الإجهاز على «الدعم الاجتماعي»: ماذا يكشف قطع حساب الموازنات؟

الإجهاز على «الدعم الاجتماعي»: ماذا يكشف قطع حساب الموازنات؟

تحدثنا كثيراً في السابق عن الموازنات السورية، وقمنا بتحليل الأرقام وفحص ما المفترض به أن يكون «خطة مالية» للبلاد. ولكن الموضوع الذي يعيد نفسه في كل مرة هو أن هذه الأرقام لا تعكس صورة دقيقة للواقع الاقتصادي السوري، ولا تتصل بواقع الإنفاق الفعلي من قريب أو بعيد. سواء كان الحديث عن النفقات الجارية أو الاستثمارية، حيث يظهر أن هناك هوة هائلة بين «إعلان النوايا» الوارد في الميزانية وبين الأنشطة المالية الفعلية التي تقوم بها الحكومة.

هذا الانفصال عن الواقع يشكل حجر عثرة أمام الاقتصاديين الذين يحاولون فهم وتحليل الوضع المالي في سورية، حيث تفتقد أرقام الموازنة إلى أي رابط حقيقي وواضح بالسياسات المالية الفعلية التي تساهم في خلق واقع محدد على الأرض.
واحد من المؤشرات على هذا الانفصال هو ما جاء في مشروع قطع الموازنة العامة للدولة لعام 2022، والذي تم إقراره في مجلس الشعب مؤخراً وفقاً لوسائل إعلام محلية. وقبل الحديث عن الجديد الذي كشفه قطع حساب الموازنة، يجدر توضيح الفارق بين الموازنة ذاتها (أي ما تعلنه الحكومة في بداية العام من نوايا للإنفاق وتحصيل الإيرادات) وبين قطع الموازنة (أي ما تقول الحكومة إنها أنفقته فعلياً بعد إجراء الحسابات اللازمة).

الأرقام المعلنة لموازنة 2022 «تكذّب الغطاس»

وفقاً لتفاصيل قطع حسابات موازنة العام 2022، والتي لا نعلم منها سوى ما «تسرّب» لبعض وسائل الإعلام المحلية، يظهر أن قيمة الإنفاق على الدعم الاجتماعي أو ما يسمى رسمياً «مساهمة الدولة في النشاط الاجتماعي» بلغت نحو 3373 مليار ليرة سورية، مسجلة زيادة قدرها 8% عن الإنفاق الذي تم في موازنة العام 2021 والبالغ نحو 3100 مليار ليرة سورية تقريباً.
من ينظر إلى هذه الأرقام قد يخرج باستنتاج أن الدعم قد زاد فعلياً، وأن الحكومة بذلك تفي بكلامها حول الالتزام بتقديم الدعم الاجتماعي. لكن ذلك يغفل تماماً نقطتين أساسيتين في ملف الدعم:
أولاً: القول إن الإنفاق على بند الدعم الاجتماعي قد زاد بنسبة 8% بين عامي 2021 و2022، يتجاهل عن قصد أو عن غير قصد عوامل التضخم والتراجع المستمر في قيمة العملة السورية. فالـ3100 مليار ليرة سورية التي أنفقت في 2021 كانت تعادل وسطياً نحو 968 مليون دولار (أو 19,135 طن ذهب من عيار 21)، أما الـ3373 مليار ليرة سورية التي تقول الحكومة إنها أنفقتها في 2022 فإنها لا تتعدى 845 مليون دولار (أو 17,297 طن ذهب من عيار 21). أي أن الإنفاق الفعلي قد شهد تراجعاً بنحو 12.7% على معيار الدولار، ونحو 9.6% على معيار الذهب.
ثانياً: لنعد إلى أرقام موازنة 2022 ذاتها، التي عند إعلانها، شددت الحكومة على أنّ «الدعم» الاجتماعي هو «سياسة ثابتة لن يتم المس بها» وأنّه يقدّر في الموازنة بمبلغ 5,529 مليار ليرة سورية. ما يعني أن الفارق بين ما أعلنت الحكومة أنها تنوي إنفاقه وما أنفقته فعلياً يعادل 2.156 مليار ليرة سورية. بكلامٍ آخر، أنفقت الحكومة 61% مما تعهدت بإنفاقه على بند الدعم الاجتماعي، وامتنعت عن إنفاق نحو 39% مما قالت إنها تنوي إنفاقه.

1163c

السؤال البديهي الناتج عن هذه الأرقام

نتذكر جميعاً أنه مع كل عملية جرت لرفع أسعار السلع المدعومة خلال الأعوام الماضية، كان يسارع المسؤولون الحكوميون لإلقاء اللوم على كلف الدعم وصعوبة تأمين المصادر المالية اللازمة لتغطيتها و«تمنين» الشعب السوري بعجوزات الموازنة.
وهذا يقودنا إلى سؤال شديد البساطة: إن كان الفارق بين ما أعلنتموه من نوايا للإنفاق على الدعم الاجتماعي وبين ما أنفقتموه حقاً هو 39%، فعلى أي أساس ووفق أي منطق كنتم ترفعون أسعار السلع المدعومة؟ ألم يكن أولى في هذه الحالة إنفاق المبالغ المرصودة كاملة دون مدّ اليد إلى جيب المواطن؟

1163a

منهج العمل الحكومي: تقليص الدعم الحكومي باستمرار

يشكل بند «مساهمة الدولة في تثبيت الأسعار» واحداً من بنود الدعم الثلاثة (إلى جانب دعم وزارة الزراعة، ورئاسة مجلس الوزراء). ووفقاً لتفاصيل موازنة العام 2022، بلغ الإنفاق الفعلي في هذا البند نحو 3278.6 مليار ليرة سورية، مسجلاً زيادة بنسبة 6.8% فقط مقارنةً بالإنفاق الفعلي في هذا القسم خلال العام 2021.
وبالنظر إلى هذا البند (الذي يشمل الدعم المقدم للصندوق الوطني للمعونة الاجتماعية، والدقيق التمويني والخميرة، والمشتقات النفطية)، يتضح أن زيادة الإنفاق بنسبة 6.8% فقط مقارنةً بالعام 2021 تعكس سياسة الحكومة الماثلة في السعي الدائم لتقليص الإنفاق في مجال الدعم الاجتماعي. ويُظهر هذا الارتفاع الضئيل أن الحكومة قد خفضت الدعم فعلياً إذا نظرنا لنسب التضخم المسجلة.

1163b

الغموض ثم الغموض في الموازنات وقطع الموازنات

تظل أرقام الموازنة وقطع حساباتها محاطة بالغموض والتشويش، مما يجعل الباحثين والمواطنين عاجزين عن الوصول السهل إليها والتعرف على جوانب هامة من إدارة الاقتصاد الوطني.
أولاً: لا يوجد مكان رسمي ينشر أرقام الموازنات أو حتى قطع الموازنات بلا مقابل. فيجد المواطن نفسه مقيّداً، حيث يتطلب الوصول إلى هذه الأرقام مجهوداً كبيراً دون جدوى. ويطرح هذا الأمر تساؤلات حول السبب وراء إخفاء هذه المعلومات وتعقيد الوصول إليها.
ثانياً: لماذا يتأخر الإعلان عن الأرقام الحديثة؟ حيث يُلاحظ أن موقع «المكتب المركزي للإحصاء» مثلاً يقدم فقط بعض أرقام العام 2022. ويعتبر هذا التأخر قيداً مباشراً يعيق الباحثين والمتابعين من الحصول على بيانات حديثة تعكس الواقع الاقتصادي الحالي من وجهة نظر القيمين على إدارته.
ثالثاً: لماذا لا يتم نشر قطع الحسابات علناً، بالتفاصيل والأرقام كلها، كي يتسنى للسوريين أن يعرفوا أوجه الإنفاق الفعلي لحكومتهم، ألا يعتبر عدم نشرها خرقاً لـ«الشفافية» التي صدع المسؤولون رؤوسنا وشرخوا أذاننا في الحديث عنها عبثاً؟

عودة لمسألة الدعم: لماذا يوجد دعم أصلاً؟

كما ذكرنا في العديد من المناسبات سابقاً، فإن الدعم يعبّر أولاً عن اختلالٍ في العلاقة بين الأجور التي يتقاضاها الناس ووسطي تكاليف معيشتهم الضرورية لإعادة تجديد قوة عملهم، إذ إن فكرة الدعم أساساً ناتجة عن اعتراف ضمني من جهاز الدولة بأن الأجور التي يدفعها للعاملين لا يمكنها أن تغطي تكاليف المعيشة الضرورية، وبالتالي، «تتدخل» الدولة نظرياً في محاولة منها لسدِّ الفجوة أو جزء منها على الأقل.
ويعتبر الدعم أيضاً مؤشراً على اختلالٍ في توزيع الناتج الوطني بين الأرباح والأجور، بحيث تميل كفّة الميزان في سورية بشكلٍ حاسم واستثنائي إلى أصحاب الربح (في عام 2016 على سبيل المثال، كان الناتج الوطني موزعاً بين 89% لأصحاب الأرباح و11% فقط لأصحاب الأجور، وهي فجوة لا بدّ أنها اتسعت بشكلٍ أكبر خلال السنوات اللاحقة التي اشتدّ فيها النهب وتآكُل الأجور).
فما الذي يعنيه أن يبقى الخلل بين الأجور وتكاليف المعيشة قائماً ويتم رفع الدعم؟ ما الذي يعنيه ذلك سوى تخفيض قيمة الأجور الحقيقية للسوريين، بما يحمله ذلك من مخاطر اجتماعية إضافية تثخن في جراح من بقي في البلاد؟ ومن أجل ماذا؟ تأمين وفورات في خزينة الدولة لتقليص العجز؟ على عاتق من تقع مسؤولية وجود عجز في الموازنة العامة للدولة أصلاً؟ هل يتحمل المواطنون ذلك أم السياسات الحكومية التي لم تعدم وسيلة كي تبدِّد مصادر إيراد الدولة بكل الطرق الممكنة؟ وقامت - فوق ذلك - بتصفية مختلف قطاعات الإنتاج الوطني من صناعة وزراعة وسياحة، ودفعت العملة الوطنية دفعاً نحو الانهيار المتسارع جرّاء السياسات التي لم تأخذ في الاعتبار يوماً سوى مصلحة كبار الناهبين في البلاد الذين يجب أن تكون جيوبهم هي مصادر الإيراد الإضافي للدولة لا جيوب المواطنين الذين يقاتلون بالكاد لتأمين أدنى ضرورات بقائهم على قيد الحياة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1163