الأرقام لا تكذب؟ كيف «تخفي» الموازنة السورية الحقائق الاقتصادية الكارثية؟

الأرقام لا تكذب؟ كيف «تخفي» الموازنة السورية الحقائق الاقتصادية الكارثية؟

يفترض أن توفّر الموازنات العامة لأية دولة نظرة شاملة عن حالتها الاقتصادية، وأن تسلط الضوء على توجهات النمو والاستثمار. رغم ذلك، تفقد الموازنات المعلنة في سورية هذا الدور الأساسي. وبدلاً من أن تقدّم تصوراً واضحاً للأداء الاقتصادي المنتظر، تتحول الموازنات إلى مجرد «بروتوكول» سنوي لا يعكس أداء الاقتصاد السوري على أي نحو، كما لا يحاكي - لا من قريب ولا من بعيد - أرقام الإنفاق الحقيقية للدولة.

تسارع الانحدار الاقتصادي الشديد عبر جميع قطاعات الإنتاج في البلاد. رغم ذلك، تظل الموازنات العامة تعكس صورة متفائلة شكلياً، كما لو أن الأوضاع الاقتصادية لم تشهد أي تغيير، أو كأن التدهور الاقتصادي الذي تختبره البلاد لا يمت للواقع اليومي الذي يعيشه الشعب السوري بصلة.

تذكير بالموازنة العامة لـ2024 وأرقامها

تقدَّر الاعتمادات الأولية للموازنة العامة للدولة لعام 2024 بـ35.5 تريليون ليرة سورية، ما يمثل زيادة نظرية بنسبة 115% مقارنة بموازنة العام الماضي التي كانت 16.5 تريليون ليرة.
هذه الميزانية مقسمة إلى 26.5 تريليون ليرة للإنفاق الجاري، و9 تريليون ليرة للإنفاق الاستثماري، مع زيادة نظرية بنسبة 82% عن العام السابق الذي شهد اعتمادات بقيمة 4.9 تريليون.
كما تخصص الموازنة 6.2 تريليون ليرة للدعم الاجتماعي، بزيادة نظرية بنسبة 107% مقارنة بالعام السابق الذي بلغت فيه الاعتمادات 3 تريليونات ليرة، من بينها 2 تريليون لدعم المشتقات النفطية، و75 مليار ليرة لدعم المناطق المتضررة من الزلزال، و75 مليار ليرة أخرى مخصصة لصندوق دعم الإنتاج الزراعي.
ولا يتطلب الأمر مهارة كبيرة للوصول إلى استنتاج مفاده أن هذه «الزيادات» في الأعداد لا تعدو كونها مجرد تغييرات شكلية على الورق، ولا تعبر بأي شكل من الأشكال عن التدهور الحقيقي الذي يمر به الاقتصاد السوري، فإذا أردنا أن نعرف القيمة الحقيقية للموازنة، يكفي أن نذكر أننا إذا أخذنا سعر صرف الدولار الأمريكي رسمياً، نجد أن الموازنة انخفضت من 5.3 مليار دولار في عام 2023 إلى 3 مليارات دولار في موازنة 2024. وإذا أخذنا معيار الذهب، فإن موازنة العام 2023 كانت تكافئ نحو 76 طن من الذهب (عيار 21)، ثم انحدرت في موازنة 2024 لتصبح 45 طن فقط. وحتى إذا حسبناها على معيار لحم الغنم، فقد كانت موازنة العام 2023 تكافئ 412 ألف طن من اللحم، ثم أصبحت 236 ألف طن فقط في موازنة العام 2024.
لهذا، يمكن القول إن وسطي نسبة انخفاض الموازنة العامة بين عامي 2023 و2024 بلغ -42%.

1160

حتى هذه الأرقام لا تعكس شيئاً حقيقياً!

منذ زمنٍ طويل، تتسم الموازنات السورية المعلنة بفارقٍ كبير جداً بينها وبين قطع الموازنات (أي الفرق بين ما تعلنه الحكومة من نوايا للإنفاق وتحصيل الإيرادات في الموازنة المعلنة، وما تنفقه وتحصّله من إيرادات فعلياً في نهاية العام، وهو ما يسمى بقطع الموازنة).
هذا الفارق كان كبيراً دائماً، لكنه وصل الآن إلى مراحل لا يمكن تخيلها. في هذا الصدد، أكدت الأكاديمية والباحثة الاقتصادية، د.رشا سيروب، أنه بالنظر إلى قطع الحسابات والأرقام الفعلية، فإن موازنة العام 2024 تعادل جميع الأرقام الفعلية التي أنفقت في جميع سنوات الحرب. وهذا مؤشر على ضخامة أرقام هذه الموازنة مقارنة مع الأرقام الفعلية التي ستنفق.

الاعتمادات الجارية: 17% للأجور... 44% للديون

تمثل الرواتب والأجور ضمن ميزانية العام 2024 نحو 17% من إجمالي الاعتمادات الجارية، في حين أن الحصة الأكبر من هذه الاعتمادات خُصصت لبند الديون والالتزامات المستحقة، حيث بلغت التزامات الدين العام لعام 2024 نحو 2 تريليون ليرة سورية. وهذا يشمل سداد أقساط وفوائد القروض سواء كانت الداخلية أو الخارجية، بالإضافة إلى سندات الخزينة، إلى جانب الاعتمادات غير الموزعة الأخرى التي تستأثر بجزء كبير من الإنفاق الجاري والديون والالتزامات المستحقة.
يُظهر هذا كيف أن التركيبة الهيكلية للإنفاق الجاري قد تغيرت خلال السنوات الثلاث الماضية، مع العلم أن نسبة الديون والالتزامات المستحقة ارتفعت من 26% في عام 2021، إلى 44% في عام 2024.

57% من النفقات المعلنة هي نفقات غير منتجة

وفقاً لسيروب، فإنه فيما يتعلق ببند النفقات التحويلية، الذي يهدف بشكل رئيسي إلى إعادة توزيع الدخل لصالح الطبقات ذات الدخل المنخفض ويشمل بشكل أساسي بند «مساهمة الدولة في تثبيت الأسعار - أو الدعم الاجتماعي»، فقد شهد وزنه النسبي تغييراً ملحوظاً: في عام 2021، كان يمثل حوالي 52.5% ليتقلص إلى 26% في عام 2024. بالمقابل، شهدت النفقات الإدارية زيادة من 7.4% في عام 2021 إلى 13.7% في عام 2024. وهنا من الملاحظ أن النسبة الإجمالية للإنفاق على الرواتب والأجور بالإضافة إلى النفقات التحويلية، التي كانت تشكل 67% قبل ثلاث سنوات، قد انخفضت إلى 43%. أما البقية، أي 57%، تتكون من النفقات غير المنتجة مثل النفقات الإدارية والديون والالتزامات التي تغطى من خلال العجز المالي، مما يجعل التضخم نتيجة طبيعية ويحرم المواطن من الشعور بأثر هذه الكتلة المالية.
وهنا أيضاً، يكفي أن نذكر أن قيمة الدعم الاجتماعي المخصص في الموازنة العامة للدولة عام 2023 كانت 0.96 مليار دولار، أما في موازنة 2024 فهي لا تتعدى 0.54 مليار دولار. ووفقاً لمعيار الذهب، نجد أن قيمة هذا الدعم كانت تكافئ قرابة 13.8 طن من الذهب في موازنة العام 2023، وانحدرت إلى حدود 7.9 طن في موازنة 2024. أما بالنظر إلى معيار لحم الغنم، فنجد أن قيمة الدعم الاجتماعي انخفضت من قرابة 75 ألف طن من اللحم في موازنة العام 2023، إلى ما لا يزيد عن 41 ألف طن لحم في موازنة 2024.

1160-19

العجز ثم العجز ثم العجز.. ذريعة لرفع الدعم

يكاد لا يخلو تصريح حكومي واحد من ذكر مسألة العجز في الموازنة العامة للدولة كذريعة لتبرير عمليات رفع الدعم المستمرة. وحتى لدى البعض من الاقتصاديين السوريين، باتت مشكلة العجز نقطة انطلاق أساسية بالنسبة لهم في اتخاذ موقف من مسألة الدعم الاجتماعي. فهل يجب أن تكون هذه النقطة هي نقطة الانطلاق حقاً؟
في عام 2021، شهدت سورية زيادة ملحوظة في معدلات العجز، بنسبة 71% عن عام 2020. تلتها زيادة بنسبة 65% في عام 2022، وبنسبة 18% فقط في عام 2023، لتقفز هذه النسبة إلى 93.5% في عام 2024. لكن رغم هذه الزيادات الكبيرة في العجز، يبدو أن نسبة العجز إلى الناتج المحلي الإجمالي ليست مرتفعة بشكل كبير، حيث لم تتجاوز 8.28% في عام 2023، وهو رقم لا يعد مرهقاً بشكل واضح للاقتصاد السوري.
التحدي الأكبر، وفقاً لسيروب، لا يكمن في مقدار العجز بحد ذاته بل في مصادر تمويل هذا العجز وكيفية نموه بالمقارنة مع معدل النمو الاقتصادي. يجب أن يهدف الإنفاق الحكومي إلى تحقيق معدلات نمو اقتصادية محددة. ومع ذلك، تظهر البيانات أن معدل النمو الاقتصادي الاسمي خلال العامين 2021 و2022 كان أقل من معدل نمو العجز.
لهذا، يلجأ أصحاب القرار في البلاد إلى طباعة العملة كوسيلة لتمويل الإنفاق دون أن يكون هناك تحقيق لإنتاجية عالية في السلع والخدمات. وهذا الوضع يمكن أن يؤدي إلى تفاقم التضخم ويؤثر سلباً على الاقتصاد الكلي، مما يزيد من الضغوط المعيشية على السكان الذين يجدون أنفسهم مضطرين لدفع فاتورة التضخم من حياتهم ومعيشتهم. أما المسؤولون، فيتلطون خلف ذريعة العجز لتسريع عمليات رفع الدعم.

الخلاصة: الموازنات لا تعني شيئاً… المشكلة في مكان آخر

في ضوء العرض الشامل للموازنة العامة في سورية وتحليل أبعادها المختلفة، يبرز بوضوح التباين الحاد بين الأرقام المعلنة والواقع الاقتصادي المرير الذي يعيشه الشعب السوري. الزيادات النظرية في الموازنة، مع زخمها الرقمي، لا تعدو كونها محاولات لإضفاء شرعية على أوضاع اقتصادية شديدة التردي، بينما يتجاهل التحليل لهذه الموازنات الأثر الحقيقي للسياسات الاقتصادية على حياة الناس اليومية.
والفجوة بين الاعتمادات المعلنة والإنفاق الفعلي، وكذلك بين الأهداف المعلنة والنتائج المحققة، تعكس انفصالاً جذرياً عن الأسس الاقتصادية والاجتماعية التي يُفترض أن تُبنى عليها أي موازنة حكومية. هذا الانفصال ليس مجرد إخفاق في التخطيط أو الإدارة، بل هو مؤشر على أزمة أعمق تتعلق بكيفية تعامل أصحاب القرار مع الأزمات الاقتصادية وتأثيرها على الطبقة الأكثر فقراً في المجتمع.
وفوق ذلك، يشير الاعتماد الزائد على الديون والالتزامات المستحقة، وتنامي النفقات غير المنتجة، إلى نموذج اقتصادي يعتمد بشكل مفرط على الإنفاق الاسمي دون تحقيق أي معدلات نمو اقتصادي مستدامة. هذه الاستراتيجية لا تفشل فقط في معالجة الأسباب الجذرية للتحديات الاقتصادية، بل تؤدي أيضاً إلى تفاقم المشكلات القائمة، مثل التضخم وتدهور قيمة العملة، مما يزيد من الأعباء على المواطنين الأكثر تضرراً من السياسات الرسمية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1160
آخر تعديل على الأربعاء, 14 شباط/فبراير 2024 12:21