي اقترحه كان لا يتجاوز الأعمال المشتركة بين الشيوعيين المنقسمين إلى فصائل. وثانياً: نشاط الرفيق يوسف فيصل، فإن دراسة تجاربه «التوحيدية» تبين أن ما جرى بعد مؤتمره السادس كان إلحاقاً لا توحيداً، وعبر صفقات لم تجلب عناصر كثيرة إلى التوحيد وبقيت عملية فوقية، والإلحاق أبقى على الآراء المختلفة، ولم تستطع المنابر التي أراد منها الرفيق يوسف الإعلان عن حالة ديمقراطية أن تعكس آراء الرفاق الملحقين. وهذا ما أبقى فتيل الانفجار يعسعس ولم يؤد إلا إلى زيادة عدد المنابر في الحزب ضمن حالة تجاور فيما بينها لم ترتق إلى مستوى وحدة إرادة وعمل حقيقية تسمح بتكون حزب حقيقي يلعب دوره المنوط به وظيفياً. ويمكن القول الآن، أن هذه الأشكال الوحدوية التي تمت في هذا الفصيل، تحولت في ظروف التطورات السياسية اللاحقة إلى كابح لتطور الحزب ونموه وتأثيره، أي أنها أدت عكس الغرض المعلن عنه. لذلك ما يمكن استنتاجه من كل ما سبق هو: أن هذه المبادرات والوحدات لم تأت ثمارها للأسباب التالية:

  1. استمرار التراجع العام للحركة، وبقاء الأسئلة المطلوب الإجابة عنها دون جواب وانتظار لتحسمها الحياة، مما فتح باب الاجتهادات الكثيرة التي أسست للعقلية الفصائلية.
  2. كانت هذه المبادرات والتجارب التي جرت من فوق فقط، لم تصل إلى أعماق الشيوعيين (تحت)، ولم تستطع تحريك قواهم الخلاقة، وكانوا عملياً في غربة عنها، مما لم يسمح بتخفيف حالة الخندقة.
  3. إن الوقائع تؤكد للباحث الموضوعي، أن كل هذه المبادرات كانت تجري ضمن اعتبارات تكتيكية، لم تكن تضع نصب أعينها تكوين حركة شيوعية حقيقية، وإنما كانت انعكاس لحالات انتظارية هدفها كسب الوقت انتظاراً لما سيأتي به القدر.
  4. لقد كانت الأزمة انعكاساً للتراجع العام، أي انحسار تأثير الحزب الجماهيري، هذا الأمر الذي لم يدركه أحد منذ البداية وحتى فترة قريبة. لذلك لم تخرج المعالجات عن إطار دائرة الحزب نفسه، دون بحث أزمة علاقته مع الجماهير التي أدى ابتعاده التدريجي عنها إلى خروجه منها. ولو كان مستوى الوعي المعرفي آنذاك قادراً على إدراك هذه النقطة، لكان الخروج من دوامة الأزمة ممكناً عبر محاولة تلمس طريق العودة والبقاء بين الجماهير، لكن هذا لم يحدث، مما زاد الطين بلة.
  5. والنتيجة،أن الحزب، ممثلاً اليوم بفصائله المختلفة، فقد عبر ثلاثين عاماً دوره الوظيفي، أي دوره السياسي الاجتماعي كممثل لمصالح الطبقة العاملة وأوسع الجماهير الشعبية.

وإذا كنا نطرح اليوم موضوع تحقيق وحدة الشيوعيين السوريين فإننا لانطرحه انطلاقاً من اعتبارات تكتيكية، وإنما انطلاقاً من رؤيتنا المستمدة من تطور الوضع العالمي ولدور الحركة الشيوعية العالمية في الظروف الجديدة. لذلك قلنا عند إطلاق «ميثاق الشرف» في 15/3/2002:

»اليوم، نحن والعالم كله في لحظة انعطاف. وهذه اللحظة تحمل دلالة هامة، وهي أن الواقع الموضوعي، اتجاهه يتطابق لأول مرة منذ عقود مع اتجاه رغبة الشيوعيين السوريين، مع اتجاه الثوريين بشكل عام في العالم كله، هناك انعطاف في الحركة الثورية العالمية، ولهذا الانعطاف تباشير وملامح بانت اليوم، لذلك فإن إمكانية تحقيق وحدة الشيوعيين السوريين اليوم أصبحت إمكانية واقعية، إمكانية حقيقية، يمكن أن تجري على أرض الواقع، لكن لن تجري وحدها، بل تحتاج إلى عمل وتحضير وتحقيق ونضال«.

 كم أن ملامح هذا الانعطاف على المستوى المحلي، بدأت تتكون بوضوح، فالحركة الجماهيرية تتنامى وينعكس ذلك في حركة الشارع المتنامية، ولعل من أهم الدلائل هو اهتمام مغاردي الحزب تاريخياً بحالتنا والتفافهم المتزايد حولنا.

ومن ثم جاء الاجتماع الوطني الأول لوحدة الشيوعيين السوريين في 18/10/2002 وعالج هذه النقطة معالجة معمقة حين قال:

»لقد مضت سبعة أشهر تماماً على إعلان ميثاق شرف الشيوعيين السوريين، ونجتمع اليوم كشيوعيين من كل أنحاء سورية، ومن كل الطيف الشيوعي المبعثر على تنظيمات مختلفة وخارجها، كي نقرر خطوتنا اللاحقة. «

لقد عبر الميثاق عن حالة تستجيب لحاجة موضوعية ملحة ألا وهي توحيد الشيوعيين السوريين في تنظيم طليعي يلعب دوره الاجتماعي والسياسي المطلوب منه. وقد كان هذا الميثاق أساس لفتح الحوار في هذا الاتجاه من خلال تأكيده على جملة من القواسم المشتركة الدنيا التي لابد منها لتحديد نقاط الانطلاق الضرورية لهذه العملية.

وقد استنتجت لجنة متابعة تنفيذ ميثاق شرف الشيوعيين السوريين أن الميثاق قد أنجز هدفه الأولي بنجاح وأصبح المطلوب اليوم هو البحث بشكل مشترك عن الخطوة اللاحقة التي تعزز السير في هذا الاتجاه، أي الحوار من أجل الوحدة.

لقد قلنا منذ البداية ونؤكد اليوم أن هدفنا لم يكن بحال من الأحوال تكوين فصيل شيوعي جديد إلى جانب الفصائل الموجودة وهو هدف لو أردناه قريب المنال، ولكن هدفنا كان منذ البداية إعادة تكوين ذلك الحزب الشيوعي الماركسي ـ اللينيني ذي البرنامج الاجتماعي الواضح الذي يحل مكان جميع الفصائل الموجودة.

وحين قلنا ذلك ظن البعض أننا نناور تكتيكياً ضمن عقلية الأزمة نفسها وظن البعض الآخر أن ما نسعى إليه وهْمٌ مستحيل وقبض للريح، ولكن تطور الأحداث أثبت أننا على الطريق الصحيح.

وبالفعل فإن التحليل الهادئ للوضع القائم يثبت أنه ليس هنالك في سورية اليوم حزب شيوعي يلعب دوره الوظيفي المطلوب منه اجتماعياً وسياسياً، وشتان طبعاً ما بين تنظيم يحمل هذه اللافتة وبين تنظيم يلعب هذا الدور، لذلك كان رأينا منذ البداية أن تكوين أي تنظيم شيوعي دون تجاوز الأزمة التي عاشتها الحركة خلال العقود الثلاثة المنصرمة، تجاوزها بالدرجة الأولى فكرياً وسياسياً وعملياً إنما يعني إعادة إنتاج الأزمة نفسها مما نحن بغنى عنه.

إن الساحة السياسية السورية تشهد اليوم وجود فصائل وتنظيمات شيوعية عديدة، لا ترقى كل بمفردها أو بمجموعها إلى الدور المطلوب منها كحزب.

لقد وصلنا إلى هذا الوضع بعد أزمة مستمرة في الحركة على مدى العشرات من السنين. فهل نستطيع اليوم تجاوزها وإحداث الانعطاف المطلوب في حياة الحركة الشيوعية في سورية، ذلك الانعطاف الذي يفضي إلى نهوضها واستعادتها لمواقعها وعودتها للعب دورها المنوط بها؟

لقد كانت الرغبة في الوحدة موجودة دائماً عند قواعد الشيوعيين السوريين، ولكن هذه الرغبة خلال حقبة زمنية طويلة لم تمنع الانقسامات وتكرارها بين الحين والآخر وبشكل دوري.

إن كل طرف في خوضه للصراع الحزبي خلال المراحل المختلفة للأزمة كان يظن أنه بحسم الخلافات تنظيمياً سوف يخرج أقوى مما دخل الأزمة، لأنه بذلك يكون قد طهّر نفسه من العناصر الانتهازية أو التحريفية أو الدوغماتية أو المتعصبة قومياً أو الكوسموبوليتية أو الاشتراكية ـ الديمقراطية إلخ…. من القاموس المعروف.

ولكن الواقع أثبت أن جميع الأطراف المتصارعة أصبحت أضعف مما كانت عليه قبل الانقسام، ولم يستطع أحد سواء كان قاسماً أو مقسوماً، أو غالباً أو مغلوباً أن يستعيد قواه الأساسية، بل إنه لايزال ينزف حتى هذه اللحظة.

والأنكى من ذلك أنه ما من طرف خرج من انقسام إلا وأعاد إنتاج الانقسام بهذا الشكل أو ذاك، حتى «الوحدات» التي تحققت خلال هذه الفترة التي استندت إلى مبدأ التجميع وليس التوحيد ما كانت إلا تكريساً بشكل جديد وإن كان أقل وضوحاً للانقسامات السابقة، وبالتالي لم تستطع تلك المحاولات أن تؤدي الدور المطلوب منها وهو تقوية الحركة وزيادة نفوذها، بل يمكن القول أنها زادت انكفاء الحركة انكفاءً.

ولكن ما الذي تغير اليوم؟ ما الذي يجعلنا نتفاءل بإمكانية كسر مسلسل الانقسامات والتراجعات والانتقال إلى حالة جديدة؟ وهل تكفي الرغبة وحدها مهما عظمت لتحقيق ذلك؟

لقد ترافق الوضع في الحركة الشيوعية السورية، بوضع مماثل في كل الحركة الشيوعية العالمية. فالتحليل الموضوعي اليوم يسمح لنا بالاستنتاج أنها قد بدأت بالتراجع عن مواقعها منذ بداية الستينات من القرن الماضي، هذا التراجع الذي تمثل بتغيير تدريجي بطيء في ميزان القوى العالمي لصالح الرأسمالية العالمية، والذي انعكس في نهاية المطاف بانهيار الاتحاد السوفييتي، ومنذ ذلك الحين لم تعد مقولة اختلال ميزان القوى العالمي بحاجة إلى إثبات ونقاش، لقد أثبتها الواقع والحياة.

ولقد انعكس هذا التراجع على كل فصائل الحركة الشيوعية العالمية، فمنها من دفع ضريبة هذا التراجع دماً (السودان، العراق، أندونيسيا)، ومنها من دفعه انقسامات وتشرذماً ولكن في كل الأحوال كانت النتيجة واحدة وهي تغير ميزان القوى لغير صالح حركتنا.

لسنا اليوم بصدد بحث تفصيلي لأسباب التراجع العام للحركة ولكن على عجالة يمكن أن نستنتج أن هذا التراجع قد سد مؤقتاً الأفق التاريخي أمام حركتنا الشيوعية وأصبحت أهدافها غير قابلة للتنفيذ في المدى التاريخي المنظور في وقت كانت فيه برامجها تؤكد إمكانية الانتصار على العدو الطبقي خلال المستقبل المنظور. لقد أنشأ هذا الوضع تناقضاً بين الهدف المعلن والواقع الملموس، بل إن الهوة أخذت تزداد مع الزمن بين الهدف والواقع، ويجب الاعتراف اليوم بأن حركتنا ونحن بجملتها، لم تستطع أن تشخص في حينه السبب العميق للأزمة أي للتناقض بين هدف الحركة وواقعها، ولا يمكن تحميل مسؤولية ذلك لأحد، لا لشخص ولا لمجموعة، والأرجح أن المستوى المعرفي لم يكن يسمح آنذاك بالوصول إلى الاستنتاج الذي توصلنا إليه اليوم، وخاصة أن التراجع كان يجري بشكل مستتر وتدريجي وغير معلن، بل كان يرافقه إعلانات وتأكيدات بالاتجاه المعاكس.

إن ترافق التراجع العام مع حالة عدم وعي لخطورة الخلل في ميزان القوى أدى إلى جملة من الاستنتاجات السياسية الخاطئة ترافقت مع ممارسات تنظيمية عمقت حالة التراجع.

فكل المتصارعين كانوا يعتقدون أن الأزمة مؤقتة وعابرة، مما كان يجعلهم يظنون أن المخرج التنظيمي هو المخرج الوحيد الصحيح، لذلك كانوا يتعجلون في الحسم التنظيمي دون إعطاء النقاش الديمقراطي الفكري والسياسي حقه ومداه الكافي، ودون إعطاء الحياة حقها في المساعدة على حسم النقاشات الفكرية والسياسية المثارة. وللحق والتاريخ يجب أن نسجل أن القسم الدولي للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي الذي لعب دوراً سلبياً وخطيراً قبل وأثناء فترة البيريسترويكا كما تبين لاحقاً، قد ساعد على تأزيم الأوضاع الحزبية وإيصالها إلى طرق مسدودة بحجة دعم هذا الفريق أو ذاك.

والخلاصة أن وحدة الشيوعيين التي تعبر دائماً عن ضرورة موضوعية، والتي بقيت دائماً أملاً حقيقياً كانت محكومة بالواقع الذي أملاه التراجع، والذي أدى إلى الانقسامات المتتالية.

ومما لا شك فيه أن خسائرنا كانت أقل لو رافق التراجع حالة وعي متقدم له مما كان سيحد من أثاره السلبية ولكن الذي حدث هو العكس. واليوم بعد (12) عاماً من انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية بقيت فيه المبادرة وزمام الأمور بيد الإمبريالية العالمية وعلى رأسها الإمبريالية الأمريكية يتبين لنا أن الهزائم التي حلت بنا، وإن كانت قد أطالت في عمر الرأسمالية إلا أنها لم تخرجها من أزمتها المستعصية بل أن أزمتها ازدادت استعصاء مما يدفعها إلى الخيار العسكري كخيار وحيد لحل التناقضات الناشئة فيها، مما يجعلنا نصل إلى استنتاج هام مفاده:

إن الأفق التاريخي قد بدأ بالانسداد أمام الرأسمالية العالمية وإذا كان هذا الأفق مسدوداً بالمعنى التاريخي استراتيجياً، إلا أنه الآن قد بدأ بالانسداد بالأفق الآني القريب المدى مما يعني أن توازن القوى الذي تكون خلال العقود الماضية لصالحها غير قادر على الاستمرار، بل العكس هو الصحيح، فالخيار العسكري كخيار وحيد لحل المشاكل العالمية ما هو إلا دليل على إفلاس عميق وأزمة مستعصية لا حل لها، وهذا يعني أن الأفق التاريخي لحركتنا قد انفتح على المدى المنظور مما سيغير ميزان القوى بالتدريج لصالحها.

إن التقاط هذه اللحظة بالذات هو الذي يدفعنا للاستنتاج بأن الواقع الموضوعي أصبح يملي وحدة الشيوعيين التي كانت ضرورة وأملاً طوال الوقت، فإذا كنا محكومون بالتراجع خلال الحقبة الماضية فإننا اليوم محكومين بالتقدم الذي سيسير بشكل أسرع كلما استوعبنا هذا الأمر بشكل أسرع.

كما أن استشراس قوى السوق الكبرى محلياً واندفاعها نحو تحقيق برنامجها، يدفع المزيد من الجماهير المتضررة إلى ساحة الفعل والنضال مما سيزيد من زخم الحركة الجماهيرية وينعش الحركة السياسية ويفرض عليها استعادة دورها المفقود.

ومن ثم أكد الاجتماع الوطني الثاني في 25/4/2003 بأن إنهاء الأزمة بين أيدينا، فبقدر ما نتوجه إلى الجماهير عملياً على أرضية التوجهات الفكرية السياسية الصحيحة المصاغة، بقدر ما نخرج من الأزمة، وبقدر ما نتأخر في ذلك، بقدر ما نتخلف عن حركة الجماهير التي لم يعد لديها الوقت لانتظارنا في ظل خطورة الأوضاع المعاصرة وتعقدها. إن وحدة الشيوعيين السوريين بالنسبة لنا تعني إعادة بناء حزبنا الذي تهشم وتهمش خلال العقود الماضية، هذا الحزب الذي ليس بالنسبة لنا إلا أداة واعية هامة للوصول إلى الأهداف الكبرى التي نذر كل شيوعي نفسه لها.

وهكذا ترون أيها الرفاق، أن الطريق التي اجتزناها في النضال من أجل استعادة الحزب لدوره الوظيفي كانت تمر عبر بوابتين:

  • بوابة العودة إلى الجماهير.
  • وبوابة توحيد الشيوعيين السوريين.

ومثلاً، فإن «ميثاق الشرف» في 15/3/2001 قد أكد على النقاط التالية:

  • عودة الحزب إلى الجماهير.
  • التعبير عن مصالح الجماهير الشعبية الواسعة والدفاع عنها بجرأة وعدم الاكتفاء بإعلان النوايا، بل دعمها بالممارسة اليومية أي ربط القول بالفعل لإعادة مصداقية الحزب بين الجماهير.
  • الاستمرار بالعمل من أجل تحالفات مبدئية دون أن يكون الشيوعيون عبئاً على أي تحالف أو قوة هامشية فيه ودون أن يقبلوا أية وصاية عليهم أو تدخل في شؤونهم الداخلية محافظين في كل الأحوال على وجههم المستقل.
  • كسر مسلسل الانقسامات، والانطلاق نحو الوحدة، وتطور الديمقراطية الحزبية الداخلية الوسيلة الوحيدة للحفاظ على الوحدة في ظل التباين والاختلاف، من أجل منع إعادة إنتاج الأزمة.
  • إعادة القدسية للقب الشيوعي عبر سلوكهم وأخلاقهم وممارستهم ورؤيتهم النافذة  البعيدة النظر، وإعادة الاعتبار لمنظومة العلاقات الرفاقية الإنسانية التي تصهر الشيوعيين في بوتقة واحدة.
  • العمل على تحقيق الوحدة من (تحت) إلى (فوق) على أساس مبدأ سيادة المؤتمرات، أي الديمقراطية الحزبية  الواسعة.

كما أن الاجتماع الوطني الأول قد أكد الأمور التالية:

  1. أن الوحدة الحقيقية لايمكن أن تتم إلا بمبادرات من (تحت) وهذا لا يعني استثناء الذين (فوق)، إلا إذا استثنوا أنفسهم، لأن محاصرة أمراض الماضي والقضاء عليها لايمكن أن تتم إلا بهذه الطريقة.
  2. أشار الاجتماع الوطني الأول إلى ضرورة تعلم فن التوحيد واستكشاف أدواته. فإذا كان من أهم أدوات فن الانقسام شخصنة الصراعات وتسمية المجموعات المتصارعة بأسماء زعمائها، فإن طريق التوحيد لا يمكن أن يكون إلا عكس ذلك.
  3. لفت الاجتماع الأول الانتباه إلى أن الحسم التنظيمي في الصراعات هو من أدوات الانقسام التي لا تعطي المجال للحسم الفكري والسياسي أن يأخذ مداه الطبيعي عبر النقاش، لذلك فإن التوحيد يتطلب أجواء ديمقراطية لاستيعاب النقاش الرفاقي الواسع والمعمق، والذي سيؤدي بالتدريج عبر المساعدة التي ستقدمها الحياة لنا بحسمها هي للكثير من الأمور المختلف عليها إلى الوصول إلى الوحدة، أي أنه يجب إلغاء عقلية الإقصاء والقمع والاتهامات الجاهزة وتأكيد وتمتين عقلية الاستيعاب والحوار والوصول إلى قواسم مشتركة تؤمن وحدة الإرادة والعمل، مما يتطلب تفسير المركزية الديمقراطية على أساس متطلبات الحياة المعاصرة. مما يعني إلغاء منطق الفيتو وإلغاء كل الاتهامات السابقة ضد أي كان، وعدم السماح بإبعاد أحد، لعل الاستثناء الوحيد من هذه القاعدة، هم المدانون بجرائم شائنة بحق المجتمع. إن منطق الفيتو هو منطق الوصاية والاستعلاء والمعلمية على الآخرين، إن الشيوعي يجب أن يقيم فقط على أساس إمكانياته وتنفيذه لمهامه.
  4. توصل الاجتماع الوطني الأول إلى استنتاج أن هامش الخلاف بين الشيوعيين حول مهامهم الآنية قد ضاق جداً لأن الحياة قد حلت الكثير من الأمور المختلف عليها سابقاً، وافترض أن قضايا الماضي البعيد والمستقبل البعيد المختلف عليها، يجب أن لا تكون عائقاً أمام الوحدة، بل يجب أن تبقى مجال بحث ودراسة واستقصاء، وهي أصلاً قضايا لا يمكن إغلاقها ولكن التمترس والتخندق على أساسها، ورفع شعار: «فلنتوحد حول مهامنا الآنية الملحة، ولنمنع خط الفصل من المرور بيننا حول قضايا غير آنية والغير متفق عليها».
  5. واستنتج الاجتماع أن عمق الأزمة يتناسب طرداً مع درجة الابتعاد عن الجماهير. لذلك فإن سرعة عودتنا إليها سيحدد سرعة خروجنا من الأزمة، وهذا ما جعله يؤكد أن العوامل التي تؤكد الوحدة اليوم هي موضوعية بالدرجة الأولى، أما درجة وعينا الذاتي فستحدد فقط سرعة تحقيقها فهي آتية لا محالة عاجلاً أم آجلاً.

وفي الاجتماع الوطني الثاني في 25/4/2003 أكد الاجتماع أن الظروف الموضوعية عالمياًَ وإقليمياً وداخلياً تنضج أكثر فأكثر وخاصة بسبب عدوانية الإمبريالية الأمريكية لعودة الجماهير إلى الشارع، مما يتطلب تسريع خطواتنا بالعودة إلى الجماهير، وتسريع الخطوات التوحيدية. وأقر أوراق العمل لفتح النقاش لتوحيد الشيوعيين السوريين، ودرس تجربة انتخابات مجلس الشعب التي خاضها الشيوعيون خارج قوائم الجبهة بشكل مستقل، كأحد أشكال العودة إلى الجماهير، ودرس ردود فعل قيادات الفصائل حول التوحيد التي أكدت القناعة أن الطريق الرئيس نحوها هو الوحدة من (تحت)، وأكد أن إنهاء النقاش حول أوراق العمل المطروحة سيفتح الطريق لتحديد ملامح العمل التوحيدي التنظيمي الملموس الذي سيكون أحد مهام الاجتماع الوطني الثالث الذي سيعقد قبل نهاية 2003.

لقد مر طريق توحيد الشيوعيين السوريين، من إعلان النوايا في «ميثاق الشرف» إلى تشكيل لجان التنسيق في المحافظات في الاجتماع الوطني الأول، إلى وضع مهام ملموسة فكرية سياسية في الاجتماع الوطني الثاني، وسيجمل الاجتماع الوطني الثالث مجمل النشاط السابق ويقرر شكل السير إلى الأمام.

إن مؤتمرنا الاستثنائي، إن كان من جهة هو استحقاق فرضته الحياة علينا لمعالجة الأزمة التي فجرتها قيادة الحزب السابقة، فإن هذه المعالجة تتم لأول مرة في تاريخ الحزب على أساس النظام الداخلي وليس خارجه، وبشكل ديمقراطي بعيداً عن القمع والتصفيات، كما جرت العادة، فاتحين آفاق تسريع عملية توحيد الشيوعيين السوريين، مما يتطلب من مؤتمرنا استعادة الحزب لدوره التاريخي.

لقد سرنا خطوات هامة على طريق العودة إلى الجماهير وعلى طريق وحدة الشيوعيين السوريين، وإذا كان طريق الألف ميل يبدأ بخطوة، فإننا قد اجتزنا على هذه الطريق خطوات كبيرة، ومازال أمامنا الخطوات الأهم التي نحن على ثقة أننا قادرون على اجتيازها بتكاتف جميع الشيوعيين الذين يعملون جادين بهذا الاتجاه بروح رفاقية عالية مستعيدين كل التراث الماضي المجيد، ومضيفين إليه إنجازات جديدة يتطلبها واجبنا تجاه الشعب والوطن والحزب.

لقد كانت أوراق العمل التي أقرها الاجتماع الوطني الثاني محطة هامة فكرية وسياسية وتنظيمية تكثف وتلخص كل تجربة الحزب الماضية. وتكيفها بشكل ثوري مع المستجدات على الساحة  الدولية والإقليمية والمحلية. وقد جرى نقاش واسع حولها.

فما هي نتيجة هذا النقاش حتى الآن؟!

لا نريد أن نستبق الأمور، فهذا النقاش سيلخصه الاجتماع الوطني الثالث، ولكن الذي يمكن قوله اليوم:

  1. أثبت النقاش افتراضنا السابق أن نقاط الاتفاق حول النقاط الآنية هي كثيرة، وأن نقاط الافتراق هي قليلة جداً.
  2. أثبت النقاش أن الشيوعيين لا يتخندقون اليوم، كما كانوا في الماضي، حول قضايا الماضي البعيد أو المستقبل البعيد، وهذا أمر طبيعي بسبب حدة وشدة القضايا التي تطرحها الحياة اليوم.
  3. أثبت النقاش أن لا خلاف بين الأكثرية الساحقة للمشاركين فيه حول مرجعيتهم الفكرية الماركسية ـ اللينينية.
  4. أكد النقاش أن هناك اتفاق كامل حول النظرة إلى العلاقة ما بين المهام الوطنية العامة والاقتصادية ـ الاجتماعية والديمقراطية.

لم يُستكمل النقاش بعد حول القضايا التنظيمية التفصيلية في عملية التوحيد اللاحقة، مما يتطلب وقتاً وجهداً إضافياً.

 وتأكيداً على ما أتينا عليه أعلاه، سيناقش الاجتماع الوطني الثالث مسودة الورقة السياسية التي يمكن اعتبارها عمود فقري لمشروع برنامج سياسي، وتأتي أهمية هذه الورقة من أنها تشكل إجمالي للنقاش الذي دار وتلخيصاً إبداعياً له، يستند إلى الماضي دون انقطاع ويتجاوزه إلى الحاضر والمستقبل، مضيفاً إليه الضروري من الرؤى والاستنتاجات.

 ثالثا: الوضع الدولي الناشئ، مهامنا، ودورنا

من المعروف أنه بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، اختل ميزان القوى الدولي بين القطبين النقيضين، قطب الإمبريالية، وقطب الشعوب. وأُتيحت الفرصة للإمبريالية الأمريكية، أن تحاول فرض هيمنتها عبر فرض قطبها الأوحد، هذه المحاولة التي أكد حزبنا منذ البدء أنها آيلة إلى الفشل، لأن المجتمع كالطبيعة لا يقبل الفراغ، وبالفعل حاولت الإمبريالية الأمريكية التأسيس الأيديولوجي لمحاولتها الجنونية عبر عشر نظريات: نهاية التاريخ، وصراع الحضارات، وقوس التوتر..إلخ...

وقد استنتج حزبنا باكراً في أوائل التسعينات وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أن انتهاء الحرب الباردة لن يجعل العالم أكثر أمناً واستقراراً، بل العكس هو الصحيح. وفعلاً حاولت الإمبريالية الأمريكية فرض سيطرتها وهيمنتها في السنوات العشر اللاحقة لانهيار الاتحاد السوفييتي بوسائل مختلفة: سياسية وعسكرية واقتصادية. وكانت حرب الخليج الثانية والحرب اليوغسلافية محاولات أساسية على طريقها هذا، ولكن الذي حدث أن تناقضات الرأسمالية ازدادت حدة بسبب المشكلة العضوية البنيوية التي تعاني منها، وخاصة اقتصادياً، إذ كانت تتصور أن الخلل الموجود لديها هو خلل وظيفي مؤقت يمكن تجاوزه بزيادة رقعة الهيمنة والسيطرة سياسياً وعسكرياً. وعندما اتضح أن استفحال التناقضات يمكن أن يؤدي إلى انهيار بنيوي شامل، لجأت إلى الحل العسكري عبر ما يسمى: حربها العالمية ضد الإرهاب كحل وحيد لمشكلتها. فأين تكمن أسس المشكلة لديها:

  1. أزمة اقتصادية مستعصية:

  منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعد أن جنت الإمبريالية الأمريكية الثمار الاقتصادية لهذه الحرب، احتلت المركز الأول اقتصادياً بين البلدان الرأسمالية، محسوباً على أساس حصتها منفردة في الإنتاج العالمي، بالمقارنة مع المراكز الإمبريالية الأخرى. ولكن منذ بداية السبعينات بدأ يتضح ميل تراجع موقعها الاقتصادي، وثبت نهائياً بعد ظهور الاتحاد الأوروبي الذي احتل المركز الأول، الذي كانت تشغله سابقاً الولايات المتحدة الأمريكية. وبما أن الدور السياسي والعسكري هو انعكاس للنفوذ الاقتصادي فقد نشأ تناقض بين هذين العملاقين، كانت تُحل أشباهه في القرن العشرين عبر الحروب العالمية. واستباقاً للخسارة النهائية لموقعها، وضعت الإمبريالية الأمريكية استراتيجية للسيطرة السياسية، وحتى العسكرية إذا لزم الأمر، على كل موارد الكرة الأرضية الطبيعية والبشرية كحل استباقي لأزمتها التي لا حل اقتصادي لها. من هنا يتضح سبب الميل التوسعي العدواني للإمبريالية الأمريكية.

أما قضية خياراتها وبدائلها في عملية التوسع العالمية فهي قضية تتحكم بها الظروف الملموسة والوقائع المستجدة.

ولهذه الأزمة الاقتصادية المستعصية جانبها المالي العالمي الهام جداً في الظروف الحالية. فبعد إلغاء اتفاق «برايتون وودز» في أوائل السبعينات، حيث تم فك ارتباط الدولار والعملات الأخرى بالذهب، أخذت الإدارة الأمريكية حريتها بطبع كميات هائلة من الدولار الورقي، مستفيدة من حاجة السوق العالمية لعملة تداول عالمية تكون مقياساً ومعياراً بين العملات الأخرى مكان الدور الذي كان يلعبه الذهب، فنشأ نتيجة ذلك وضع جديد تميز بإنتاج الولايات المتحدة لكميات هائلة من الدولار الورقي أكثر بكثير من حاجة سوقها المحلية  لتلبية الطلب العالمي على عملة تلعب دور مقياس معيار للتبادل، وثبتت هذا الوضع بفرضها الدولار كمعيار للتبادل النفطي الذي يعتبر سلعة عالمية استراتيجية تؤثر في التبادل على باقي السلع. والواضح أن إنتاج الدولار الورقي بلا حدود أعطى الولايات المتحدة وضعاً تمييزياً سمح لها بالمقابل بالاستيلاء على ثروات العالم دون مقابل، ولكن هذه الأفضلية التي سماها كاسترو (بفقاعة الصابون) التي لابد أن تنفجر في يوم من الأيام، تحولت إلى نقطة ضعف كبرى وصاعق يدفع الاقتصاد الأمريكي إلى الانهيار في حال تخلي العالم أو جزء منه عن الدولار كمعيار للتبادل. وكان هذا الأمر واضحاً للأوساط القيادية في الإمبريالية الأمريكية قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، وكان هذا الانهيار مخرجاً مؤقتاً من الأزمة بسبب النهب الواسع الذي تلاه لثروات الاتحاد السوفييتي الذي سمح مؤقتاً بتأجيل الأزمة سنوات قليلة. ومنذ عام 1995 استخدمت الإمبريالية الأمريكية آلية البورصات العالمية التي تحولت إلى نادي قمار عالمي من أجل تسريع دوران الدولار الفائض عن حاجة الأسواق. والدليل على ذلك هو أن التبادلات في البورصات العالمية كانت حتى 1995 (90 %) منها لها علاقة بالاقتصاد الحقيقي و(10 %) بالمضاربات المالية، التي تهدف إلى البيع والشراء السريع للأسهم بعيداً عن عمليات الإنتاج الحقيقية، وانقلبت الآية بعد 1995 إلى العكس، وأصبح (90 %) من المبادلات لا علاقة لها بالاقتصاد الحقيقي. وإذا علمنا أن حجم المبادلات اليومية في البورصات العالمية يبلغ  (1.5) تريليون دولار، نعرف تماماً حجم الأزمة التي يعانيها الدولار الأمريكي، وقد سمحت هذه الآلية بتأجيل انفجار الأزمة حتى 2001، حين دخل عامل جديد على الخط، وهو ظهور اليورو بكامل أبعاده في أوائل عام 2002، وكان كثير من الاقتصاديين و المختصين يتوقعون انهياراً كبيراً للدولار في الربع الأخير من 2001 بسبب مجمل العوامل المذكورة أعلاه، مما اضطر صندوق النقد الدولي أن يقترح على الإدارة الأمريكية في تقريره في حزيران 2001 الانتقال إلى سياسة الدولار الضعيف بالتدريج عبر تخفيضه

 (6 حتى 7 %) شهرياً، وصولاً إلى (40 %) من قيمته الاسمية، وذلك تجنباً للصدمة التي يمكن أن يسببها اليورو بطرده للدولار من مساحة واسعة كان يشغلها، هي أوروبا الغربية.

وحسب تقديرات الاختصاصيين فإن حجم الدولار النقدي الموجود في السوق العالمية يزيد ما بين (50 ـ 200) مرة عن حاجة السوق فعلياً له، لذلك فإن الأوساط المالية العالمية التي تلعب الاحتكارات الأمريكية دوراً أساسياً فيها إلى جانب الصهيونية العالمية، كانت أمام خيارين لا ثالث لهما في نهاية المطاف:

  • إما التخلي الطوعي عن الدور العالمي للدولار بالتدريج، مما يعني فقدان الإمبريالية الأمريكية لموقعها الأول اقتصادياً وبالتالي سياسياً وعسكرياً.
  • وإما الاستفادة من الوضع السياسي والعسكري القائم لديها للحفاظ على وضع الدولار، وبالتالي الهيمنة العالمية الاقتصادية الأمريكية للدولار، ولكن هذه المرة عبر استخدام القوة.

لذلك فإن الكثير من الباحثين، من الغرب والشرق قد تنبؤوا بأحداث 11 أيلول قبل وقوعها بأشهر عديدة مثل: الأمريكي (ليندون لاروش)، والروسية (تاتيانا كالياغينا)، والكندي (ميخائيل شادوفسكي). وقد نشرت «قاسيون» الكثير من هذه التوقعات في حينه. وجاءت الأحداث وأكدت، أن الإمبريالية الأمريكية لجأت إلى الحل الثاني للحفاظ على دورها المتهاوي، وكانت ضربة أفغانستان، العملية الأولى في إعلان ما سمته «الحرب العالمية على الإرهاب»، دون تحديد آفاق مكانها وزمانها.

  1. تناقضات اجتماعية داخلية عميقة:

لقد أسست الإمبريالية الأمريكية لنفسها عبر نهبها المنظم للعالم على مدى نصف قرن نمطاً من الحياة الاستهلاكية داخل الولايات المتحدة الأمريكية، خفف إلى حد كبير من التوترات الاجتماعية التي يسببها التناقض الأساسي بين العمل ورأس المال، والذي يتجلى بتمركز هائل للثروة بيد أربعين عائلة تملك الولايات المتحدة الأمريكية وتحكمها، ومن الواضح أن تراجع إمكانية الاستمرار بالنهب العالمي بالوتيرة السابقة، يحمل في طياته احتمال التراجع عن نمط من الاستهلاك انتشر في الولايات المتحدة، يتميز بالاستهلاك المفرط، والذي أصبح نمطاً، إذا تم التراجع عنه بسبب الضرورات الجديدة، سيحمل في طياته خطر تفاقم الصراع الاجتماعي الطبقي داخل الولايات المتحدة، مع الاحتمالات التي يمكن أن يفتحها من إمكانية انهيار بنية المجتمع والدولة القائمة. لذلك فإن أحداث 11 أيلول كانت مبرراً ضرورياً لتجاوز عقدة فيتنام من جهة، مما سيسمح بنشر القوات الأمريكية خارج الولايات المتحدة دون مقاومة كبيرة من جهة، وسيسمح من جهة أخرى بتقييد الحريات السياسية والمدنية العامة، وتحويل الدولة في الظروف الجديدة إلى دولة من نمط فاشي تستطيع السيطرة على المجتمع في ظل استفحال تناقضاته الداخلية التي تتوقع مراكز البحث المرتبطة بالمخابرات الأمريكية والبنتاغون بتحولها في لحظة ما إلى ما يشبه الحرب الأهلية. وفعلاً أصبح من الواضح، أن الغلاف الديمقراطي للدولة الأمريكية قد بدأ بالتمزق لتحل محله لأول مرة منذ الحملة المكارثية في خمسينات القرن الماضي دولة بوليسية قمعية شمولية تضع أمامها هدف تخفيض عدد سكان الولايات المتحدة نفسها إذا لزم الأمر إلى (100) مليون نسمة. إن الانهيار الاقتصادي المتوقع، والذي يقترب يوماً بعد يوم، وهو مرتبط في الظروف الحالية بفشل الحملة العسكرية الخارجية، يمكن أن يحمل في طياته إمكانية انفجار الدولة والمجتمع الأمريكي إلى شظايا من الجوانب السياسية والاجتماعية والعرقية والقومية، وحتى الجغرافية.

إن نمط الحياة الاستهلاكية الأمريكي المستند إلى الاستهلاك المفرط يتطلب حجماً هائلاً من موارد الطاقة، تعبر عنه الأرقام التالية:

(5%) من سكان العالم، الذين هم سكان الولايات المتحدة الأمريكية يستهلكون 30% من ثرواتها ويتسببون بـ(50%) من التلوث البيئي في الكرة الأرضية الذي يحصل بسبب استخدام واسع لمصادر الطاقة غير المتجددة، وأهمها النفط، ولذلك فإن موضوع النفط وموارده يرتدي أهمية هائلة بنظر الدوائر الحاكمة في الولايات المتحدة للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي. وبما أن هذه الموارد غير كافية في الولايات المتحدة، فإن السيطرة عليها عالمياً يحقق هدفين:

  • حل مشكلة موارد الطاقة الداخلية للهروب من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية القادمة.
  • محاصرة المراكز الإمبريالية المنافسة الأخرى لإملاء الشروط عليها.

واستناداً لكل ذلك يمكن القول: بأن ما يُسمى بـ «الحرب العالمية على الإرهاب» أمريكياً تهدف لتحقيق عدة أهداف على عدة مستويات:

الهدف الأول: على المستوى القريب: إيقاف تدهور الدولار عبر فرضه عالمياً بالقوة العسكرية. والسيطرة على منابع النفط لمنع تسعيره بأي عملة أخرى. وإلى جانب ذلك تشغيل المجمع الصناعي العسكري بطاقته القصوى من أجل تحريك الاقتصاد الأمريكي الراكد الذي وصلت فيه فوائد الاستثمار إلى أدنى مستوى عرفته تاريخياً، وهو (1%) حسب ما يقرره البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي.

الهدف الثاني: المتوسط المدى: إحداث تغييرات عميقة في بنى الأنظمة والدول التي يطالها العدوان التوسعي الأمريكي من أجل تأمين الهدف الأول، وفتح الطريق للهدف الثالث بعيد المدى وهو: إحداث تغييرات بنيوية في خريطة العالم الجغرافية ـ السياسية، وفي تركيبته السكانية، تسمح حسب ما يُنظرون بالوصول إلى «نهاية التاريخ» أي الوصول إلى السيطرة الكونية المطلقة عبر التحكم بالموارد الطبيعية والبشرية وبالجغرافيا ـ السياسية.

وهكذا يتبين أن التناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج على المستوى الكوني، في مرحلة العولمة الأمريكية قد وصل إلى نقطة أصبح فيها استمرار العلاقات الرأسمالية غير الإنسانية المبنية على النهب البطش والتبادل غير المتكافئ تتناقض كلياً مع حاجات تطور القوى المنتجة، وخاصة الشق البشري منها الذي أصبح استئصال جزء منه شرط ضروري للحفاظ على علاقات الإنتاج القائمة. هذا التناقض الذي تنبأ به ماركس وأنجلز حين قالا في حينه: «أن كل خطوة إلى الأمام في تطور القوى المنتجة في ظل الرأسمالية هي خطوة إلى الوراء بالنسبة للإنسان وإلى الطبيعة». 

وكما قالا في مكان آخر: أن المستقبل هو: «إما الاشتراكية وإما البربرية». هذه البربرية التي وصلت اليوم إلى حدودها القصوى في محاولتها تصفية جزء من الجنس البشري مع ما يحمله ذلك من خطر تصفية الحياة على الأرض نفسها.

إن التناقض مع الرأسمالية اليوم، هو تناقض اجتماعي بجوهره، وعدم حله لصالح البشر يمكن أن يؤدي إلى الإضرار بوجود البشرية نفسها. لذلك أصبح النضال ضد الرأسمالية مهمة اجتماعية وإنسانية تهم كل من له مصلحة في استمرار الحياة على الأرض. ويدل على ذلك انضمام أوساط أوسع فأوسع وخاصة في الغرب وبالملايين إلى الحركة المعادية للعولمة، وهذا اتجاه موضوعي لا مرد له.

وهذا يسمح لنا باستنتاج أن منجزات البشرية التي تحققت بعد ثورة أكتوبر وبعد الانتصار على النازية وبعد نهاية المرحلة الكولونيالية لا رجعة عنها، ومما يؤكد هذا الاستنتاج أن انهيار المنظومة الاشتراكية لم يوقف علمية تفسخ الرأسمالية وتعميق أزمتها العامة المستعصية ولجوئها إلى الخيار العسكري باعتباره حلاً أخيراً في ترسانة البدائل لديها، وهذا يؤكد أن الإمبريالية تسير نحو نهايتها الحتمية، وها هي تفقد السيطرة على الوضع العالمي أمام تنامي قوة وتأثير قطب الشعوب الذي أخذ بخيار المقاومة ضد العولمة المتوحشة.

وهنا لابد من التأكيد بأن مقولة سمة العصر هي الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، هي مقولة صحيحة من الوجهة النظرية، وكانت ظاهرة واقعية ملموسة ما بين انتصار ثورة أكتوبر وبداية التراجع في الحركة الشيوعية والثورية العالمية الناتج عن الخلل في ميزان القوى لصالح الإمبريالية في بداية الستينات. وعند استكمال حالة النهوض ومعاداة العولمة التي نشهدها الآن والتي هي في جوهرها شكل جديد من الأممية بين الشعوب ، ومع بداية انسداد الأفق التاريخي أمام الرأسمالية ستتأكد سمة العصر من جديد وهي: الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية.

استناداً لكل ما سبق يمكن القول أن هذه المخططات التي تستند إلى القوة العسكرية، قد وصلت إلى طريق مسدود، لأن القوة العسكرية نفسها، بقدر ما تعاظمت لها حدود. فالانتشار العسكري الأمريكي اليوم في العالم قد وصل إلى حده الأقصى من كوريا الجنوبية إلى أفغانستان والعراق ويوغسلافيا، مما يجعل إمكانية التحكم اللاحق بالصراعات الجارية مستحيلاً على الإمبريالية الأمريكية، وهذا المأزق يمكن أن يضطرها حسب تقديرات الاقتصادي الأمريكي المعروف (ليندون لاروش) إلى استخدام أسلحة الدمار الشامل من الأجيال الجديدة (النظيفة) لحل المهام الموضوعة أمامها.

إن كل التطور العالمي يثبت أن قانون التطور المتفاوت الذي اكتشفه لينين في أوائل القرن الماضي يفعل فعله اليوم فيما بين ما يسمى بلدان الشمال وبلدان الجنوب، وتتحول هاتين الحلقتين إلى حلقتين ضعيفتين كل بطريقتها، وهذا يسمح بالافتراض بأن التطور العالمي اللاحق في أوائل القرن الواحد والعشرين سيشهد انهياراً شاملاً للمنظومة الرأسمالية العالمية التي ستنفجر بفعل تناقضاتها الداخلية، والتي يلعب فيها قطب الشعوب يوماً بعد يوم دوراً متعاظماً ومتسارعاً، مما يؤكد حتمية انهيار الرأسمالية التي لم تنج من مصيرها بسبب الانهيارات في الدول الاشتراكية التي جرت في نهاية القرن الماضي، بل إن هذه العملية بعد الوقت المستقطع بين (1991 ـ 2001) قد تطورت وتحفزت واقتربت من نهايتها المنطقية، وهذا يسمح لنا بالقول بكل جرأة: أن زمن انفتاح الأفق المؤقت أمامها في النصف الثاني من القرن العشرين الذي استطاعت أن تغير فيه ميزان القوى العالمي لصالحها، قد ولى إلى غير رجعة، وأن عملية عكسية قد بدأت سيميزها تغير تدريجي سريع لميزان القوى لصالح القوى الثورية العالمية أي أن الأزمة التي كانت تعاني منها هذه القوى هي في طور الانتهاء، وهي في حالة انتقال إلى مرحلة صعود، عليها أن تستعد لمواجهتها وتحقيق أكبر النتائج الممكنة على أساسها.

بعض أسباب الأزمة في الحركة الشيوعية العالمية:

يجب الاعتراف اليوم، أن الحركة الثورية العالمية، وطليعتها الحركة الشيوعية العالمية، قد عاشت مرحلة أزمة في النصف الثاني من القرن العشرين، هذه الأزمة التي كان أساسها التغيير البطيء المستتر لميزان القوى العالمي لغير صالحها، والذي انتهى بانهيار الاتحاد السوفييتي، وأن هذه الحركة اليوم، بسبب تغير الظروف الموضوعية، تسترد عافيتها وتلتقط أنفاسها من أجل تحقيق الانعطاف العالمي المطلوب في تاريخ البشرية. وهنا يُطرح سؤال جدي علينا البدء بمعالجته، وهو: ما هي أسباب الأزمة في الحركة، والتي لم نتوقف عندها كثيراً في السابق، بهدف تحقيق أوسع تجميع للقوى في مواجهة  الهجمة الإمبريالية الجديدة. إن الوضع يتطلب اليوم البدء بالبحث عن الأسباب العميقة للأزمة، وبرأينا أنها تكمن في عقلية الانتهازية اليمينية التي سادت في الحركة الشيوعية العالمية، وخاصة بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي، هذه العقلية التي انعكست عملياً تحت حجة «التعايش السلمي» بالتوقف عن تفعيل الصراع الطبقي، بل كبحه عالمياً، مما أدى إلى النتائج التي شهدناها،ونعتقد أن البحث في أسباب الأزمة في الحركة عالمياً يجب أن يتوقف عند القضايا التالية:

  • الانقسام الكبير في صفوف الحركة، خاصة بعد الخلاف الصيني السوفييتي، والذي يتحمل مسؤوليته حسب ما تبين المعطيات الجديدة كل من القيادتين في الحزبين، مما أدى إلى إضعاف زخم الحركة التي كانت تسير صعوداً بعد الحرب العالمية الثانية وفي الخمسينات.
  • عدم تعاطي القيادة السوفييتية المنبثقة عن المؤتمر العشرين تعاطياً جدياً، مع أهمية حركة التحرر الوطني العالمية في تغيير ميزان القوى بين النظامين. فتحت شعار «عدم الانحياز» بقيت بلدان حركة التحرر الوطني جزءاً من السوق الرأسمالية العالمية واحتياطياً اقتصادياً هاماً لها، مع أن شعاراتها السياسية كانت تعلن عكس ذلك. وقد لعبت النظريات التحريفية، مثل ضرورة حل الأحزاب الشيوعي في العالم الثالث وما سُمي بـ «طريق التطور اللارأسمالي في العالم الثالث» دوراً أيديولوجياً هاماً في التأسيس لهذا التراجع. وهنا لا يسعنا إلا الاعتراف أن ما استنتجه ثوريون عديدون مثل: تشي غيفارا وغيره عن ضرورة إشعال مئة فيتنام أخرى للقضاء على الإمبريالية الأمريكية، كان صحيحاً كل الصحة وينسجم تماماً مع منطق المؤتمر الـ19 للحزب الشيوعي السوفييتي الذي أكد ضرورة تصدي الشيوعيين لقيادة حركة التحرر من أجل إيصالها لأهدافها النهائية ومستنتجاً أن البرجوازية في بلدان حركة التحرر قد باعت الاستقلال والسيادة مقابل حفنة من الدولارات.

لقد بلغت حركة التحرر الوطني بعد الحرب العالمية الثانية وفي الخمسينات أوجها بسبب انهيار النظام الاستعماري القديم، وعدم استكمال النظام الاستعماري الجديد لمقوماته ولو استطاعت الحركة الشيوعية العالمية ملاقاة هذا النهوض الذي عبر عن نفسه في فيتنام وكوبا خلافاً للسياسة المعتمدة آنذاك على المستوى العالمي، لكان وجه العالم اليوم آخر. لذلك فإن سياسة القيادة السوفييتية بعد المؤتمر العشرين ما أضرت فقط بشعوب العالم الثالث، بل أضرت أيضاً وقبل كل شيء بشعوب  الاتحاد السوفييتي التي  انهار نظامها الاشتراكي بسبب عدم إحداث التغيير المطلوب في ميزان القوى  الدولي والذي كان تحقيقه ممكناً، وكانت الحرب الكورية والفيتنامية والثورة الكوبية دليلاً على ذلك. لكن الذي جرى أنه بعد استكمال نظام الاستعمار الجديد لمقوماته، وبعد انتهاء الموجة الصاعدة في الخمسينات، انتقلت الإمبريالية، دون مقاومة تذكر، إلى هجوم واسع على كل جبهة العالم الثالث مثبتة أنظمة ذات نموذج واحد في نهاية المطاف تتميز بالشعارات اليسارية والتطبيقات اليمينية، بالشعارات الشعبوية والسياسات المعادية للديمقراطية تجاه الجماهير الشعبية، وهذا النموذج اليوم هو ما نشهد انهياره بعد ن استنفد مهماته التاريخية في الوقوف ضد ما سُمي «بالمد الشيوعي»، وبآن واحد في عدم قدرته على تحقيق كامل متطلبات الإمبريالية الأمريكية وأهدافها.

إن الأزمة الإمبريالية اليوم تتطلب منها تغيير هذه الأنظمة عبر ما تسميه بتغيير خرائط العالم وألوانها لإيجاد النماذج الملائمة للعولمة المتوحشة.

  • بينت الحياة أن أي نظام اقتصادي اجتماعي حتى ولو كان اشتراكياً، إذا لم يحقق وتائر النمو الضرورية لتلبية حاجات الناس، فمصيره الهلاك. وقد أدى تطبيق الوصفات الرأسمالية لمعالجة الاقتصاد الاشتراكي منذ أوائل الستينات إلى استفحال أمراضه الجديدة التي كانت معالجتها ممكنة بطرق مستحدثة، لا تؤخذ وصفاتها من جعبة تجربة الرأسمالية، لأن ذلك أدى إلى حساسية مفرطة في الجسد الاقتصادي ـ الاشتراكي مما أبطأ وتائر نموه المعهودة تاريخياً بالتدريج، وصولاً إلى حالة لا نمو فعلياً في الثمانينات. هذا الموضوع يتطلب من الفكر الماركسي دراسة التجربة السابقة وإيجاد الحلول الإبداعية الجديدة كي تكون الأنظمة الاشتراكية القادمة أرقى وأعلى مستوى مما سبقها. وهنا يجب أن لا يفوتنا التذكير أن المدرسة الاقتصادية للمؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي قد تجاهلت تحذيرات ماركس وأنجلز ولينين حول خطر الطابع البضاعي النقدي على الاقتصاد الاشتراكي وحول إمكانية إعادة إنتاجه للرأسمالية، مما كان يتطلب دائماً تضييق حيز فعله، ولكن الذي جرى كان العكس، وهذا أحد الأسباب الداخلية الأساسية للانهيارات التي جرت بسبب عدم كفاءة الاقتصاد في الظروف الجديدة على تلبية حاجات الواقع وضرورات التطور.

لقد عالج الفكر الماركسي موضوع البضاعي واللابضاعي بشكل معمق، والاستناد إلى المدرسة البضاعية في حل القضايا الاقتصادية قد أدى بالقيادة السوفييتية الجديدة بعد المؤتمر العشرين إلى وضع هدف أمامها، وهو اللحاق بالنموذج الأمريكي، هذا النموذج الذي تثبت الحياة اليوم أنه يتناقض كماً ونوعاً مع مصلحة البشرية، مما يتطلب منذ الآن التفكير الجدي بالمعايير الاقتصادية الحقيقية الفعالة للأداء الاقتصادي الذي يلبي حاجات الناس والمجتمع ولا يتناقض مع الطبيعة.

  • وأخيراً، لابد من القول أن الاعتداء على التاريخ وتسويد صفحاته لم يمس القادة والشخصيات التي هوجمت عملياً، بقدر ما مس وأضر بالشخصيات والقيادات التي قامت بهذا العمل، والتي لم تفقد فقط، مصداقيتها أمام جماهيرها، بل قامت بكبرى الكبائر عندما هزت، جرَّاء ما قامت به النموذج والمثال المتكون تاريخياً في أذهان الجماهير الشعبية للاشتراكية وإنجازاتها. لذلك صحيح ما قاله الرفيق (لودو مارتينيز) قائد الشيوعيين البلجيك: إن قوى الردة في الاتحاد السوفييتي لم تهاجم عملياً لينين، ولكن كل ما استطاعت عمله هو إزالة تماثيله دون مقاومة بعد الحملة الشرسة على تاريخ الاتحاد السوفييتي خلال أربعين عاماً. ونعتقد أن النموذج الصيني في التعامل مع التاريخ والقادة يصلح للتأمل والتفكير، لأن القيادة الصينية بعد « ماو» الذي ارتكب الكثير من الأخطاء لخصت الموضوع بأن (70%) مما قام به هو صح و(30%) غاط وحاولت تصحيح الغلط دون تهديم ثقة الذاكرة الشعبية بالنموذج المتكون تاريخياً. وهنا لا نقصد الدفاع عن أحد، لكن نقصد القول أن الإمبريالية من خلال تطويرها لأدواتها الهجومية الأيديولوجية قد وصلت إلى استنتاج صحيح وهو أن تحطيم الرموز بأي شكل كان يؤدي الى تحطيم الإنجازات والنماذج المرتبطة بهم، وهذا الموضوع هو جزء من جبهة جديدة غير الجبهة الفكرية والسياسية والمطلبية، هي الجبهة الإعلامية النفسية، والمطلوب منا التعرف عليها وتعلم النضال في خنادقها.

 إننا نعتقد أن مساهمتنا هذه في تحليل أسباب الأزمة في الحركة الشيوعية العالمية، لا تهدف إلى مراجعة الماضي بقدر ما تهدف الى تطوير أدوات النضال من أجل المستقبل. وفي كل الأحوال نبقى عند رأينا: أن الخلاف بين الشيوعيين حول الماضي البعيد يجب أن لا يمنعهم من الاتحاد حول المهام الآنية المتفق عليها والمتعلقة بمجرى النضال العام ضد العدو الأساسي، والذي ضاق كثيراً في الظروف الحالية هامش التباين فيه، لسبب بسيط، وهو أن خيار الحل العسكري الشامل الذي تبنته الإمبريالية الأمريكية يضعنا أمام خيار واحد لا غير، خيار المقاومة الشاملة بمختلف الأشكال وعلى جميع الجبهات.

 رابعاً: انعكاس التطورات العالمية على الوضع الإقليمي

إن كل مجرى التطورات والتحليل يبين أن الإمبريالية الأمريكية المحكومة بالحرب، محكومة الآن وفي المدى المنظور بتوسيع رقعة الحرب. وشاءت الظروف أن تكون منطقتنا هي منطقة المواجهة الأولى اليوم مع الإمبريالية الأمريكية وحليفتها الاستراتيجية إسرائيل الصهيونية.

ونحن في هذا الاستنتاج حول الحرب وتوسيع رقعتها، لم نتردد ولم ندخل في إطار التبصير والتنجيم، لأننا انطلقنا من رؤية شمولية للوضع العالمي أساسها التناقضات الداخلية للإمبريالية العالمية، مما سمح لنا بالوصول إلى استنتاجات حول التطورات اللاحقة، وهذا التحليل هو أحد مميزات المنظور الطبقي الذي تسلحنا به الماركسية ـ اللينينية كأداة في التحليل. لذلك لم نتخبط في الرؤية، ولم نضل الطريق في الوصول إلى افتراضات سمحت الحياة بتأكيدها.

واليوم بعد الحرب على العراق نقول: إنه بغض النظر عن الاتجاه اللاحق للضربة الأمريكية ـ الإسرائيلية، فهذه الضربة هي ضرورة عضوية لهما، مما يضع أمام قوى التحرر الوطني العربية مهام كبرى، يأتي في مقدمتها إعادة النظر في طريقة تعاملها مع جماهيرها التي انكفأت عنها خلال المرحلة السابقة، بسبب عدم قدرة هذه القوى على التعبير الدقيق و الصادق عن مصالح هذه الجماهير.

لذلك تصبح قضية إطلاق الحريات السياسية للجماهير الشعبية في البلدان العربية، شرطاً ضرورياً لابد منه لانطلاق هذه الحركة في مرحلتها الجديدة، وهذه الحريات السياسية في حال تحقيقها ستكون الأداة التي تسمح بتحويل الجماهير الشعبية إلى درع حصين وإلى قوة مواجهة هامة جداً ضد قوى العدوان التي يعترف الجميع باختلال ميزان القوى العسكري معها. وليس هناك من مخرج لتعديل الخلل في ميزان القوى إلا بالاعتماد على الجماهير التي لم يجر تجنيدها في الصراع ضد الإمبريالية والصهيونية منذ عام 1948 وحتى الآن، فالذي خسر الحروب هي الأنظمة العربية وليست الجماهير. وفيما هو قادم من المهام والمخاطر لا يمكن الانتصار على المخططات الصهيونية الإمبريالية إلا بالاعتماد على الجماهير، ومن هنا أهمية رفع شعار: «لنجعل من كل مواطن مقاوماً».

إن الحرب العدوانية الأمريكية على العراق قد أكدت صحة التحليل والتوقعات التي أتينا على ذكرها سابقاً ولكنها تسمح لنا بالخروج بعدد من الدروس والاستنتاجات أهمها:

  • إن التعويل فقط على الرأي العام العالمي وعلى رفض عدد كبير من الدول لمنع الحرب بشكل سلمي أصبح أمراً غير ممكن في الظروف الحالية. فحدة الأزمة الرأسمالية وعمقها إلى جانب الاختلال في ميزان القوى الدولي لا يفتح أمام الإمبريالية إلا خيار الحرب.
  • واستناداً إلى ذلك يصبح خيار المقاومة وبكل الأشكال هو الخيار الوحيد أمام الشعوب لأن العدوان الإمبريالي ـ الصهيوني لم يترك أمام الشعوب إلا خيار المقاومة.
  • الآلة العسكرية الأمريكية يمكن مواجهتها إما بآلة عسكرية مماثلة وهو أمر غير ممكن في الظروف الحالية، أو بمقاومة شعبية واسعة النطاق وهو الأمر الوحيد الممكن.
  • سقوط النظام العراقي في الحرب العدوانية الأمريكية على الشعب العراقي وبهذه السرعة يثبت الحقيقة التي أكدنا عليها مراراً «أن النظام الاستبدادي لا يؤسس إلا للهزائم» لأن تلك الأنظمة لا تعتمد إلا على الأجهزة القمعية دون أي اعتبار لكرامة الوطن والمواطن.
  • إن تجنيد أي شعب في معركة وطنية كبرى لا تكفي فيه النداءات والمواعظ في اللحظة الأخيرة، فبقدر ما تتم تلبية الحاجات الاقتصادية ـ الاجتماعية والديمقراطية لأي شعب بقدر ما يمكن حشده وتعبئته وتجنيده لخوض المعارك الفاصلة مع العدو دفاعاً عن أرضه ومصالحه، فالدفاع عن الأرض مرتبط بالدفاع عن المصالح الشعبية المباشرة وغير المباشرة.
  • إن الحاجات الاقتصادية الاجتماعية والديمقراطية تندمج اليوم فيما بينها لدرجة أنه لايمكن فصلها عن بعضها بعضاً، ولعل أحسن تعبير عنها هو الكرامة الوطنية. فشعب كرامته غير مصانة في وطنه لا يمكنه الدفاع عن كرامة الوطن حتى لو أراد ذلك، وبالعكس فالحفاظ على كرامة الوطن ممكن فقط بتأمين كرامة المواطن كاملة غير منقوصة.
  • نعتقد جازمين اليوم بأن العراق سيخرج من ربقة الاحتلال الأمريكي الذي يغوص في مستنقع سيكلفه كثيراً، وهاهي المقاومة الشعبية المتصاعدة يومياً تفاجئ المحتلين وتحرجهم وتضيق الخيارات أمامهم. ويجب الاعتراف هنا، وبغض النظر عن رأينا بالموضوع، أن خيار صدام أو الأمريكان قد شل الحركة الشعبية إلى حد كبير ومنعها من تفجير طاقاتها في المراحل الأولى من المواجهة، إلى جانب أن هذا الوضع، وبسبب التعقيدات المتكونة تاريخياً قد قسم حتى الشارع الوطني بين رافض وشامت منتظر وموافق ضمناً على العمل العسكري الأمريكي. أما اليوم فإنه تنفتح آفاق على أرضية توحيد كل القوى الوطنية المعادية للاحتلال الأمريكي بشكل يعزل نهائياً القوى العميلة المرتبطة بأسيادها الأمريكان والإنجليز، والتي ليس لها أية قاعدة شعبية، ولا دعم لها إلا أسنة حراب جيوش الاحتلال.
  • لقد برهنت تجربة الاحتلال الأمريكي للعراق أن المرحلة التمهيدية المتمثلة بالقصف الإعلامي ـ النفسي ليست أقل أهمية من المعركة العسكرية نفسها، وهذا طبيعي في ظل التطور  المذهل لأجهزة الإعلام الجماهيرية اليوم والتي أصبحت أداة تحكم هائلة بالوعي الجماهيري. حتى أن الأمر وصل ببعضهم للقول إن الإعلام هو الذي يقرر اليوم من انتصر ومن خسر في المعركة العسكرية.
  • إن هذا الواقع الجديد يطرح أمامنا مهام جديدة صعبة، فالمطلوب تعلم مواجهة هذا الإعلام عبر تفكيك رموزه وآلياته وصنع إعلام مواجه له. كما يجب أن ندرك منذ الآن خطورة هذا الإعلام الذي تعّول عليه الإمبريالية الأمريكية الكثير وصولاً إلى إسقاط دول وأنظمة دون معارك عسكرية، وتجربة أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي لا تزال بحاجة للدراسة من هذه الزاوية للخروج بالدروس الضرورية للمواجهات اللاحقة.
  • لقد برهنت الحرب العدوانية على العراق سقوط النظام الدولي القائم بعد الحرب العالمية الثانية، والذي مثلته الأمم المتحدة ومؤسساتها. فهذا النظام أصبح من جهة لا يلبي مصالح تلك القوة الساعية للهيمنة العالمية أي الإمبريالية الأمريكية كما أنه من جهة أخرى لا يلبي مصالح الشعوب المناضلة لتغيير النظام العالمي القائم بجملته.
  • كما برهنت على سقوط النظام العربي القائم والمتمثل بالجامعة العربية واتفاقاتها ومؤسساتها، والخلاصة إن النظام العربي برهن على أنه غير قادر على مواجهة الاستحقاقات الجديدة للمرحلة. وقياساً على ذلك يمكن القول بأن الأنظمة السياسية العربية المكونة لهذا النظام المتفسخ قد استنفدت نفسها وانسدت آفاقها التاريخية انسداداً نهائياً مما يفتح المجال لظهور خيارات أخرى.
  • وأخيراً برهنت أحداث الأسابيع الماضية على أن الحركة الجماهيرية في العالم بأجمعه وفي العالم العربي هي حركة صاعدة وأنها بشكل عام سباقة للأحزاب السياسية المتواجدة على الساحة، وما حركة المتطوعين العرب تجاه العراق، بغض النظر عن التعقيدات التي رافقت العملية، إلا دليل على أن الحركة العفوية للجماهير تخطت التنظيمات السياسية التي بقيت في أحسن الأحوال في إطار البيانات والشعارات بينما تظهر التجربة أن الجماهير قد بدأت تنتقل إلى الفعل. إن الخطورة في هذا الموضوع تكمن في أن هذا الفعل إذا ما بقي عفوياً فسيتلاشى دون أن يقدم نتائج على الأرض، أما إذا أوجد تنظيماته وقياداته فهو قابل للتطور ليتحول إلى عامل أساسي في المعارك القادمة.
  • إن تحرير جنوب لبنان والانتفاضة في فلسطين، والمقاومة في العراق تبين أن المقاومة المسلحة المستندة إلى الجماهير هي التي تحقق على الأرض مواقع متقدمة ونتائج، وإن قوى التحرر العربية، قد عادت إلى المقدمة في الصراع الضاري مع الإمبريالية، ولابد من حشد كافة الإمكانات لدعم وتطوير هذه المقاومة.

ويأتي العدوان الإمبريالي الأمريكي على العراق واحتلاله والسيطرة على نفطه من أجل تأمين موقع استراتيجي في المنطقة، وتحويل العراق إلى قاعدة عسكرية ثابتة لتهديد كل المنقطة والانتقال إلى دول أخرى وصولاً إلى مقولة كولن باول حول تغيير البنى السياسية ولون الخرائط في المنطقة. ويراد من ذلك خلق تصور أن من لا يقبل بسيطرة الإمبريالية فمصيره مثل العراق، تدخل عسكري، وتدمير للبلد وقتل للشعب.. لذلك لا مكان نهائياً لرأي بعض الانهزاميين الذين يدعون بسب ذلك للقبول بأية حلول لتجنب الضربة. إن هذا الرأي يصب في خانة الاستسلام والهزيمة، وتيئيس الجماهير من جدوى المقاومة التي بدأها الآباء بخيار ميسلون، وعلينا السير بها حتى النصر الأكيد وفق منطق التاريخ وما أكثر الشواهد على ذلك.

ورغم المحاولات الأمريكية لتشكيل حكومة محلية على غرار النموذج الفلسطيني، أي حكومة تقوم في ظل حراب المحتل، ولا يمكن لها عدم تنفيذ أوامر الاحتلال، لكن الوقائع تثبت أنه لا يمكن منع المقاومة، والقتال ضد الاحتلال، وبالتالي لا مكان لأي سلطة في ظل الاحتلال، والبديل هو قوى مقاتلة ولجان وطنية على الأرض تؤمن مستلزمات الصمود والمقاومة عبر تمتينها للوحدة الوطنية والشعبية، وأي تنازل عن هذا الخيار يخدم الأهداف العدوانية للاحتلال، وعلى هذا الأساس يمكن أن يجري فرز وطني اجتماعي حقيقي للقوى السياسية المختلفة بناءً على موقفها هي من أي احتلال.

إن تصاعد المقاومة في العراق، وسقوط أعداد كبيرة من القتلى والجرحى في صفوف قوات الاحتلال، يؤكد أن خيار الكفاح الشعبي المسلح هو الخيار الوحيد في مواجهة أي احتلال، فتجربة التاريخ تبرهن أن الاحتلال الكلاسيكي لا يجابه إلا بمقاومة كلاسيكية، ونحن على ثقة أن المقاومة الجارية في العراق اليوم هي برسم الشعب العراقي كله، فبغض النظر عن وتيرتها وتصاعدها في هذه المنطقة أو تلك، فمنطق الحياة سيفرض الإجماع الشعبي الجماهيري على رفض الاحتلال بتصعيد المقاومة في مختلف المدن العراقية.

إن الشعب العراقي المجيد وطبقته العاملة الباسلة الذين خاضوا النضالات الوطنية والطبقية من أجل التحرر الوطني والاجتماعي على مدى القرن العشرين، قادرون على إيجاد الشكل المناسب لإخراج قوات الاحتلال، وهم إن عانوا من قمع نظام صدام حسين الديكتاتوري الذي منعهم عملياً من الدفاع عن استقلالهم الوطني في بادئ الأمر إلا أنهم يدركون أن الاحتلال الأمريكي والبريطاني لن يأتي بالحرية والديمقراطية. حيث انتقل العراق من حكم الطغاة إلى حكم الغزاة وهذا ما لا يقبله الشعب العراقي المجيد الذي بدأ المقاومة ضد المحتل أسرع بكثير مما توقعه المحللون السياسيون.

وهذا يؤكد أن النضال الوطني للشعوب العربية سيترافق في المرحلة المقبلة مع النضال الطبقي والديمقراطي، وليست بدون دلالة أن المقاومة ضد المحتل في العراق تترافق مع المظاهر الشعبية المطلبية لأن الاحتلال زاد من إفقار الشعب العراقي ونهب ثرواته المادية والثقافية والمعنوية.

ومن جهة أخرى تثبت التجربة الفلسطينية من خلال حجم التآمر على الشعب الفلسطيني والهجمة التي يتعرض لها، حجم الخطر الذي يشكله استمرار الانتفاضة الشعبية والمقاومة المسلحة في فلسطين على المخطط الأمريكي الصهيوني، فمشروع خارطة الطريق، وزيارة باول للمنطقة، ومن ثم اجتماعات شرم الشيخ والعقبة، والمؤتمر الاقتصادي في الأردن، وصولاً إلى اتفاق جنيف الأخير، يستهدف ليس فقط ضرب النضال الوطني الفلسطيني وإلغاء الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، بل تطويع المنطقة العربية بأسرها، وقد عبرت الإمبريالية الأمريكية عن حقيقة مشروعها الذي يرى أن استمرار نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني مع تصاعد المقاومة المسلحة في العراق، يهدد المصالح الأمريكية مباشرة ويشكل نموذجاً للشعوب المقهورة في مواجهة الاستغلال والتحكم الرأسمالي بمصيرها وثرواتها.

إن ما يجري اليوم في فلسطين هو محاولة تصفية القضية الفلسطينية عبر مشاريعها السياسية المشبوهة، بعد فشل الاحتلال لكسر النضال الفلسطيني بالقوة العسكرية، وبالفعل فإن خارطة الطريق ليست مشروعاً للحل السياسي، بقدر ما هي مجموعة من الإجراءات الأمنية المطلوب الالتزام بها لتأمين الأمن الإسرائيلي، كما أنها تستهدف اختلاق اقتتال فلسطيني داخلي لضرب الوحدة الوطنية التي فرضتها الانتفاضة.

إن الإمبريالية الأمريكية تحمي الكيان الصهيوني، لأن إسرائيل هي جزء من الإمبريالية العالمية، ومواجهة إسرائيل هي مواجهة للإمبريالية، والعكس صحيح. إن الشعب الفلسطيني قد توحد بفعل الانتفاضة ولم يتأثر بسياسة الحكومة الفلسطينية القديمة والجديدة التي طُلب منها وقف الانتفاضة عبر اعتقال مناضليها، وحتى إبادتهم إذا لزم الأمر. والرد على الإمبريالية والسياسات الصهيونية لا يمكن أن يمر إلا عبر المزيد من المقاومة، والمزيد من تصعيدها.

وتأتي في هذا السياق، الضغوطات والتهديدات التي تمارس ضد سورية ولبنان، وكان آخر تجلياتها «قانون محاسبة سورية» الذي يهدف إلى إضعاف البلدين في دعمهما ومساندتهما للشعب الفلسطيني، وفي رفضهما لاحتلال العراق. كما إن هذا القانون يهدف إلى خلق الجو الإعلامي النفسي العالمي الضروري لتوسيع رقعة الحرب والهيمنة الأمريكية في المنطقة إذا لزم الأمر. ولا نريد القول هنا، أن الجانب الاقتصادي من هذا القانون ليس ذا أهمية، فإن كان شكل هذا القانون بالدرجة الأولى هو عقوبات اقتصادية، ولكن جوهره بالدرجة الأولى هو سياسي يسعى إلى تأمين المقدمات الضرورية للحركة اللاحقة للإمبريالية الأمريكية وإسرائيل الصهيونية في المنطقة. ومنذ اللحظة الأولى لم يكن لدينا أي شك أن الإمبريالية الأمريكية بعد تنفيذ مهمتها الأولى في المنطقة باحتلال العراق، ستسعى إلى التصعيد مع الدول المجاورة له، لذلك لم نتفاجأ ولم نبن آمالاً وأوهاماً حول حسابات غير دقيقة بإمكانية إيقاف سير إقرار هذا القانون في مرحلة من مراحله، ونعتقد أن الجهد الأساسي في مواجهة العنجهية الأمريكية تجاه بلادنا يجب أن يوجه إلى القوى الموجودة في الشارع الأمريكي وفي الغرب عموماً، هذه القوى التي تخوض نضالاً باسلاً ضد العولمة المتوحشة والتي يمكن اعتبارها حليفتنا الأساسية في المعركة القائمة، ولنا في مثال نضال الشعب الفيتنامي على الجبهة الخارجية أكبر دليل على ذلك، فهي في لحظة معينة تحولت إلى جبهة فاعلة مساعدة للجبهة الأساسية ولعبت دورها المطلوب في حسم المعركة في الاتجاه الصحيح. إن كل تعويل على صراعات ما وتباينات في الإدارة الأمريكية تجاه هذه القضية، هو قبض للريح لن يساهم إلا في زرع الأوهام لدى الجماهير الشعبية، وبالتالي لن يسمح بالوصول إلى درجة التعبئة الضرورية لها تحضيراً للمواجهات القادمة.

مما يلفت النظر، أن بعض السياسيين الأمريكيين المعاديين للسياسة الأمريكية الحالية قد تنبهوا إلى المأزق الأمريكي في المنطقة، ويرون أن الإدارة الأمريكية اليوم مضطرة لتوسيع رقعة الحرب، ولكن قواها البشرية و العسكرية لا تسمح بذلك، مما سيضطرها للجوء إلى أحد الخيارين أو كليهما، وهما: الاستفادة من القدرة العسكرية الإسرائيلية مباشرة، واستخدام الأسلحة النووية التكتيكية الجديدة. وهذا ما يمكن أن يُدخل المنطقة في مرحلة جديدة من الصراع غير معروف نتائجها وأبعادها الإقليمية والعالمية اللاحقة.

وضمن هذا السياق، يأتي الموقف السياسي العربي ليشكل نقطة ضعف كبرى تؤثر على مجمل التطورات في المنطقة، وتعتبر أهم عوامل تجديد العدوانية الأمريكية والإسرائيلية. فالحكام العرب يخافون من شعوبهم أكثر من خوفهم من مخططات الإمبريالية الأمريكية التي يمكن أن تمس عروشهم وسلطاتهم، وهذا أمر لايمكن استبعاده في اللحظة الحالية ضمن إعلان الولايات المتحدة الأمريكية إعادة النظر في بنى دول المنطقة. ومن جهة أخرى لا تزال الحركة الشعبية العربية، رغم حالة الاحتقان الكبرى الموجودة لديها ضد الإمبريالية الأمريكية وضد إسرائيل الصهيونية، دون مستوى المتطلبات التي تفرضها خطورة الأوضاع الحالية. وهذا لايمكن إرجاعه إلا لسببين:

  • القمع السياسي، وضيق الهامش الديمقراطي إلى درجة انعدامه.
  • وعدم قدرة التنظيمات السياسية على الارتقاء إلى مستوى التأثير الفعال على الحركة الجماهيرية في اللحظة الحالية.

ولكن من جهة أخرى، يجب الاعتراف أن الحركة الجماهيرية في لحظات معينة أثبتت أنها متقدمة على كل تنظيماتها السياسية، فحركة المتطوعين العرب العفوية تجاه العراق، تستحق الدراسة المتأنية واستخلاص النتائج الضرورية، كما أن تحول ثقافة الاستشهاد إلى ثقافة شعبية في الشارع الفلسطيني، الذي لا يوجد فيه من يرفع الراية البيضاء، هي قضية يجب تحويلها إلى نموذج يقتدى به كي ينتشر على أوسع نطاق في ظروف اختلال ميزان القوى مع العدو، وخاصة في المجال العسكري التكنيكي.

إن استمرار مختلف أشكال المقاومة وتطويرها وجعلها قادرة على توجيه ضربات أكثر إيلاماً للعدو الأمريكي الصهيوني وتأمين كافة الأشكال الشعبية للمشاركة العربية بهذه المقاومة سيخلق وضعاً جديداً وأرضية تسمح بالتغيير التدريجي لميزان القوى إلى حد فرض الهزيمة العسكرية والسياسية على الولايات المتحدة وإسرائيل معاً. وهذا يتطلب من القوى الوطنية عموماً، ونحن الشيوعيين خصوصاً، بذل المزيد من الجهد لتطوير ودعم الحركات الشعبية في أنحاء العالم العربي كله. وتأمين جميع الأشكال المناسبة لدعم المقاومة في كل مكان، ونحن متأكدون أن انتصارها سيؤمن أجواء جديدة، وسيضع الأساس للتغيير التحرري الديمقراطي القادم الذي لن يكون إلا محصلة طبيعية لنهوض حركة التحرر العربية في الظروف الحالية، والذي نرى تباشيره ولو بشكل جنيني حالياً. لذلك يمكن التأكيد على ضرورة التفاعل بين فصائل حركات التحرر، فبقدر ما تتحرك هذه الفصائل بهذا الاتجاه، بقدر ما تسرع باتجاه الانتصار المطلوب. ويمكن القول إن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل الصهيونية تدركان ذلك جيداً وتعملان على خلخلة العلاقات العربية العربية والاستفراد بكل دولة عربية على حدة. وهما إن استطاعتا إخضاع الموقف الرسمي العربي، فإن ذلك يملي علينا ضرورة زيادة فعالية النشاط التضامني الكفاحي الشعبي العربي، لتنتقل القضية إلى يد الشعوب في ظل تخاذل الأنظمة. وفي حال عدم حدوث ذلك، فإن فرصة تاريخية ستهدر وستستفيد من الوضع الناشئ أمريكا وإسرائيل لإعادة ترتيب المنطقة.

إن قوى التحرر الوطني العربية معنية بتعميق وتطوير تحالفاتها بالمنطقة مع قوى التحرر الوطني الشقيقة، الإيرانية والتركية والكردية. فاتساع الهجمة الإمبريالية يضع جميع هذه القوى موضوعياً في خندق واحد.

إن مقياس الانتماء لحركة تحرر، هو مدى الاندماج في النضال العام ضد الإمبريالية. فالفرز الذي جرى مثلاً خلال العقود الأخيرة في صفوف قوى حركة التحرر العربية، قد أخرج قوى منها اتجهت باتجاه المصالحة مع الإمبريالية الأمريكية وإسرائيل الصهيونية.

إن التطورات الأخيرة في المنطقة قد زادت من الوزن النوعي للقضية الكردية. فالشعب الكردي من المكونات الأساسية للمنطقة، وقد تعرض خلال تاريخه للاضطهاد، وخاصة على يد القوى الاستعمارية والأنظمة الاستبدادية التي فرَّطت بحقوقه المشروعة، ولكن الإمبريالية الأمريكية اليوم، مستغلة شعوره بالإجحاف القومي، تحاول استمالة بعض القوى فيه، موحية لها بإمكانية تحقيق مطالبها القومية المختلفة. وواضح أن مشروع العولمة الأمريكي يتناقض جذرياً مع مصالح كل شعوب المنطقة، بما فيها مصالح الشعب الكردي. لذلك ترتدي أهمية كبرى قضية يقظة ووعي قوى حركة التحرر الوطني الكردية لألاعيب الإمبريالية وعدم الثقة بها بتاتاً، وعدم الوقوع بأحابيلها بالاستناد على تجربتها التاريخية القريبة.

إن انزلاق أية قوة نحو أحضان الإمبريالية الأمريكية، يخرجها حكماً من إطار حركة التحرر، وعلى حركات التحرر الشقيقة المجاورة أن تلعب الدور المطلوب منها لإفشال المخططات الأمريكية من خلال منع تصوير الصراع وكأنه صراع بين الشعوب القاطنة للمنطقة، وتوضيح جوهره الحقيقي. مما سيمنع تغذية التيارات الشوفينية هنا وهناك. ومن خلال الاعتراف الكامل بالحقوق المشروعة لأي شعب من الشعوب دون المساس بالتركيب الجغرافي ـ السياسي للمنطقة، أي بالحدود الوطنية القائمة والسيادة الوطنية.

إن وجود بديل وطني ديمقراطي حقيقي يعبر عن مصالح حركات التحرر في المنطقة، هو الطريقة الوحيدة لمنع أي زعم كان بأن مصالح أي شعب منها يتطابق مع مصالح الإمبريالية الأمريكية.

ولا بأس من لفت النظر، أن الإمبريالية الأمريكية كقوة مأزومة، ستضطّر إلى تغييرات كثيرة في قواعد اللعبة في المنطقة، وستضحي حينذاك بأضعف الحلفاء المفترضين لديها، لأن الصراع في المنطقة بالنسبة لها في نهاية المطاف، هو صراع على النفوذ العالمي في مواجهة خصومها العالميين.   

وهكذا نرى أن السياسة الأمريكية والإسرائيلية الصهيونية في المنطقة تتميز بالسمات التالية:

  • محاولة تفكيك النظام العربي القائم لإدخال إسرائيل في نسيج المنطقة.
  • اعتبار أي مقاومة إرهاباً يجب تصفيتها.
  • تأمين المقدمات الضرورية لنقل المعركة من منطقة إلى منطقة، ولا يخرج عن هذا الإطار، السعودية والسودان ومصر وسورية ولبنان وإيران...
  • تأمين أجواء دولية مساندة لسياستها، أو تخفيض المقاومة الدولية لسياستها إلى الحد الأدنى.
  • تهيئة الجو للقبول بالأمر الواقع، والانتقال إلى إعادة الرسم التدريجي لخرائط المنطقة، عبر تغيير بنية الدول والمجتمعات.

والمطلوب في مواجهة ذلك:

  • أكبر ضغط شعبي ممكن لشل تردد النظام العربي الرسمي وتخاذله.
  • الانتقال بالحركة الجماهيرية إلى الشارع بأسرع وقت ممكن.
  • تأمين أشكال تضامنية عملية، وخاصة في دعم البؤر التي تجري فيها مقاومة نشيطة وفعالة، مما يتطلب تطوير علاقات التعاون والتضامن والتنسيق بين قوى حركة التحرر العربية.
  • نشر ثقافة المقاومة دفاعاً عن الوطن حتى الانتصار أو الاستشهاد، وهي ثقافة لها جذورها في الوجدان الشعبي، والمطلوب إنعاشها وتشجيعها وإيجاد الأشكال الملائمة لها.
  • مقاطعة البضائع الأمريكية بشكل واسع جماهيرياً، واعتبار الدولار أهم بضاعة أمريكية، وتنظيم تحركات جماهيرية جدية بهذا الاتجاه.
  • تفعيل أشكال التأثير الفعال بالرأي العام العالمي الذي أخذ يعبر عن رأيه بشكل فعال بالشارع عبر القوى المعادية للعولمة.

 خامساً: سورية نقطة مواجهة هامة

تخوض سورية اليوم المعركة الأشرس في تاريخها ضد مخططات الامبريالية الأمريكية وإسرائيل الصهيونية، ومن كل ما تقدم يتبين أن هذه المخططات تهدف إلى إخضاع وتطويع منطقتنا ضمن إطار مخططاتها العالمية الشمولية، من هذه الزاوية تلعب سورية تاريخياً من الزاوية الجغرافية السياسية، ومن الزاوية المعنوية ــ السياسية أهمية كبرى لإحباط هذه المخططات، ومن ثم إلحاق الهزيمة بها.

وهذا الدور ليس جديداً على سورية، فهي لعبته طوال القرن العشرين من النضال من أجل الاستقلال، إلى النضال ضد الأحلاف الاستعمارية بعد الاستقلال، وصولاً إلى مواجهة العدو الإسرائيلي في المراحل المختلفة من الصراع. ويدرك الكثير من الاستراتيجيين، أن سورية هي مفتاح المنطقة، فأي مخطط إمبريالي لايمكن استكماله دون تطويع سورية، بل أن مقاومتها وحدها، كما أثبتت تجربة التاريخ قادرة على إفشاله مهما حقق من تقدم في المنطقة. لذلك ترتدي قضية تعزيز صمود الشعب السوري أهمية كبرى في الظروف الحالية، هذا الصمود الذي كانت الوحدة الوطنية عماده دائماً. وعلى أساس ذلك فإن إيجاد المناخ الملائم لتعزيز الوحدة الوطنية، قضية ذات أهمية قصوى في الظروف الحالية، وبما أن هذه الوحدة الوطنية تتكون ضمن ظروف اقتصادية اجتماعية وسياسية محددة، فلابد من بحث جميع هذه القضايا:

  • الوضع الاقتصادي ـ الاجتماعي:

تميز التطور الاقتصادي في البلاد خلال السنين الماضية بالسمات التالية:

  • انخفاض نسب نمو الدخل الوطني إلى ما تحت معدلات النمو السكاني، مما يعني عملياً الانخفاض المطلق المستمر للحصة الوسطية المحتملة للفرد من الدخل الوطني.
  • رغم كل زيادات الأجور التي تمت، لم يجر تحسن في مستوى معيشة الجماهير الشعبية الواسعة، وحافظت الهوة بين الأجور والأسعار على وضعها. والتي تتميز بفارق بين مستوى الأجور وضرورات مستوى المعيشة يصل إلى ثلاثة  أو أربعة أضعاف.
  • لم تعط حملات مكافحة الفساد المعلنة أي نتائج تذكر على مستوى معالجة موضوع النهب الذي يتعرض له الاقتصاد الوطني، وخاصة من قبل البرجوازية الطفيلية والبرجوازية البيروقراطية. وتقول آخر الأرقام أن الأموال المودعة في الخارج تصل إلى (100 ـ 180) مليار دولار.
  • استمر معدل البطالة العالي، ولم تفلح بعض المحاولات الإصلاحية الطفيفة في إيجاد حلول تذكر لهذه المشكلة الاقتصادية ـ الاجتماعية الكبرى. إذ يصل اليوم حجم البطالة إلى أكثر من (20%) من قوة العمل في أحسن التقديرات. أو إلى (12 ـ 15 %) من السكان، وإلى 50% بين الشباب.

وترافق كل ذلك بنقاشات واقتراحات مختلفة حول اتجاهات الإصلاح الاقتصادي المفترضة، لم تؤد حتى اليوم إلى الوصول إلى برامج تتضمن أهدافاً محددة مجدولة زمنياً. ويجري الصراع في هذه المجال بين اتجاهين أساسيين يعكسان مجرى الصراع الطبقي في البلاد، وهما:

  • اتجاه قوى السوق الكبرى الملتحقة ببرامج العولمة المتوحشة.
  • الاتجاه النقيض الذي يعكس المصالح الوطنية ومصالح الجماهير الشعبية في البلاد.

وما بين هذين الاتجاهين، هناك العديد من التلاوين المتأرجحة في طروحاتها ما بينهما.

إن اتجاه قوى السوق الكبرى مستفيداً من الأوضاع العالمية والإقليمية المستجدة، يريد اليوم فرض برنامجه كاملاً بلا نقصان، وبغض النظر عن الأشكال التخفيفية التي يقدم فيها هذا البرنامج من أجل تسهيل مروره، إلا أن جوهره يستند إلى الأمور التالية:

  • اعتبار قطاع الدولة السبب الرئيسي في المشاكل التي يعاني منها الاقتصاد الوطني من انخفاض معدلات النمو إلى انخفاض مستوى المعيشة.
  • يُطالب على هذا الأساس بالانفتاح الكامل على قوى السوق الرأسمالية العالمية ويركز بالدرجة الأولى على الانفتاح المالي النقدي، الذي يسهل حركة الرساميل من وإلى البلاد. الأمر الذي لابد منه لإخراج الأرباح الجديدة المتوفرة إذا ما تم هذا الأمر.
  • لذلك يركز الآن على أن اقتصاد السوق المفتوح، مع إلغاء فعلي لأي دور للدولة اقتصادي ـ اجتماعي، حتى في الإطار التوجيهي هو أمر ضروري للانتعاش الاقتصادي المأمول.

ويلاقي هذا البرنامج قبولاً خارج القاعدة الاجتماعية المستفيدة منه أحياناً، وهي بالذات قوى البرجوازية الطفيلية، لأن حجم النهب الكبير الذي يتعرض له قطاع الدولة على يد هذه القوى المتواطئة نفسها مع أوساط البرجوازية البيروقراطية يخلق بلبلة تسمح بالدعاية التي تحمل قطاع الدولة الخاسر شكلياً، المخسر فعلياً، مسؤولية الوضع الاقتصادي ـ الاجتماعي الذي تعاني منه البلاد.

وهنا يجب لفت الانتباه إلى أن أوساط من البرجوازية البيروقراطية، هي ليست من حيث المبدأ ضد هذا البرنامج، ولكنها لم تستطع بسبب الظروف العالمية والإقليمية التي تستفيد منها إلى حد كبير قوى البرجوازية الطفيلية، أن تصل إلى اتفاق معها حول تقاسم جديد للمصالح والحصص والوظائف. وينعكس هذا الموضوع في مجال الرؤى المختلفة المطروحة حول الإصلاح الاقتصادي، وبالتالي حول وظيفة قطاع الدولة وحجمه في المرحلة اللاحقة.

والجدير بالذكر أن الضغط الذي يُمارس لإلغاء أي دور للدولة في الحياة الاقتصادية ـ الاجتماعية، لم تثبت الحياة فائدته في أية بقعة من العالم حيث جرى ذلك. بل بالعكس يمكن القول أن بعض التجارب الانفتاحية تحت شعار اقتصاد السوق والتي حققت نتائج مؤقتة في مرحلة ما، ما لبثت أن انهارت، مثل تجربة جنوب شرق آسيا، قد جرت كلها في ظل دور توجيهي تخطيطي قوي للدولة.

إن الاستعصاء الذي يواجه قوى السوق الكبرى محلياً، دفعها مؤخراً للابتزاز مهددة أنه إذا جرى تأخير خصخصة قطاع الدولة، فهو قد يصبح في وضع لا يمكن فيه التفكير بالتعامل معه بحجة أنه أصبح خردة، وهذه المحاولة واضحة الأهداف من أجل تسريع إنهاء مقاومة بعض أوساط البرجوازية البيروقراطية لخصخصة قطاع الدولة، هذا القطاع الذي كان خلال فترة طويلة مجالاً واسعاً لنهبها ولثرواتها غير المشروعة.

ونرى أن الخصخصة الكاملة أو الجزئية لقطاع الدولة ما هي إلا محاولة لإعادة هيكلة النهب الجاري، وإعادة اقتسام الحصص بشكل جديد بين الناهبين السابقين بمختلف شرائحهم.

أما الاتجاه الثاني، فيرى أن المشكلة لا تكمن في طبيعة ملكية قطاع الدولة من حيث المبدأ، بل في شكل التوزيع الذي يجري للثروة المنتجة فيه، والتي تساهم بجزء هام جداً من الدخل الوطني، هذا التوزيع الذي يعتبر النهب الكبير أحد أشكاله الأساسية. والغريب أن تكون الكثير من مؤسسات القطاع العام خاسرة دفترياً، بينما كل من يتعامل معها من خارجها إن كان من حيث الإمداد أو التسويق رابحاً بشكل فاحش، وهذا إن كان يدل على شيء، فإنه يدل أنه عبر هذه الآلية يجري شفط القيمة المنتجة في قطاع الدولة لصالح قوى النهب. ليظهر في نهاية المطاف أمام المجتمع أنه هو الخاسر والمسبب لكل المشاكل، بينما في واقع الأمر فإن المشكلة الحقيقية تكمن في آليات النهب التي تستخدم آليات توزيع وإعادة توزيع الدخل الوطني لصالحها إلى حد كبير.

لذلك فإن المشكلة لا يمكن أن تُحل فقط بمحاربة الفساد المتجلي بأشخاص معينين، إذا جرى ذلك بقدر ما يجب كسر آليات النهب التي تؤدي إلى كبح التطور الاقتصادي، وإلى سرقة لقمة الشعب.

ومن هنا فإن الإصلاح الإداري الذي يهدف إلى وضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، لن يحل المشكلة دون كسر آليات الفساد القادرة على إعادة إنتاج النهب بغض النظر عن الأشخاص الذين يديرون الاقتصاد الوطني.

لذلك يرتدي موضوع أولويات الإصلاح الاقتصادي أهمية كبرى، ومع الأسف الشديد لم تنعكس هذه الأولويات بشكل واضح وصحيح في برنامج الإصلاح الاقتصادي، أو في البيانات الحكومية. فما هي هذه الأولويات حسب وجهة نظرنا:

  • تحديد حجم الفاقد من الاقتصاد الوطني الذي يسببه النهب الكبير حجماً وموقعاً، والعمل على إغلاق كل منافذ النهب. ويقدر الاختصاصيون أن نسبةً تتراوح بين (20 ـ 30%) من الدخل الوطني السنوي تذهب نهباً خارج دورة الاقتصاد الوطني لتحط الرحال في نهاية المطاف في البنوك الأجنبية، وهذا ما يفسر حجم الأموال الكبيرة المهربة والتي لا خلاف في أن حجمها قد تجاوز الـ(100) مليار دولار، والتي إذا قُسمت على سنوات الخطط الخمسية السابقة، منذ الرابعة منها، لبلغ الحجم الوسطي للنهب السنوي (4) مليارات دولار، وهو ما يعادل (20%) من الدخل الوطني المنتج سنوياً في الفترة الأخيرة، وما يعادل (130%) من كتلة الأجور سنوياً للعاملين في الدولة، وما يعادل (70%) من كتلة الأجور العامة في البلاد، وما يعادل الحجم السنوي التقريبي المعلن لأرباح قطاع الدولة، وما يعادل أخيراً (30%) من كتلة الأرباح السنوية بشقيها العام والخاص.

إن الحجم الكارثي للنهب أصبح معيقاً لكل التطور اللاحق، وأصبح من المستحيل حل أي قضية اقتصادية ـ اجتماعية، دون الإيقاف الفوري والسريع لهذا النزيف.

إن إعادة هذا الحجم من الفاقد إلى دورة الاقتصاد الوطني سيسمح بإقلاعه بوتيرة عالية تسمح بحل كل مشاكله خلال فترة قصيرة، لذلك يصبح الحديث عن جلب استثمارات خارجية لضخها في الاقتصاد الوطني لتحقيق النمو المطلوب، في ظل هذا الوضع، أمراً غير مجدٍ ومستحيلاً. وقد أثبتت تجربة قانون الاستثمار رقم (10) خلال السنين العشر الماضية عدم جدوى هذا الأسلوب. إن الطريقة الوحيدة المضمونة لتأمين موارد للتطور اللاحق للاقتصاد الوطني، هي تعبئة كل الموارد الداخلية، وهذا أمر ممكن من الناحية المبدئية، ولكن في وجهه تقف تلك القوى التي ستتضرر مصالحها من هذه العملية، وهي في سعيها لتركيز الانتباه على الاستثمارات الخارجية تريد كسب الوقت للاستمرار ما أمكن في عملية نهب الاقتصاد الوطني.

إن هذا الفاقد الكبير من الثروة الوطنية، قادر إذا ما استرجع أن يحل مشكلة التراكم في الاقتصاد الوطني من أجل توسيع الإنتاج اللاحق الذي كانت مستوياته متدنية جداً خلال الحقبة السابقة. هذا التراكم الذي هو أمر لابد منه لتأمين نسب نمو عالية، كما أنه قادر على إحداث تعديل جذري في مستوى المعيشة للجماهير الشعبية الواسعة.

وبالمناسبة فإن برنامج الإصلاح الاقتصادي يضع هدفاً للنمو بعد سبع سنوات (6%) فقط، وإذا اعتبرنا حسب الأرقام الرسمية أن نسبة النمو الحالية هي (3%) يمكن أن نستنتج أن المقصود هو الزيادة الدورية لنسبة النمو (0.5%) سنوياً خلال السنوات السبع، مما يعني أن وتيرة نسبة النمو المقترحة هي متناقصة، أي عوضاً عن أن تكون وتيرة النمو متسارعة، يقترح برنامج الإصلاح الاقتصادي وتيرة نمو متناقصة!، وهذا بحد ذاته يؤكد أن موضوع النمو اللاحق لا يُدرس بشكل جدي كأحد مؤشرات فعالية الاقتصاد الوطني.

لماذا نركز على قضية النمو؟، لأنه في ظل المستوى الحالي لإنتاج الدخل الوطني، وفي إطار المستقبل المنظور أصبحت هذه القضية قضية وطنية شاملة لأنها مرتبطة بتسريع أو تبطيء أو إلغاء إمكانية حل المشاكل الاقتصادية ـ الاجتماعية وكما تبين فإن هذا الموضوع مستحيل الحل دون اجتثاث النهب من جذوره.

من وجهة النظر الماركسية فإن شكل علاقات الإنتاج الرأسمالي الذي يغلب عليه الطابع الطفيلي والذي يتميز بالنهب الكبير الموجه للخارج للثروة الوطنية، أصبح معيقاً ليس فقط لتطور القوى المنتجة، بما فيه الشق البشري منها، بل أصبح يحت ويفتت ويدمر هذه القوى المنتجة، فلمصلحة من يجب أن يستمر ذلك؟!.

إن القوى الوطنية التي يهمها استمرار الدور السوري كنقطة مواجهة دائمة مع مخططات الإمبريالية الأمريكية وإسرائيل الصهيونية التي تستهدف السيادة والكرامة الوطنية، لا يهمها أبداً الاستمرار في هذا الوضع، بل يجب أن يهمها العكس. لذلك تتداخل هنا في مثال واضح غير قابل للنقاش، القضية الوطنية بمعناها العام والقضية الاقتصادية ـ الاجتماعية بمعناها الخاص.

  • ردم الهوة بين الأجور والأسعار يجب أن يكون من أولويات الإصلاح الاقتصادي الفورية، ولن يكون له معنى إلا إذا تم حل هذه المشكلة ضمن فترة زمنية قصيرة نسبياً، وأصبح واضحاً نتيجة ضعف التطور الاقتصادي أنه لم يعد ممكناً الآن حل هذه المهمة فوراً بضربة واحدة، لأن الهوة بين المستوى الوسطي للأجور والمستوى الوسطي للمعيشة، أصبح يتراوح بين (3 ـ 4) أضعاف، فإذا كان الحد الأدنى للأجور اليوم هو (3500) ل.س فإن الحد الأدنى لمستوى المعيشة يجب أن لا يقل عن (15000) ل.س، وإذا كان وسطي الأجور بين (5000 ـ 7000) ل.س فإن الحد الوسطي لمستوى المعيشة في ظل مستوى الأسعار الحالي يجب أن لا يقل عن (25000) ل.س، لذلك فإن البحث عن موارد حقيقية لتمويل هذه الزيادات الضرورية كي تحل المشكلة خلال فترة زمنية أقصاها خمس سنوات وبالتدريج، سيتطلب إجرائين جذريين:
  • تغيير المعادلة بين الأجور والأرباح في الدخل الوطني، القائمة حالياً على أساس (30 ـ 70 %)، مما يتطلب رقع نسبة الأجور على حساب نسبة الأرباح ومن المعروف أن العلاقة المتوازنة بين الأجور والأرباح تتراوح بين (40 ـ 60%) كحد أدنى وأعلى بين طرفي المعادلة. وليس من نافل القول التذكير أن معالجة موضوع النهب يمكن أن يصبح أحد الموارد الرئيسية لزيادات الأجور ضمن إطار تعديل المعادلة المطلوب.
  • الاتجاه وبشكل سريع نحو نسب نمو عالية للاقتصاد الوطني تؤمن رفع معدلات الاستهلاك اللاحقة، وبالتالي تؤمن تطور ديناميكي للأجور، ومعدلات النمو هذه يجب أن تضمن مضاعفة الدخل الوطني خلال سبع سنوات، أي يجب أن تضمن نمواً وسطياً سنوياً بين (8 ـ 10%) مما سيتطلب نسب تراكم مضاعفة على أقل تقدير من التي تجري حالياً. وهذا بحد ذاته سيؤمن بالتالي وتيرة متصاعدة للنمو، وواضح أن حل هذه المهمة مستحيل دون الإجراء الذي لا نكف عن ذكره وهو اجتثاث النهب كشرط ضروري لهذه العملية، ودون رفع الأجور ضمن الحدود التي تحدثنا عنها أعلاه كشرط كاف للموضوع نفسه.

إن مشاكل كبرى تواجه المجتمع السوري لايمكن حلها إلاّ بإيجاد الأدوات الاقتصادية التي تسمح بحلها، ومن هذه المشاكل المرشحة للتفاقم السريع، مشكلة البطالة والبيئة ونقص المياه وتلوثها، وقد أضحت هذه المعضلات رئيسية ضمن سلم الأولويات المطلوب معالجته، وأصبح واضحاً أن هذه المعالجة غير ممكنة دون تغيير جذري في منحى التطور الاقتصادي ـ الاجتماعي الجاري.

 وتأتي الضغوطات العالمية على سورية في المجال الاقتصادي لتزيد من تعقيد الأوضاع مساهمة في تقوية مواقع قوى السوق الكبرى، ولا يمكن النظر لاتفاقية الشراكة الأوروبية ولموضوع انخراط سورية في منظمة التجارة العالمية إلاّ ضمن هذا المنظار، فالضغوطات السياسية تؤدي لتنازلات هامة في المجال الاقتصادي، الأمر الذي يؤدي الى تغيير ميزان القوى تدريجياً، ومؤخراً بشكل سريع لصالح قوى السوق الكبرى وحلفائها الدوليين، من هنا لا نرى في ظهور المصارف الخاصة والجامعات الخاصة إلاّ خطوات تمس جوهرياً المكاسب الاجتماعية المتحققة في العقود الماضية وتنازلات لا مبرر لها ستؤدي إلى تفاقم المشاكل الموجودة أصلاً والى ازدياد حدة الصراع الطبقي في البلاد.

لذلك فإن البرنامج النقيض لبرنامج السوق، والذي يعبر عن مصالح الجماهير الشعبية، إن كان يمكن التعبير عنه اقتصادياً بالأرقام التي أتينا على ذكرها، إلا أنه اجتماعياً يتطلب تغيير ميزان القوى الطبقي في البلاد، في إطار المعركة الوطنية الكبرى الجارية، لصالح أصحاب المصلحة الحقيقية في الحفاظ على الاستقلال الوطني والسيادة الوطنية والكرامة الوطنية، أي الجماهير الشعبية الواسعة، وضد قوى النهب التي أصبحت جزء لا يتجزأ في نهاية المطاف من قوى العدوان الخارجي لأنها حامل برنامجها الاقتصادي ـ الاجتماعي الذي يهيئ لتفتيت الوحدة الوطنية من أجل الإجهاز على الاستقلال والسيادة الوطنية.

  • إصلاح جذري لقطاع الدولة يهدف إلى تخليصه من ناهبيه وإعادة بث الحياة فيه عبر إنعاشه بموارد إضافية تم حجبها عنه بشكل مقصود أو غير مقصود خلال الحقبة الماضية، مما أدى إلى تخلف كبير في بنيته وفي أدواته، وهذا الإصلاح لايمكن أن يمر إلا عبر إعادة النظر بالسياسات السابقة المتبعة تجاه قطاع الدولة، وخاصة المالية والأجرية والضريبية.

إن قطاع دولة قوياً نظيفاً من النهب، هو ضمانة للأمن الوطني بالمعنى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. لذلك فإن المشكلة تكمن ليس في فصل الإدارة عن الملكية، بل في محاسبة الإدارة جدياً على أساس معايير ومقاييس مبررة علمياً وموضوعياً على الملكية المؤتمنة عليها من قبل الشعب والدولة. ونظام المعايير هذا سيسمح برصد الفعالية الحقيقية لأداء مؤسسات قطاع الدولة، مما سيسمح بتقييمها موضوعياً، وليس على أساس الحسابات الدفترية التي تعتمد بالدرجة الأولى على حساب الربح عبر السعر المحدد في السوق خارج إرادة المنتجين الحقيقيين.

إن موضوع معايير ومقاييس تقييم أداء قطاع الدولة هو موضوع علمي معقد، يتطلب دراسته بعمق، من خلال حوار وطني من أجل الوصول إلى حلول حقيقية، وإن البحث عن حل لمشاكل قطاع الدولة خارج إطار تخليصه من النهب وخارج إطار وضع معايير موضوعية لأدائه لن يعطي أي نتيجة بل سيبقي الموضوع دائراً في حلقة مفرغة، مما سيسمح لقوى السوق الكبرى بالتعاون مع المتواطئين معها من ضمن قطاع الدولة، الإجهاز عليه لاحقاً، ومن الضروري هنا التذكير بتجربة كل من سبقنا على طريق تقييد قطاع الدولة والحد من دوره، مما يتطلب دراسة لهذه التجارب التي فشلت بأجمعها، ولم تعط إلا نتائج عكس المعلن عنها في بادئ الأمر.

إن وضع الاقتصاد الوطني وقطاع الدولة يتطلب الدعوة إلى مؤتمر وطني لبحث الموضوع وإيجاد الحلول الضرورية السريعة.

إن الصراع بين هذين البرنامجين يسبب اصطفافات اجتماعية وسياسية مختلفة. والملفت للنظر في ظل تعقيد الوضع الحالي أن هنالك قوى ترى أن برنامج قوى السوق الليبرالي هو ضروري للوصول إلى ديمقراطية في المجتمع، مستندة إلى تجربة أوروبا الغربية في القرون ما قبل العشرين، وبالفعل فإن برنامج البرجوازية الأوروبية الليبرالي اقتصادياً قد رافقه بشكل مواز أشكال من الحريات السياسية، انتزعتها الطبقة العاملة في مجرى النضال العام، ودفعت الكثير للحصول عليها. ولكن الذي لا يقال إنه بعد استقرار الرأسمالية في مراكزها العالمية الأساسية لم يترافق انتشار الرأسمالية في الأطراف ببرامجها الليبرالية اقتصادياً مع إشاعة الديمقراطية، بل كل تجربة العالم الثالث تؤكد العكس، وهو أن الليبرالية الاقتصادية قد ترافقت مع مزيد من تقييد الحريات السياسية ومزيد من الحد من الحريات الديمقراطية ومزيد من القمع.

واليوم في عصر العولمة المتوحشة يصبح نشر النموذج الليبرالي الاقتصادي مترافقاً بالضرورة، كما أثبتت الأحداث، ليس فقط مع القمع السياسي لأنظمة تابعة، بل وصل الأمر إلى الاحتلال العسكري المباشر الذي كان أحد نتائجه الأولى في العراق، هو إعلان برنامج بريمر للخصخصة الشاملة للمؤسسات العراقية في مناقصة سرية دولية استقدم لها أكبر أخصائيي ما يسمى بـ «الخصخصة النهبية» في روسيا، مثل غايدار.

لذلك، فإذا كان مستوى الحريات السياسية في بلادنا لا يلائم متطلبات الواقع وضرورات الحياة فإن الطريق إليها لا يمر أبداً عبر الليبرالية الاقتصادية. كما أن إبقاء الوضع القائم كما هو عليه دون أي تغيير «اقتصادياً واجتماعياً وديمقراطياً»، يحمل في كنفه خطر فتح الطريق أمام قوى السوق لتنفيذ أهدافها البعيدة.

إن بعض القوى في جهاز الدولة، والمستفيدة من النهب، تخاف من توسيع مدى الحريات السياسية، وهذا مفهوم، لأن نهبها سيكون المتضرر الأول. ولكنها في تقييدها للحريات السياسية تعطي قوى السوق المجال لاستخدام كلمة حق لتصل إلى باطل الأباطيل. فلنستفد من تجارب غيرنا عبر دفع المجتمع نحو أوسع حريات سياسية ممكنة، لأن في ذلك الضمانة الحقيقية لحل المشاكل الاقتصادية الاجتماعية، هذا الأمر الذي بمجمله سيصلب الوحدة الوطنية ويخلق الظروف الملائمة كي يتحول كل مواطن سوري إلى مقاوم للمخططات العدوانية الإمبريالية الأمريكية والصهيونية.

وأخيراً لابد من الإشارة في هذا المجال، إلى أن قوى النهب الكبرى قد سعت تاريخياً إلى تعميم الفساد في إطار المجتمع بشكل عام، وفي جهاز الدولة بشكل خاص، وهي تهدف من وراء ذلك إلى إبعاد الانتباه عن جوهر المشكلة الحقيقي الذي هو النهب الكبير، أي حماية نفسها من المجتمع، لقد كان الفساد نتاجاً للنهب ولا يمكن الخلاص منه إلاّ باجتثاث جذوره، مما سيؤمن الأرضية الضرورية للنضال الحقيقي والفعال ضد الفساد وكل آثاره الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية.

  • البنية الطبقية والقوى المحركة للمجتمع السوري:

لقد شخص حزبنا منذ أواسط السبعينات البنية الطبقية المستجدة في المجتمع السوري، وأشار إلى نمو الطبقة العاملة، وتحول البرجوازية الطفيلية إلى قوة مادية، وحذر من أخطارها اللاحقة، وأشار إلى تعاونها مع أوساط البرجوازية البيروقراطية اللتين تنهبان معاً الدولة والشعب.

كما أن المؤتمر التاسع أكد صحة هذا الاتجاه في التحليل، بما فيه أن علاقات الإنتاج الرأسمالية السائدة يغلب عليها الطابع الطفيلي.

وكان التصور حتى ذلك الحين، خاصة قبل انهيار الاتحاد السوفييتي وما بعده بقليل، أن الطابع الطفيلي لعلاقات الإنتاج الرأسمالية هو طابع مؤقت يمكن التخلص منه عبر عقلنة التطور الاقتصادي. ولكن الأحداث والتطورات بعد 11 أيلول 2001 في ظل استشراس العولمة المتوحشة، تضع على بساط البحث بشكل جدي موضوعة طفيلية علاقات الإنتاج الرأسمالية ومدى ديمومتها، أي هل مازالت ظاهرة مؤقتة يمكن النضال ضدها لوحدها، أم أنها أصبحت صفة ملازمة بالضرورة للتطور الرأسمالي في عصر العولمة الإمبريالية. والإجابة عن هذا السؤال، تستدعي جملة من الاستنتاجات الهامة والجذرية، لأنها بدورها تفرض سؤالاً آخراً حول البرجوازية الوطنية وفعاليتها وقدرتها في الظروف الجديدة على لعب دور أساسي في التطور اللاحق، مع عدم نفينا لوجود برجوازية وطنية تعمل في مجال الإنتاج المادي ومتضررة من النشاط البرجوازي الطفيلي، إلا أن قدرتها على لعب دور اقتصادي وسياسي فعال، أصبحت اليوم ضمن المستجدات الدولية والإقليمية، موضع تساؤل جدي.وفي كل الأحوال يبقى التناقض الأساسي في المجتمع قائماَ بين قوى البرجوازية الطفيلية التي نسميها بقوى السوق الكبرى من جهة، وبين مجموع الجماهير الشعبية، وفي طليعتها الطبقة العاملة من جهة أخرى.

وقد ازداد في العقد الأخير الوزن النوعي للبرجوازية الطفيلية في الحياة الاقتصادية للبلاد من خلال تأثيرها على القرارات الاقتصادية، وهي إن كانت تهيئ نفسها اليوم للانقضاض على القرار السياسي أو للمشاركة فيه على الأقل، فإن المسؤولية الأساسية فيما وصل إليه الوضع اليوم في هذا المجال تتحمله أوساط البرجوازية البيروقراطية التي تحالفت تاريخياً مع البرجوازية الطفيلية في نهب الدولة والشعب معاً. وإذا أضفنا إلى ذلك الضغوطات الخارجية والتعقيدات في الوضع الإقليمي، يصبح هامش المناورة لدى أوساط البرجوازية البيروقراطية ضعيفاً جداً، في ظل تراجع الحركة السياسية وضعف نشاطها في البلاد.

والمعروف أن البرجوازية الطفيلية تستمد قوتها، ليس من سعة قاعدتها الاجتماعية الضيقة جداً أصلاً، بل من علاقاتها الدولية الاقتصادية والسياسية مع النظام الإمبريالي العالمي. ويزيد من وزنها النوعي تواطؤ أجزاء هامة من البرجوازية البيروقراطية معها. ومع أن تمركز الرأسمال قد بلغ حدوداً عالية لدى هاتين البرجوازيتين، وأصبحت الحدود بينهما في مجال النشاط الاقتصادي متشابكة أحياناً كثيرة، وأصبح ممارستهما للدور الوظيفي الذي يقوم به الرأسمال المالي عادة واضحة للعيان، هذا الرأسمال الذي وصفه لينين بأنه اندماج بين الرأسمال المصرفي والصناعي بالدرجة الأولى، إلا أن الفوارق بينهما في مجال ممارسة الدور الوظيفي مازالت قائمة، مما يخلق تناقضات هامة بينهما لايمكن تصنيفها بإطار الصراع الطبقي الجاري إلا بالتناقضات الثانوية. ولكن المشكلة أنه في ظل العوامل الكابحة لاحتدام التناقض الأساسي، تحتل هذه التناقضات الثانوية أحياناً موقعاً هاماً وتتحول مؤقتاً إلى تناقضات رئيسية.

إن لا وطنية البرجوازية الطفيلية، أي قوى السوق الكبرى، هو توصيف قديم لحزبنا، ولكن المشكلة اليوم في ظل اختلال ميزان القوى الدولي والإقليمي أن هناك أوساطاً هامة من البرجوازية البيروقراطية تبحث عن مساومة جدية مع البرجوازية الطفيلية ضمن إطار إعادة التقاسم الوظيفي تسمح باستمرار مصالحها التي يمكن أن تتضرر في ظل تنامي قوى البرجوازية الطفيلية.

إن تنفيذ برنامج قوى السوق، جزئياً أو كلياً، إن كان من جهة سيغير الدور الوظيفي السابق الذي كانت تقوم به البرجوازية البيروقراطية، إلا أن نتيجته الأساسية ستكون احتدام الصراع الطبقي في البلاد وتبلوره بين القطبين النقيضين الأساسيين وهو ما سيدفع موضوعياً بالقوى المتضررة من هذا البرنامج إلى التحالف والتكاتف للوقوف بوجهه، وغني عن الذكر أن هذا البرنامج ببنوده المختلفة ليس برنامجاً اقتصادياً ـ اجتماعياً بحتاً، بل هو برنامج سياسي يتطلب تنفيذه التفريط بالاستقلال الوطني والسيادة الوطنية. والقوى المتضررة من هذا البرنامج هي قوى واسعة، تبدأ بالطبقة العاملة مروراً بأوساط البرجوازية الصغيرة في المدينة والريف وصولاً إلى أوساط من البرجوازية الوطنية الكبرى يمكن أن تكون أجزاء غير مهمة من البرجوازية البيروقراطية جزءاً منها بسبب تضرر مصالحها المباشرة من هذا البرنامج.

وإذا انطلقنا من الفكرة الماركسية الواضحة التي تقول: «إن القاعدة الاجتماعية لأي فكرة لا تتطابق بالضرورة مع قاعدتها الجماهيرية، أي أن هذه القاعدة يمكن أن تكون أضيق أو أوسع من القاعدة الاجتماعية».

وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن التاريخ في لحظات انعطافية كثيرة شهد حالات كهذه، مثل الحزب الشيوعي الألماني في الثلاثينات الذي كانت قاعدته الاجتماعية حكماً الطبقة العاملة الألمانية، إلا أن قاعدته الجماهيرية كانت أضيق بكثير من قاعدته الاجتماعية بسبب ظروف تاريخية محددة. ومثل مصر بعد ثورة 1952 حيث كانت القاعدة الجماهيرية للنظام أوسع بكثير من قاعدته الاجتماعية التي كانت تمثلها في أحسن الأحوال الفئات المتنورة من البرجوازية الصغيرة في المدينة والريف.

إذا انطلقنا من كل ذلك، يتضح لنا أنه في ظروف سورية حتى اليوم، إن كانت القاعدة الاجتماعية للبرجوازية الطفيلية والبرجوازية البيروقراطية ضيقة جداً لا تخرج أبداً عن حدودهما، إلا أن قاعدتهما الجماهيرية هي أوسع بكثير من قاعدتهما الاجتماعية، بسبب ظروف محددة مرتبطة من جهة بالقدرة الاقتصادية الكبيرة لهاتين البرجوازيتين، ومن جهة أخرى بالقدرة الضعيفة المرتبطة بأسباب موضوعية وذاتية للحركة السياسية التي يفترض أن تمثل موضوعياً مصالح الجماهير الشعبية الواسعة. إلا أن حركة التاريخ قد علمتنا أن عدم التطابق بين القاعدة الاجتماعية والجماهيرية هي حالة مؤقتة، لابد أن تستقيم في نهاية المطاف كي يجري التطابق بين هاتين القاعدتين بسبب احتدام الصراع الطبقي. وإذا أضفنا إلى ذلك ظروف سورية الخاصة التي تندمج فيها المعركة الوطنية الكبرى ضد مخططات الإمبريالية الأمريكية وإسرائيل الصهيونية مع المعركة الاقتصادية ـ الاجتماعية التي يمر فيها أيضاً خط المواجهة، لاستنتجنا أن قدرة الحركة الوطنية الحاملة لبرنامج اقتصادي ـ اجتماعي ديمقراطي واضح المعالم ضد الرأسمالية، هي إمكانيات واسعة ومفتوحة وتطور الحياة نفسها سيسمح لهذه الحركة بالتصدي لقوى السوق وإنزال الهزيمة بها إذا استطاعت العودة إلى الجماهير وإيجاد لغة مشتركة معها وتعبئتها بالشكل المطلوب.

إن عملية تجذير الوعي الطبقي المعادي للرأسمالية لدى الطبقة العاملة وأوسع الجماهير الشعبية، يجري قدماً وبتسارع كبير بسبب الضغط الذي تمارسه الإمبريالية الأمريكية الواضح المكشوف العلني، عبر ممثليها من قوى السوق من أجل تنفيذ برنامجها الاقتصادي الاجتماعي السياسي بكامل بنوده. وإلى جانب ذلك، وبسبب التمركز العالي للرأسمال المالي، تتسع جماهير المتضررين، مما يخلق الأرضية الموضوعية لإمكانية تغيير ميزان القوى الطبقي لصالح المعركة الوطنية.

إن كل ذلك يخلق آفاقاً جديدة لإعادة اصطفاف اجتماعي سياسي في البلاد، تصبح فيه الأمور واضحة المعالم وتعكس التناقض العالمي الأساسي بين العمل ورأس المال، والذي يتجلى في ظروفنا الخاصة باندماج المهام الوطنية العامة مع المهام الاقتصادية الاجتماعية مع المهام الديمقراطية.

إن وعي هذه الحقائق، وصحة التعامل معها، سيفتح المجال لإنعاش الحركة السياسية بشكل عام كي تلعب فيها القوى الوطنية دوراً أساسياً يعكس تصاعد دور الجماهير في الحياة السياسية.

  • الحركة السياسية في البلاد، واقعها وآفاقها:

إن الواقع الذي يجب الاعتراف به أن هناك هوة كبيرة بين الحركة السياسية في البلاد بمختلف مكوناتها وبين الجماهير الشعبية. وإذا كنا لا نريد القول إن هناك اغتراباً بين الحركة السياسية بمختلف مكوناتها عن الجماهير الشعبية، فإننا يمكن أن نؤكد أن هناك انكفاء واضحاً للحركة السياسية المنظمة عن حركة الشارع، هذا الانكفاء الذي إذا قيس خلال العقود الماضية، لتبين أنه يسير بخط تصاعدي منذ الستينات، بالمقارنة مع الخمسينات... وهكذا دواليك..

وقد أدى هذا الانكفاء بنتائجه السلبية المختلفة الى انتعاش الأشكال المتخلفة للنشاط الاجتماعي، والتي كانت تميز المجتمعات في مرحلة ماقبل تطور الحركات السياسية فيه، إن اشتداد مشاعر التعصب القومي والديني والطائفي، ماهي إلاّ نتيجة لتراجع الحركة السياسية.

إن كل تحليلنا في السابق، كان يستند إلى فكرة مفادها أن هذا الانكفاء هو انكفاء مؤقت، وإن كان فعلاً مؤقتاً، فقد طال أمده، ووصل إلى مدى أصبحت في بنى الكثير من الحركات السياسية القائمة، بنى شكلية لا تعكس قوى فعلية على الأرض. وهذا الأمر، حينما نتحدث عنه، إنما نقصد في ظروفنا الحالية القوى داخل الجبهة وخارجها، إن كانت مؤيدة أو معارضة للنظام. إن الاعتراف بهذا الواقع هو مدخل حقيقي من أجل الخروج منه، هذا الأمر الذي أصبح ضرورة لامناص منها في ظروف احتدام الصراع في المنطقة في الفترة الأخيرة.

ويكمن جوهر المشكلة، على الأرجح، في أن الكثير من الأحزاب السياسية فقدت خلال العقود الماضية بالتدريج دورها الوظيفي في المجتمع، وعندما تصبح أحزاباً بدون وظيفة تتحول إلى أحزاب شكلية، وتكون أحزاباً حقيقية عندما تعبر بالفعل عن المصالح الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للشرائح والطبقات الاجتماعية التي تمثلها. بل لا يكفي هذا التعبير الذي يجب أن يترافق مع فعل حقيقي على الأرض كي يتحول هذا التعبير إلى واقع. والحقيقة أن الصراع الاجتماعي في المجتمع ممكن أن يجري، وهو أمر موضوعي لا راد له، ولكن الحقيقة الأخرى التي يجب الاعتراف بها أن هذا الصراع يمكن أن يجري دون أحزاب إذا لم تستطع هذه الأخيرة تحديد دورها الوظيفي وممارسته على الأرض.

وإذا كانت هنالك أسباب موضوعية لتراجع الحركة السياسية الوطنية، وهي ابتعادها عن تنفيذ برامجها المعلنة، وتحقق عكسها في الواقع، بسبب الأوضاع العالمية وتناسبات القوى في إطارها في النصف الثاني من القرن العشرين، إلا أن الأسباب الخاصة المحلية والذاتية قد جاءت لتزيد الطين بلة، فأحد الأسباب الموضوعية الأساسية لتراجع الحركة السياسية الوطنية هو ضيق الهامش الديمقراطي المطلوب ومحاولات الاحتواء التي مارستها أجهزة الدولة خلال هذه الفترة. إن جهاز الدولة كجهاز مستقل نسبياً عن المجتمع له مصلحة دائماً في أي نظام كان، حسب ما تعلمنا الماركسية، أن يفلت من تحت رقابة المجتمع، وأن تصبح له بالتالي مصالحه الخاصة نسبياً التي تدفعه لاحتواء الحركات السياسية بأشكال مختلفة من أجل منعها من التفاعل مع المجتمع، كي لا يؤثر هذا الأمر على مصالحه.

إن تجربة الاتحاد السوفييتي فيها دلالات هامة جداً حول هذا الموضوع، فالمشكلة لم تكن بضرورة فصل الحزب عن الدولة، كما يتصور البعض، بل في اندماج هذا الحزب في جهاز الدولة، هذا الاندماج الذي أدى بالتدريج إلى تكييف جهاز الحزب مع مصالح جهاز الدولة، وبالتالي ابتعاده عن إمكانية تمثيل مصالح المجتمع.

إن النتيجة المنطقية لهذا الميل، إذا استمر، هو فقدان الحركة السياسية تأثيرها نهائياً على جهاز الدولة الذي يمكن أن يجري تحت شعارات ضخمة، أولها قيادة الحزب للدولة. إن القيادة الفعلية لأي حركة أو حركات سياسية لأي دولة لا يمكن أن تجري إلا عبر شرط ضروري أساسي، وهو الفصل التام لجهاز الحزب عن جهاز الدولة كي يحافظ الحزب، أو الأحزاب على سلطتها المعنوية أمام الجماهير التي تلعب الدور الحاسم في نهاية المطاف في تحديد مجرى التطور الاجتماعي السياسي.

لذلك توقفنا طويلاً في طرحنا وممارستنا خلال الأعوام التي تلت المؤتمر التاسع عند ضرورة تعديل النظام الانتخابي القائم في البلاد وإصدار قانون عصري للأحزاب، وفتحنا نقاشاً وطنياً عاماً حول الموضوع على صفحات «قاسيون» شارك فيه عملياً كل الطيف السياسي الوطني الموجود في البلاد. لأننا اعتبرنا أن المدخل لإزالة العوائق الموضوعية أمام تطور الحركة السياسية هو إعادة التفاعل بين الأحزاب والشارع، هذا الأمر الذي لايمكن أن يتم إلا عبر نظام انتخابي يُدخل القدر الكافي من الأكسجين إلى النظام السياسي، معتبرين أن النظام الانتخابي الحالي قد أصبح متخلفاً عن حاجات التطور السياسي، وهو السبب الرئيسي في إحداث غربة بين الناخب وممثله المفترض، وهو الذي يسمح بوجود الكثير من الثغرات التي يمكن النفاذ منها للتأثير والتلاعب بنتائج الانتخابات من قبل جهاز الدولة، مما يمنع الحركة الجماهيرية من التعبير عن نفسها، هذا التعبير الذي هو أصلاً باروميتر ضروري لأي دولة كي تستطيع قياس مزاج المجتمع وتوجهاته كي تأخذها بعين الاعتبار إذا أرادت الاستمرار بلعب دورها الوظيفي. وإلى جانب ذلك افترضنا أن أي قانون للأحزاب لا يستند إلى نظام انتخابي فعال لن يعطي النتيجة المطلوبة منه، لأنه لن يعطي الحركة السياسية الأدوات الضرورية للخروج من الواقع الذي تعيش فيه. وهذا يفسر لماذا لم يستطع قانون المطبوعات الجديد بالرغم من كل الملاحظات التي وضعت عليه أن يلعب الدور المطلوب منه. فهو يجب أن يكون نتيجة لقانون أحزاب عصري التي سيعاد إنتاجها وربطها بالمجتمع عبر قانون انتخابات جديد وفعال.

إن أي محاولة إصلاحية في البلاد محكومة بالنجاح في حال استندت إلى قوى المجتمع النظيفة، وهذه القوى لايمكن تحريكها إلا عبر حزمة من القوانين التي تحدثنا عنها أعلاه، انتخابات، أحزاب، مطبوعات.وهي بالعكس محكومة بالفشل إذا استندت فقط إلى الحل ضمن إطار جهاز الدولة فقط (من جوا لجوا)، وهذا يبين كم هي هامة اليوم ومصيرية قضية إعادة السياسة إلى المجتمع التي تتطلب نشر أوسع الحريات الديمقراطية السياسية بالشكل الذي تقدم. وهذا يتطلب حكماً:

  • رفع الأحكام العرفية وحالة الطوارئ.
  • إيقاف الاعتقالات السياسية وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين.
  • تأمين مبدأ استقلالية القضاء وسيادة القانون.
  • تحديد دقيق يجد تعبيراته القانونية لمفهوم حقوق الإنسان من حق الحياة إلى حق العمل مروراً بحقوق التعبير عن الرأي والإضراب...الخ.
  • تعديل النظام الانتخابي الحالي لمجلس الشعب.
  • إصدار قانون الأحزاب لقوننة الحياة السياسية في البلاد.
  • تعديل قانون المطبوعات كي يتجاوب مع المستجدات ومع الضرورات التي يفرضها نظام انتخابي وقانون أحزاب جديدان.
  • إلغاء نتائج الإحصاء الاستثنائي في محافظة الحسكة لسنة 1962.

إن قوننة كل هذه القضايا ستسمح بقطع الطريق على بعض القوى التي تتاجر بها، ليس من أجل تحقيقها، بل من أجل الوصول إلى غايات أخرى تمس السيادة الوطنية وتمس جذرياً الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، ومن جهة أخرى فإن تأخير وعرقلة قوننة هذه المسائل بأية حجة كانت، تصب الماء موضوعياً في طاحونة الذين يعملون، كما يقال، لكسر الحلقة من الخارج.

إن روح المسؤولية تجاه قضايا الوطن والشعب، تجعلنا نقول اليوم بصراحة: إنه في ظل الوقت المتناقص في الأوضاع المعقدة التي تشهدها منطقتنا، لا خيار ولا بديل إلا نشر الحريات السياسية لتعبئة الجماهير الشعبية من أجل أن تدافع عن مصالحها الوطنية والاقتصادية ـ الاجتماعية.

إن القضية الديمقراطية بمتطلباتها الحالية، هي جزء لا يتجزأ من القضية الوطنية والمعاشية، لذلك نؤكد أن تلازم هذه المهام ووضعها جميعاً على سلم أولويات واحد، يتطلب نفي المقولات الضارة التي تقول حيناً بأولوية الجانب الديمقراطي على الجوانب الأخرى، أو تقول حيناً آخر بأولوية الجانب الوطني العام على الجوانب الأخرى.

إننا نرى أن كل هذه الجوانب هي جوانب لقضية واحدة لا يمكن فصلها عن بعضها البعض، هي قضية الوطن والمواطن. من هذا المنطلق نرى أن الوقت مازال مناسباً لإطلاق الإصلاح الوطني الديمقراطي بجوانبه المختلفة، ولا نعتقد أن أي إصلاح سيكون مجدياً وفعالاً إذا لم يتصف بصفتين:

  • الشمولية، أي معالجة جميع جوانب حياة المجتمع والدولة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
  • والجذرية، أي المعالجة العميقة لكل المشاكل الحقيقية عبر إزالة مسبباتها الفعلية إن كانت هذه المشاكل تخص مستوى المعيشة، أو الفساد، أو النمو، أو الإدارة ....إلخ.

ومن جهة أخرى، نعتقد أن هناك أسباباً ذاتية لتراجع الحركة السياسية متعلقة بالأحزاب نفسها، أي بنيتها وخطابها وممارستها، وفيما يخصنا نحن الشيوعيين، نستطيع القول إنه بعد تشكيل الجبهة الوطنية التقدمية، تراكمت لدينا بالتدريج جملة من الأمراض، اصطلح على تسميتها بأمراض العمل الجبهوي، ونرى أن الحديث عن هذه الأمراض لا يضير التجربة الجبهوية بقدر ما يفيدها، فإذا كانت الجبهة التي تكونت في أوائل السبعينات، خطوة هامة بالمقارنة مع الوضع الذي سبقها في طريقة التعامل بين الأحزاب الوطنية، فإن هذه الخطوة بعد مضي عقود عليها تتطلب المراجعة النقدية الجدية، هذه المراجعة التي تفترض الجرأة والموضوعية في التقييم. 

وإذا أردنا تلخيص هذه الأمراض يمكن القول أنّها تندرج في الآتي:

  • تنامي الميل لدى القيادات الحزبية في الركض وراء الامتيازات المعنوية والمادية، مما أبعدها بالتدريج عن قواعدها وكواردها وأدى إلى حدوث ما يشبه القطيعة بين هذه الأحزاب وجماهيرها المتكونة تاريخياً.
  • إن العمل الجبهوي كخطوة جديدة بالنسبة للأحزاب المنضوية فيه، قد خلق لها إمكانيات من خلال ممثليها في الوزارة ومجلس الشعب والإدارة المحلية والنقابات و...إلخ.. في حل بعض المشاكل المطلبية من فوق التي كانت تعالجها سابقاً من تحت عبر الجماهير عندما لم يكن لها تمثيل رسمي، هذا الأمر بالتدريج أضعف لياقة قيادات الأحزاب وكوادرها في العمل بين الجماهير والتعبير عن مصالحها، مما أدى إلى استسهال العمل من فوق والابتعاد عن العمل من تحت، الأمر الذي أفضى إلى فقدان تدريجي لعلاقة هذه الأحزاب مع جماهيرها السابقة. وقد ساهم هذا الأمر موضوعياً في إضعاف الحركة الجماهيرية ونشاطها، وهذا يؤكد كم هو هام الفصل بين الجهاز الحزبي وأجهزة الدولة.

إن العودة إلى الجماهير هي الطريق الوحيد للخروج من هذا الإشكال، وليس غريباً أنه في ظل هذا الوضع قد تحول الكثير من ممثلي الأحزاب في أجهزة الدولة إلى ممثلين للدولة في أحزابهم.

  • إن الأحزاب إذا أرادت أن تحافظ على نفسها كجسم حي لابد لها من التصدي دائماً للأمور المستجدة في المجتمع، هذا التصدي الذي يخلق بدوره نقاشات وسجالات وحتى صراعات أحياناً. إن الصراع الفكري والسياسي في الأحزاب، ضمن الأطر التنظيمية، هو صراع  صحي كما تعلمنا الماركسية، يدفع هذه الأحزاب إلى الأمام. ولكن في ظل وضع أخذت بعض القيادات الحزبية، خوفاً على امتيازاتها الجديدة، بالتصدي للآراء المخالفة بالقمع، وحتى بمحاولة استعداء الحلفاء على الرفاق في الداخل، مما كان يعطل التطور الحزبي الطبيعي ويؤدي إلى إضعاف الثقة التدريجية بين القيادات والكوادر التي حل محلها في كثير من الأحوال حالة غربة كاملة. لذلك ليس من الغريب أن تكون أفواج التاركين والمبعدين أكثر بكثير من الباقين الذين أصبحوا، جلهم، من المستفيدين من امتيازات التعاون الجبهوي، أو من الطامحين للاستفادة منه. لذلك ليس غريباً الوضع الناشئ الذي يتميز بالضعف الشديد لهذه الأحزاب أمام استحقاقات العمل السياسي في الأوضاع الحالية.

إن دراسة تجربة الجبهة الوطنية التقدمية بمجملها تتطلب في نهاية المطاف الجواب على سؤال حقيقي، وهو: لماذا لم تستطع هذه الجبهة تنفيذ برنامجها والقيام بدورها؟!.

إن مجمل التحليل السابق يقودنا إلى إجمال الاستنتاجات التالية:

  • لم تكن البرامج الموضوعة تتناسب مع المهام الحقيقية، مع اتجاه التطور الحقيقي. مما منعها من التنفيذ في نهاية المطاف.
  • كما أن التكون التدريجي لروح اتكالية، تسعى بالدرجة الأولى للحصول على الامتيازات والحفاظ على المواقع القيادية لدى البعض، قد أضعف دور أحزاب الجبهة في التصدي لمهامها.
  • ولا يجب أن يسقط من الحساب، أن عقلية الاحتواء والوصاية التي عملت على أساسها أجزاء هامة ومؤثرة من جهاز الدولة، قد قيدت نشاط هذه الأحزاب ضمن هامش معين، مما أخرجها بالتدريج من الفعل السياسي الحقيقي.
  • إن إعادة النظر بتجربة الجبهة يتطلب القول: أن قوة كل مشارك في أي تحالف، هو قوة للجميع. وضعف كل مشارك، هو ضعف للجميع. لذلك، فيما يخصنا، فقد أكدنا منذ البداية أن تحالفاتنا ستستند إلى التجربة السابقة التي لن نسمح لأحد بأن يكون وصياً علينا، ولن نقبل لأنفسنا بأن نتحول إلى عبء على أحد وإلى قوة هامشية تسعى لتحقيق امتيازات لصالحها على حساب مصالح الحزب العامة ومصالح الوطن.  

 

إن كل هذه الأمور تطرح علينا بشكل جدي قضية استعادة دورنا الوظيفي التاريخي، فكرياً، سياسياً، اجتماعياً، جماهيرياً، وتنظيمياً. مما يعني عودة الحزب ليلعب دوره المطلوب منه في التعبير عن مصالح الطبقة العاملة وأوسع الجماهير الكادحة، وهذا يضع أمامنا مهام كبيرة تتطلب البحث الجدي في الوسائل الكفيلة لاستعادة الحزب لدوره الوظيفي.

سادساً: استعادة الدور الوظيفي للحزب، ومهامنا

إن تحليل أزمة الحزب على أساس المعطيات المتوفرة اليوم والمستوى المعرفي الذي وصل إليه الشيوعيون نتيجة تراكم الخبرة و التجربة خلال عشرات السنين، يسمح لنا أن نؤكد اليوم أن ابتعاد الحزب التدريجي عن تأدية دوره التاريخي ـ الوظيفي، قد أفرز أزمة الحزب التي تم التعبير عنها بمسلسل الانقسامات المعروف.

لذلك فإن المخرج من الأزمة لا يمكن أن يكون بتاتاً بمجرد إجراءات تنظيمية أو بمفاوضات بين المتخاصمين. إن المخرج الحقيقي هو استعادة الحزب لدوره التاريخي ـ الوظيفي كمعبر ومجسد لمصالح الطبقة العاملة وأوسع الجماهير الشعبية.

إن الحزب الذي تهمش وتهشم خلال العقود الماضية، لن يستعيد دوره إلا إذا استطاع أن يلعب دوره المطلوب منه من جديد، وفي كل المجالات، الفكرية السياسية الجماهيرية والتنظيمية. لذلك فإن عملية استعادة الدور الوظيفي، هي عملية تاريخية، بقدر ما هي مضنية، بقدر ما هي مشرفة، ولا بديل أمامنا إلا ذلك.

واستعادة هـذا الدور، تتطلب فيما تتطلبه، تدقيق وتصحيح وتطوير رؤيتنا لمختلف معالم الفترة السابقة، معتبرين أنفسنا ورثة حقيقيين لها بكل ما فيها من نجاحات وإخفاقات، مثبتين النجاحات ومتجاوزين الإخفاقات، الأمر الذي يتطلب رؤية انتقادية من أجل التقدم إلى الأمام.

من هنا يمكن القول إننا لم نستطع رؤية السبب العميق للتراجع الجاري في حينه، بل على العكس كنا نعتقد في لحظة التراجع أننا في حالة تقدم، مما أنتج حلولاً خاطئة في الممارسة للمشاكل الفكرية والسياسية الناشئة، وبالتالي لم نستطع التعامل مع الواقع على أساسه الحقيقي، مما أدى بدوره إلى تباين متصاعد بين السياسة والممارسة بين الهدف المعلن والواقع الملموس بين القول والفعل.

واستناداً لذلك كانت كل الحلول للمشاكل الناشئة في المجتمع والبلاد تقترح ضمن رؤية مناقضة للمسار الفعلي لتطور الأحداث مما لم يسمح بتنفيذ البرامج المكتوبة، وهذا زاد من الخسائر وخاصة في مجمل التأثير على الجماهير الذي استمر بالتراجع بانتظام.

لقد كان المنطلق بالرؤية أن التراجع العام لحركة التحرر الوطني العربية تراجع مؤقت ومنفصل عن مجمل وضع الحركة الثورية العالمية، مما لم يسمح برؤية صحيحة للواقع وأنتج صياغة حلول غير حقيقية للوضع الناشئ.

من هنا لم تتحقق التوقعات حول مستقبل الجبهة الوطنية التقدمية التي كان يُنظر إليها في بادئ الأمر كنواة جنينية لتحالف العمال والفلاحين الذي سيتطور انطلاقاً من هذه النقطة باتجاه زيادة تدريجية لوزن الطبقة العاملة في هذا التحالف، بل سارت الأمور عكس ذلك في ظل تراجع الدور العام للجبهة المشتق من التراجع العام لحركة التحرر العربية.

ولذلك اعتبرنا التراجعات في المجال الاقتصادي ـ الاجتماعي، منذ أواسط السبعينات حالة مؤقتة طارئة لا ديمومة لها والذي حدث فعلاً هو العكس. إذ وصل الوضع إلى نقطة أصبح فيها إملاء قوى السوق لإرادتها على القرار الاقتصادي أمراً واقعاً يجب عدم تجاهله مع اختلاف وتيرة هذا التراجع بين مرحلة وأخرى.

وهكذا عندما تكون رؤية الحزب وآلياته مبنية بشكل مناقض لتطور الواقع نفسه فإن الأزمة تتعمق ويعاد إنتاجها عند جميع المشاركين فيها قيادات وقواعد وفصائل.

وهذا يبين أننا لم ننطلق في معالجة موضوع وحدة الشيوعيين السوريين من اعتبارات تكتيكية، كما ظن البعض، وكذلك لم تكن نوايانا في هذا الاتجاه مؤقتة وعابرة كما ظن في بادئ الأمر البعض الآخر. وبكلمة أخرى، لم يكن الخوض في هذا الموضوع، كما تهيأ للبعض الأخير، للهروب من أزمة صغيرة افتعلتها قيادة الحزب السابقة عشية المؤتمر التاسع وخلاله وبعده. بل كان التصدي لموضوع وحدة الشيوعيين السوريين مرادفاً بالنسبة لنا لاستعادة الدور الوظيفي ـ التاريخي للحزب. أي بكلام آخر، المخرج الحقيقي من الأزمة التي استغرقت فترة تاريخية طويلة.

وبعد كل الذي أنجزناه في هذا المجال، من إطلاق «ميثاق الشرف» إلى تشكيل اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين، إلى ظهور أوراق العمل للحوار من أجل هذه الوحدة، إلى الوصول إلى الورقة السياسية التي هي تلخيص للحوار في أحد جوانبه الهامة. نستطيع القول، أننا على الطريق الصحيح، ويتميز هذا الطريق بأنه لأول مرة تتطابق رغبة الشيوعيين الجامحة إلى التوحيد، والتي كانت متوفرة دائماً خلال طول فترة الأزمة، مع ضرورات وإمكانيات الواقع الموضوعي. فلأول مرة يتطابق اتجاه الرغبة مع اتجاه إمكانية تحقيق الوحدة، بسبب الظروف الموضوعية الناشئة في الوضع العالمي والإقليمي والمحلي ومستفيدين من كل التجارب السابقة في هذا المجال والتي لم تؤد الغرض المطلوب منها، اتجهنا لتحقيق الوحدة من تحت لفوق، أي عكس اتجاه كل المحاولات السابقة التي لم تصل فعلياً إلى النتيجة المطلوبة، وكان هذا الخيار واعياً ولم يكن المقصود منه إقصاء أحد، وخاصة في القيادات، عن هذه العملية، بل كان هدفه محاصرة أمراض الماضي والقضاء عليها بهذه الطريقة الوحيدة الممكنة. ولا نبالغ إذا قلنا إن المبادرين الأوائل لعملية التوحيد قد تفاجأوا من سعة وعمق تجاوب الشيوعيين، إن كانوا منظمين في مختلف الفصائل، وإن كانوا من فصيل التاركين. لقد تحول هذا الاتجاه شيئاً فشيئاً خلال السنتين الماضيتين إلى تيار جارف متصاعد يفرض وجوده، ويفرض طريقة جديدة في التعامل مع الأزمة. لذلك تنتصب أمامنا لاحقاً مهام كبرى للاستمرار في هذه العملية وصولاً إلى إنجازها.

  • فمن الجانب الفكري يبين النقاش الذي استمزج آراء الشيوعيين أن الموقف من الماركسية ـ اللينينية كمرجعية فكرية، هو موقف متفق عليه، لم يجر نقاش حوله، بقدر ما جرى نقاش حول كيفية التطبيق الإبداعي لهذا الفكر في ظروفنا الملموسة. وإن كنا قد استنتجنا في بادئ الأمر أن التيارين الأساسيين اللذين يمنعان الفكر الماركسي في بلادنا من ممارسة كامل الدور المطلوب منه، هما العدمية والجمود تجاهه، إلا أن ذلك يزيد من أعباء الماركسيين الحقيقيين الذين أصبح المطلوب منهم الانتقال بالتفسيرات والتطبيقات الماركسية في ظروف بلادنا من المجال السياسي البحت كأحد أشكال البنية الفوقية، والذي كان يُمارس بهذه الحدود فقط حتى الآن، إلى مجال البنى التحتية والفوقية بمجملها، أي تفسير ومعالجة مشاكل المجتمع بكل أبعادها.

إن عملاً من هذا النوع، ما كان ممكناً أن يجري إلا بعد فترة تاريخية معينة من تبني الماركسية واستيعابها، الآمر الذي يسمح بحدوث التراكم المعرفي المطلوب للانتقال إلى الإنتاج الإبداعي في كل المجالات. لذلك نعتقد أن ما يسمى بتوطين الماركسية محلياً، هو عملية تاريخية لها ظروفها الموضوعية الخارجة عن الإرادات الذاتية، هذا الأمر الذي يجعلنا نبتعد عن محاولات تبسيط هذا الموضوع بتحميل أفراد وأشخاص مسؤولية هذه العملية، التي أصلاً لا يمكن أن يقوم بها اليوم إلا مجموعات كبيرة من أحزاب أو مؤسسات بحث أو معاهد...إلخ..

إن الطبقة العاملة السورية التي قرأت «البيان الشيوعي» المكتوب في عام 1848 في عام 1936، أصبح لديها اليوم ما يكفي من الوعي المعرفي والتجارب التي تسمح بالتطبيق الخلاق الإبداعي للماركسية على مختلف جوانب الحياة في مجتمعنا، هذا الأمر الذي كان صعب الحدوث في الفترات التاريخية السابقة.

إن انتشار الفكر الماركسي بمصادره الأولية بشكل كثيف في البلاد، ابتداءً من الستينات في القرن الماضي، قد وضع القاعدة التي تسمح لنا اليوم بالقول: إننا جاهزون للانتقال إلى مرحلة نوعية أعلى بالتعامل مع الفكر الماركسي، وهذه هي أحدى المهام الكبرى التي تنتصب أمامنا في عملية استعادة الدور الوظيفي لحزبنا.

  • أما من الجانب السياسي، فإن استعادة الدور الوظيفي، لايمكن أن تجري دون تكييف البرامج مع الواقع نفسه من أجل تغييره، الأمر الذي جرى عكسه خلال العقود الماضية، إذ أن الافتراضات البرنامجية، كانت ترفض رؤية الواقع الذي كان يتسم بالتراجع المستمر للحركة، مما لم يسمح بالخروج بالاستنتاجات الضرورية لمعالجة هذا الأمر، بل الذي كان يجري هو محاولة لوي عنق الواقع لإدخاله في البرنامج، مما أدى عملياً إلى فشل برنامجي كامل، فتح الطريق لأعداء الشيوعية في بلادنا للقول بانتهائها. إن معرفة الواقع بتجرد وموضوعية ومعالجته، سيسمح للحزب بالفهم التدريجي الأعمق للوضع في البلاد. إن مشكلتنا الرئيسية في هذا المجال أصبحت أننا كنا نتحرك في مجتمع لانعرفه جيداً.

التغيير الحقيقي لا ينتج إلا عن التفسير الحقيقي، هذا التفسير إذا ما لم يجر، تبتعد آفاق التغيير. إن استنتاجاتنا السياسية المستجدة تستند بلا شك إلى تجربة الماضي مراجعة ومطورة إياها حسب مقتضيات الحاضر. لقد قلنا في أواخر السبعينات إنه: «لو انطلقنا من الوضع الداخلي لكنا حكماً في المعارضة»، وهذا الاستنتاج كانت له ظروفه التاريخية الملموسة، هذه الظروف التي كانت تتميز بوجود معسكرين عالميين متصارعين، على رأس أحدهما الاتحاد السوفييتي وكان الحفاظ على سورية في معسكر القوى المعادية للإمبريالية مهمة أممية ووطنية تعتبر إلى جانبها المهام الداخلية، الاقتصادية ـ الاجتماعية، الديمقراطية، مهام جزئية تخضع للمهمة الأكبر والأشمل. وكان المقصود أن منطق النضال إلى جانب الاتحاد السوفييتي ضد الإمبريالية الأمريكية، سيدفع الأمور بالتدريج نحو التغيير المطلوب داخلياً، ولكن بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانتشار الرأسمالية كنظام أوحد عملياً على الكرة الأرضية، رغم تعدد أقطابها، أصبح الاستنتاج السابق متخلفاً عن حاجات الواقع الجديد. لذلك نصر اليوم على أن المهام الوطنية العامة والاقتصادية ـ الاجتماعية والديمقراطية، هي مهام مترابطة، وهي مسميات مختلفة للموضوع نفسه والذي هو: كرامة الوطن والمواطن.

أما في الموقف من إسرائيل الصهيونية، فإذا كنا نقول سابقاً في عصر الاتحاد السوفييتي، إن تغيير ميزان القوى الدولي لصالح القوى الثورية، سيغير ويزيل الطبيعة العدوانية لإسرائيل، وهذا الأمر كان صحيحاً لو تغير هذا الميزان بالاتجاه المطلوب، ولكن بعد كل ما جرى لايمكن أن نقول، إلا أن إسرائيل الصهيونية هي رأس حربة هامة بالنسبة للعولمة المتوحشة، إقليمياً وعالمياً، هذه الحقيقة التي أصبح تعيها قوى أوسع فأوسع في الغرب، لذلك فإن استمرار حكام إسرائيل في سياساتهم، مع تجذر الحركة المعادية للعولمة محلياً وعالمياً، لايمكن إلا أن يضع على بساط البحث في نهاية المطاف موضوع بقاء إسرائيل كدولة عدوانية واستمرارها في المنطقة. ونعتقد أن هذا الموقف، هو موقف وطني وطبقي صحيح.

إن المتابع لسياسة حزبنا بعد المؤتمر التاسع على صفحات «قاسيون» وفي الوثائق المختلفة، سيجد الكثير من التدقيقات التي فرضتها الحياة على خط الحزب، ولكن بغض النظر عن أهمية واتساع هذه التدقيقات، تبقى القضية الأساسية التي كانت المعضلة الأساسية في حياة حزبنا خلال العقود الماضية، هي الهوة بين القول والفعل. إن استرجاع مصداقيتنا بين الجماهير والقوى السياسية، واستعادة ثقتها السابقة بنا، لا يمكن أن يمر إلا عبر ربطنا المحكم للقول بالفعل. إن أحسن سياسة تبقى حبراً على ورق، إذا لم تجد وسائل التجسيد الملموسة لها على أرض الواقع، وإذا كانت العودة إلى الجماهير تعني تدقيق سياساتنا لكي تعبر بشكل أعمق عن مصالحها، فإن هذه العودة تعني أيضاً، بل أكثر، إيجاد الأشكال الملموسة اليومية الواقعية في تنفيذ هذه السياسة.

لقد فقد الحزب وكوادره الكثير من لياقتهم في التعامل مع الجماهير لاكتفائه في الإعلان المجرد عن مواقفه بالتصريحات والوثائق، دون ربطها بشكل إبداعي ملموس مع حركة الشارع، الأمر الذي يتطلب منا جهداً إضافياً لردم هذه الهوة. لقد كنا نقول دائماً: إن سياستنا صحيحة، ويجب أن يرتقي التنظيم إلى مستواها، ولكن المراجعة الجدية والجادة اليوم تجعلنا نقول: إن التنظيم لم يكن قادراً على حمل هذه السياسة، لأنها لم تكن «مولفة» أصلاً بشكل صحيح على مصالح الجماهير ودرجة وعيها، مما أفقد التنظيم قدرته على التأثير، وأصبحت هذه المقولة تردد لتبرير عدم تنفيذ السياسة المطلوبة، ولتحميل مسؤولية عدم تنفيذها على الكوادر والقواعد ولإخراج القيادات من تحت المسؤولية مثل الشعرة من العجين.

وإذا كنا نعي اليوم، حسب ما استنتجناه سابقاً في سياق التقرير، أن مشكلة سياستنا كانت في الرؤية غير الكاملة لمجرى تطور الحركة العام، يصبح مفهوماً لدينا لماذا لم تستطع القيادات السابقة، رغم الجهد الذي بذلته، تشخيص المشكلة ووضع السياسات الملائمة التي كان مطلوباً منها في تلك الأحوال تخفيض خسائر التراجع العام انتظاراً لتوفر الظروف للتقدم اللاحق، وهذا الكلام ليس كلاماً مجرداً، فهناك أحزاب استطاعت أن تقوم بذلك، مثلاً الحزب الشيوعي الهندي الماركسي ـ اللينيني، الذي وجد نفسه اليوم في موقع متقدم لملاقاة الصعود الجاري، وهناك الكثير من الأمثلة على هذا المنوال. إن المراجعة التي نقوم بها ليس هدفها جلد الذات، ونحن متأكدون أن الكثير من الرفاق القادة الذين صاغوا تلك السياسات ولم يعودوا بيننا اليوم، لو كانوا بيننا لما قالوا غير ما نقول الآن.

  • لذلك ترتدي قضية العودة إلى الجماهير، أي إعادة النظر بطرق عملنا الجماهيري، أهمية كبرى في ظروفنا الحالية.

إن موضوع العمل بين الجماهير هو الممارسة بعينها بالنسبة للشيوعيين، هذه الممارسة التي ما هي إلا نتيجة خطاب معين يعكس رؤية محددة، وإذا حللنا هذه السلسلة لتبين لنا أن مشكلة الممارسة في جذرها كانت تكمن في الرؤية الناقصة وفي الخطاب المتخلف، وإذا كنا قد عالجنا قضية الرؤية بشكل كاف بسياق التقرير، إلا أن معالجة موضوع الخطاب تتطلب وقفة سريعة، فالخطاب هو التلخيص الضروري للرؤية، أي السياسات، عبر مجموعة من الشعارات والرموز والإشارات التي كان حزبنا سباقاً إليها في الأربعينات والخمسينات، ولكن في ظل التقدم الهائل لأجهزة الإعلام الجماهيرية والتي كان دائماً يسيطر على الغرب، قبل وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي، اكتفينا بمستوى شعاراتنا ورموزنا وإشاراتنا التي تكونت في الخمسينات. والتي حققت نجاحاً هائلاً حينها لأنها كانت حالة متقدمة بالنسبة لمستوى الإعلام المعادي آنذاك، ولم نعر بعد ذلك أهمية لهذا الموضوع، نحن ومجمل الحركة، والأرجح أننا اعتبرنا أن ما وصلنا إليه في هذا المجال هو قمة التطور، مما أدى بالتدريج إلى إخلائنا لمساحات هامة في الصراع على الوعي الاجتماعي للجماهير الشعبية. وهكذا يتبين لنا أن الخطاب،  إن كان فعالاً، فهو يستند إلى رؤية صحيحة وينتج حالة وعي تخلق مقدمات الممارسة العالية المستوى. إن تخلف خطابنا السياسي خلال ثلاثين عاماً قد كان عاملاً إضافياً عقد الوضع السيئ أصلاً، وليس من مثال أحسن على ذلك، من أن جريدة الحزب المركزية قد توقف تطورها خلال ثلاثين عاماً، من «النور» التي كانت ظاهرة هامة في الخمسينات، إلى «نضال الشعب» التي تحنطت حتى أوائل التسعينات، حيث بدأت بالانطلاق بالتدريج البطيء، رغم المقاومة الشديدة من قبل بعض القيادات المتخلفة آنذاك. وللحق يجب أن يقال، إنه لولا الدعم الشخصي للرفيق خالد بكداش آنذاك، لما أمكن إطلاق ظاهرة «نضال الشعب» الجديدة التي تجد التعبير لها اليوم، والاستمرار لها في «قاسيون».

لقد عكفت معاهد البحث الغربية، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، مستندة إلى ما أنجزه لينين وغرامشي في هذا المجال، على بحث معمق لاستنباط نماذج جديدة من الشعارات والرموز والإشارات، مستخدمة أفضل ما وصل إليه العلم في مجال اللسانيات والسيميائية وعلم النفس الاجتماعي، والإعلام الجماهيري، لتستخدم كل هذا فيما يسمى اليوم بالحرب النفسية الإعلامية «البسيكترونية» لتمرير رؤيتها وسياساتها، ولمحاربة القوى الثورية العالمية.

لقد فتحت علينا الإمبريالية العالمية جبهة جديدة من الصراع الطبقي، إلى جانب الجبهات السابقة، الفكرية والسياسية والاقتصادية، وهي الإعلامية بمحتواها الجديد، الأمر الذي يتطلب منا دراسة فن القتال على هذه الجبهة وتعلمه، علماً أن مؤسسي هذا العلم هم كبار منظري الماركسية الذين خرجوا باستنتاجات علمية عامة منعت علينا واستخدمت ضدنا.

إن الخطاب المتطور الصحيح يفتح المجال للعودة إلى الجماهير لتأسيس ممارسة حقيقية وفعالة. وهذه الممارسة لا يمكن أن تكون إلا من صنع آلاف الشيوعيين الذين بتراكم وتفاعل تجربتهم سيصنعون ذلك الجديد الذي سيسمح بحسم مجرى المعركة مع العدو الطبقي. أي أن الممارسة وأشكالها ليست من اختصاص مركز ما، بقدر ما هي نتاج جماعي لعمل جماعي يقوم هذا المركز بإطلاقه وتنسيقه وتعميم استنتاجاته. هذا الأمر الذي لايمكن أن يجري ويتم إلا بالمبادرة المستمرة من تحت، وفي تجربتنا المتواضعة خلال السنين الماضية أدلة كثيرة على ذلك، فعشرات ومئات الرفاق الجدد يتربون اليوم عبر الأشكال الجديدة المباشرة للنضال في مختلف المحافظات، إن كانت اعتصامات وطنية، أو مظاهرات شعبية ضد العدوان الأمريكي والإسرائيلي، أو عرائض مطلبية تعالج مواضيع الكهرباء والأسعار والجامعات...الخ... أو انتخابات نقابية، إدارة محلية، مجلس شعب، خاضها رفاقنا بشكل مستقل مما سمح برفع لياقتهم بالتعامل مع الجماهير الواسعة. وهذه المبادرات تتطلب التطوير وإيجاد أشكال جديدة لها، لأنها المدخل الأساسي للخروج من الأزمة وللعودة إلى الجماهير.

  • هذا الأمر بتطوره سيسمح ببناء تنظيمنا وتطويره بالشكل الذي تتطلبه مقتضيات الواقع.  في هذا المجال فإن الأمر الرئيسي الذي يجب التأكيد عليه، أن المشكلة كانت ومازالت ليست في مفهوم المركزية الديمقراطية، كما يظن البعض، بل في طريقة التعامل مع هذا المفهوم التي جردته في أحيان كثيرة من محتواه الصحيح.

إننا نرى أن العلاقة بين المركزية والديمقراطية كمفهوم واحد، هي علاقة جدلية وليست ميكانيكية، فالقضية ليست بعلاقة عكسية بينهما، أي كلما زادت المركزية ضعفت الديمقراطية، وكلما زادت الديمقراطية ضعفت المركزية. بل كلما زادت الديمقراطية الحقيقية داخل الحزب، الذي ما هو إلا اتحاد اختياري لمناضلين ثوريين، كلما زادت سلطة المركز في تنفيذ القرارات المتخذة جماعياً. لذلك فتطوير الديمقراطية الحزبية، حسب الظروف الملموسة، هو تأمين أعلى مستوى لوحدة الإرادة والعمل التي يعكسهما نظام انضباط واحد ومركز واحد.

لقد حاولنا في التحضير للمؤتمر الاستثنائي أن نوسع الديمقراطية الداخلية في اللائحة الانتخابية، فقمنا بخطوتين هامتين بالمقارنة مع كل اللوائح الانتخابية السابقة، وهما:

  • انتخاب مندوبي المؤتمر مباشرة من الهيئات العامة الفرعية أو المنطقية، وهذا الشكل المباشر للانتخاب الذي يلغي الدرجات المختلفة خلال هذه العملية، هو شكل عال من ممارسة الديمقراطية الحزبية، يسمح للقواعد أن تعبر بكل حرية عن آرائها وتطلعاتها دون السماح للقيادات الحزبية على كل المستويات، بالتدخل في هذه العملية، مما يلغي عملياً الأرضية الموضوعية للولاءات والاستزلام والتكتل.
  • أما الخطوة الثانية في هذه اللائحة فكانت إلغاء حق الهيئات الأعلى في التدخل بترشيحات الهيئات الأدنى، ونقل صلاحيات هذا الموضوع كاملة للمؤتمر المعني صاحب السيادة الكاملة ضمن صلاحياته. ولم يكن صدفة ما قمنا به فنحن باتجاهنا نحو توحيد الشيوعيين السوريين نقول دائماً أن هذه الوحدة، بعد إنجاز شروطها الفكرية والسياسية، ستتم تنظيمياً عبر مبدأ سيادة المؤتمرات على كل المستويات، وها قد بدأنا بممارسة فعلية لذلك كمقدمة لهذه العملية تعطينا المصداقية المطلوبة، وتقدم النموذج الذي بمقارنته مع النماذج الأخرى القائمة يتبين كم هي الطريق هامة التي قطعناها حتى الآن.

لقد شاركنا بطرح مجمل رؤيتنا للموضوع التنظيمي الداخلي في أوراق العمل للحوار حول توحيد الشيوعيين السوريين، ونعتقد أن أهم الأمور التي يجب معالجتها في نظامنا الداخلي القادم، هي التالية:

  • موضوع منصب الأمين العام وضرورته أخذين بعين الاعتبار أن النظام الداخلي المقر في المؤتمر السابع 1992 قد أقر فكرة انتخاب أمانة عامة جماعية، الأمر الذي أُجهض في المؤتمر الثامن بعد وفاة الرفيق خالد، وجدير بالذكر أن منصب الأمين العام ليس قدراً لا مفر منه في الحركة الشيوعية، فحزب لينين قام بثورة أكتوبر دونه، وبقي بدونه رغم تثبيته في النظام الداخلي من عام 1934 حتى عام 1968.
  • موضوع قوننة دور الهيئات القاعدية مع تحديد حجمها وصلاحياتها وعلاقتها بالتنسيب والعقوبات والانتخابات، وتحديد صلاحيات الهيئات العليا «ليس الحد بل التحديد» في العلاقة مع الهيئات.
  • إعطاء لجنة الرقابة الحزبية صلاحيات فعلية في مجال مراقبة تنفيذ النظام الداخلي، وخاصة فصل العقوبات أو حتى حصر موضوع إقرار العقوبات فيها فقط، مع الحفاظ على حق اقتراحها لمختلف الهيئات، أي إعطاء لجنة الرقابة الحزبية صلاحية المحكمة الحزبية العليا، وحجب هذه الصلاحيات عن الهيئات التنفيذية المركزية.
  • التفكير في النظام الداخلي القادم بتحديد عمر القياديين وعدد الدورات التي يحق لهم المشاركة فيها، والتفكير الجدي بتكوين هيئات استشارية من رفاق قدامى لها صلاحيات فعلية في نقض أي قرار من قرارات القيادة.
  • إيجاد شكل فعال لا يخفض من جدوى عمل الهيئات القيادية فيما يخص دوران كادرها، وعدم إبقائه لفترة طويلة في مكان واحد، فاللجنة المركزية خلال مؤتمرين يمكن التفكير بتجديدها جزئياً على أساس الانتخابات الدورية للجان المنطقية. كما يمكن التفكير حتى بصلاحيات المؤتمر مع إبقائه مفتوحاً كهيئة أعلى من المركزية، مع إمكانية تجديد جزء منه دورياً.

لقد أثبتت التجربة، أن أحسن نظام داخلي لا يمكن أن يحل أي مشكلة إذا لم يتوفر عامل نجاح تطبيقه الأول، وهو التعامل بين الرفاق على أساس منظومة الأخلاق الإنسانية الشيوعية، هذه المنظومة التي اهتزت باهتزاز المثل والأهداف خلال العقود الماضية. إن إعادة الاعتبار و البريق للقب الشيوعي عبر السلوك اليومي وعبر الانتقاء المبدئي للرفاق حين تنسيبهم وتقديمهم، يبقى الضمان الحقيقي لتطبيق أي نظام داخلي.

إن الجماهير الشعبية لم تعد تثق كثيراً بالكلام، إنها تثق بالممارسة والسلوك، وإذا كنا نشق الطريق نحو ممارسة تخرجنا من الأزمة، فإن إعادة الاعتبار لمنظومة الأخلاق الشيوعية ترتدي أهمية ليست أقل من الممارسة في نجاح عودتنا إلى الجماهير.

إن الشيوعي كان وسيبقى هو المناضل من أجل العدالة الاجتماعية الذي يضحي بكل ما لديه من وقت وصحة وحتى حياته إذا لزم الأمر من أجل القضية الكبرى، متمتعاً بالمواصفات المعروفة التي لا مساومة حولها، رأس بارد وقلب حار، ويد نظيفة.

وهذا الذي يملي علينا خلال المعركة التي فرضت علينا بعد المؤتمر التاسع تجنب شكل الصراع الذي حاولت أن تفرضه القيادة السابقة علينا، الذي تميز بالإسفاف من خلال التهجمات الشخصية والشتائم. لقد تسامينا فوق هذه الأساليب، ليس لأننا غير قادرين على الرد عليها بالمثل، بل لقناعتنا أن هذه الأساليب تسيء إلى سمعة الحركة، لا بل لا تسمح بتربية حزب شيوعي حقيقي. إن درجة الإسفاف في الحلقة الأخيرة من الأزمة، قد بلغت حداً، بالمقارنة مع الأزمات السابقة، لا يمكن تصوره، وهو تعبير عن الأزمة نفسها التي لا مخرج منها بالنسبة لبعض القيادات المتنفذة التي ترى أن مخرج القمع التنظيمي الذي يستخدم أدوات الشتم والسب، هو الطريق الأنجح للخروج منها، ولكن الحياة تثبت العكس. لقد آلينا على أنفسنا عندما وقعنا ميثاق الشرف بتاريخ 15/3/2001 أن لا ندخل بعد اليوم في معارك جانبية كشيوعيين، وأن نكرس جهودنا للصراع مع عدونا الطبقي، وهو ما قمنا به فعلاً.

نناشد جميع الرفاق الاستمرار بضبط النفس، وعدم النزول إلى مستوى المهاترات التي ستقوى ضدنا بعد انعقاد مؤتمرنا الناجح، بل التركيز على شرح سياستنا بمختلف جوانبها، والانطلاق لتنفيذها بين الجماهير.

وهنا لابد أن نتناول جانب آخر له علاقة بموضوع السلوك والأخلاق الشيوعية، لقد حددنا موقعنا في الميثاق بشكل قاطع من بناة الحزب الأوائل، ومن كل من ساهم جدياً في بناء الحزب، ونعتقد أن المشكلة لم تعد في تحديد العواطف والمسؤوليات تجاه هذا القائد التاريخي أو ذاك، بقدر ما تكمن في فهم دوره وأبعاده وإنجازاته ومحدوديته، ضمن إطار تحليل علمي مجرد وموضوعي، كأي تعامل مع أي ظاهرة تاريخية، هكذا نكون قد وضعنا الأساس لإنهاء التخندق الحزبي على أساس الولاءات الشخصية، دون الإساءة لأحد، مع إعادة تقييم موضوعي حينما يلزم الأمر لأي مرحلة.

إن الحزب الذي لا يحترم تاريخه لا مستقبل له. وهذا التاريخ لا يمكن أن يكون خالياً من الأخطاء، ولكن تجاوز هذه الأخطاء يجب أن يتم بتأن وجدية ودون «شرشحة»، لأنها لن تفيد عملية التطور نفسه، كما أثبتت تجارب الحركة الشيوعية العالمية. ونحن هنا نحتذي بقول الكاتب الكبير رسول حمزاتوف على لسان بطله أبو طالب: «من يطلق نيران مسدسه على الماضي، يطلق المستقبل نيران مدافعه عليه»!.

إن القضية تجاه الماضي ليست أن نحبه أو نكرهه، بل أن نفهمه. فما جرى لا يمكن تغييره، ولكن يمكن فهمه من أجل تجاوزه في كل الحالات، إن كان صحيحاً أو خاطئاً.

سننطلق لتنفيذ قرارات المؤتمر، ونعتقد أن كل الظروف متوفرة اليوم لتأمين أوسع تقدم تنظيمي وانتشار جماهيري. مما يتطلب التركيز على عدد من مجالات العمل وإيلائها اهتماماً أكبر من قبل القيادة القادمة، ونخص بالذكر موضوع الشباب والنساء والعمل النقابي والعمل التثقيفي الحزبي الداخلي. لقد تراكمت لدينا تجربة لا بأس بها في كل هذه المجالات والعديد من الاستنتاجات تتطلب النقل إلى أرض الواقع.

ففي مجال الشباب، نحن بحاجة إلى تنظيم جماهيري شبابي حولنا، لا ينسخ التنظيم الحزبي، ولكن لا يدار إلا من قبله، والأرجح أن طريقة العمل على أساس المجموعات الشبابية المتخصصة في مجالات نوعية مختلفة هي الطريقة الأمثل في الظروف الحالية. يجب الاستفادة من تجربة اتحاد الشباب في الفترة السابقة للمؤتمر التاسع، الذي تحول عبر حجة استقلالية قيادته، إلى مركز حزبي مستقل يدار من خارج المركز الحزبي الرسمي. وهذه العقلية لم تسمح له أن يلعب دوره المنوط به، وهو تشكيل سياج شبابي جماهيري حول الحزب، حجمه أضعاف مضاعفة من حجم الحزب نفسه.

لقد بدأ الرفاق المكلفون بالعمل في هذا المجال في التحضيرات لإنشاء بنية شبابية قادرة على تنفيذ توجهاتنا. والمطلوب في المرحلة القادمة الإسراع في هذه العملية.

وفي العمل النقابي تتوافر إمكانيات كبيرة للدفاع عن مصالح الطبقة العاملة ولتوسيع التحالفات الوطنية، وخاصة في ظل الظروف الناشئة، لذلك يجب أن يتحول العمل النقابي إلى هم يومي للهيئات الحزبية، وليس إلى عمل موسمي فقط مرتبط بالانتخابات النقابية.

إن الحركة النقابية السورية لديها تجربة غنية وهي فصيل هام يمثل قاعدة جماهيرية واسعة لا مصلحة لها ببرنامج قوى السوق، ولها مصلحة حقيقية في برنامج إصلاح اقتصادي حقيقي وطني معاد للنهب الكبير.

لقد حققنا في الانتخابات النقابية الأخيرة رغم الضغوطات التي مورست من قبل بعض قيادات الفصائل الشيوعية، نجاحات هامة، وهي قابلة للتطور والتعزيز مع تنفيذنا لخطنا المبدئي بشكل دائم.

أما بالنسبة للعمل بين النساء، فنعاني في هذا المجال الكثير من التقصير في المركز وفي المنظمات. وتتطلب المسألة وضعها في جملة الأولويات في المرحلة القادمة، والتفكير أسوة بما جرى في قضية العمل مع الشباب، بالأشكال الملموسة الجديدة للعمل النسائي، والأشكال التنظيمية الجماهيرية الضرورية له.

إن تطوير النسق القديم من العمل النسائي، هو مهمة ملحة أمام جميع الهيئات.

أخيراً لابد أن نقف عند مهمة التثقيف الحزبي، التي لم يعد ممكناً حلها في ظروف اليوم، إلا من خلال سلسلة مدارس مركزية منظمة ثابتة ومستمرة. وقد أثبتت تجارب المدارس الحزبية في صيف هذا العام نجاحها وصحة هذا التوجه، بالتدريج السريع يجب أن نصل إلى صيغة مدرسة حزبية مركزية ثابتة، تفتح الآفاق لمدارس حزبية في المناطق.

إن مهمة التثقيف الحزبي الماركسي ـ اللينيني، مطلوبة، ليس فقط للشباب الشيوعيين الجدد، بل أيضاً للرفاق القدامى، لأن إعادة التأهيل ورفع المستوى، أصبحت قضية ضرورية من أجل مواكبة الأحداث والتطورات الجارية، وإلا فأمامنا طريق واحد، وهو التخلف والتراجع. إن حركة التثقيف الحزبي ستضع الأرضية للبحث جدياً في المستقبل المنظور في موضوع مركز بحث ودراسات ماركسية يساهم في حل القضايا الفكرية التي أشرنا إليها أعلاه، وهو أمر لم يعد ممكناً التساهل فيه، ويمكن أن يكون موضوع المجلة التي لم تر النور حتى الآن، بسبب صعوبات تكنيكية وقانونية خارجة عن إرادتنا، مدخلاً جيداً لحل موضوع مركز الأبحاث والدراسات.

أيها الرفاق والرفيقات...

ما العمل؟.. سننطلق إلى الاجتماع الوطني الثالث لتحقيق مهمة عملية ملموسة على طريق وحدة الشيوعيين السوريين، وسيرتدي إقرار الورقة السياسية أهمية كبيرة لأنها ستفتح الطريق للتوحيد اللاحق، ولكن إلى جانب ذلك، وعند عودة رفاقنا إلى منظماتهم حاملين استنتاجاتنا ورؤانا، تنتصب أمامنا مهمة وطنية كبرى في ظل الظروف المعقدة التي تشهدها بلادنا والمنطقة، وهي المبادرة إلى تشكيل لجان للدفاع عن الوطن في كل حي وقرية ومدينة ومعمل وجامعة...إلخ... تتكون من الشخصيات والفعاليات والحركات السياسية الوطنية. وإذا كنا المبادرين، فلا نقصد أن نكون وصاة على هذه اللجان، التي بحال تطورها كنواتات على الأرض، يمكن أن تتحول إلى لجان شعبية حقيقية تحل القضايا المطلبية والاقتصادية والاجتماعية أيضاً، أي أن المدخل الوطني العام بتطوره سيدفع لحل الأمور الأخرى. وهذا الشكل من اللجان سيكون فعالاً بقدر ما يشارك فيه الطيف السياسي الوطني، داخل وخارج الجبهة، لا فرق بصفته الشخصية أو الرسمية.

إن الوضع في المنطقة يتعقد، وهو قابل للانفجار في أية لحظة، مهامنا كبيرة ومسؤولياتنا عظيمة، ومعركة تحرير الجولان مازالت في الأفق، ضمن مهامنا التي لا يمكن أن نتخلى عنها، والتي سنشارك فيها متى دقت الساعة بكل ما أوتينا من قوة، بغض النظر عن إمكانياتنا.

سنكون، كما كنا دائماً في مدرسة الحزب الشيوعي السوري، سباقين في القضية الوطنية، لا يهتز علمها في يدنا لحظة واحدة، بل يظل عالياً يرفرف وثابتاً، وفي ذلك مبرر وجودنا واستمرارنا. هكذا فقط سنستطيع استعادة دورنا الوظيفي ــ التاريخي.

تحميل المرفقات :

آخر تعديل على الخميس, 06 تموز/يوليو 2023 14:59