2024: الانخفاض الشامل يضرب الموازنة العامة والدعم والإنفاق الاستثماري

2024: الانخفاض الشامل يضرب الموازنة العامة والدعم والإنفاق الاستثماري

تحت ستار الأرقام المبهمة والبيانات المالية التي تشكّل الموازنات العامة للدولة، يكمن واقع اقتصادي متدهور في سورية. ورغم أنه من الواجب أن تقدم الموازنات العامة لأي دولة صورة عن أداءها الاقتصادي، وتكون بمثابة مرآة تعكس اتجاهات النمو والاستثمار، إلا أنه في سورية، تتلاشى هذه الوظيفة أمام متاهات الأرقام والضرورات السياسية. وبدلاً من أن تكون الموازنة عرضاً حقيقياً لتوقعات الأداء الاقتصادي المقبل، تصبح مجرد «أمر واقع» يتم التعامل معه سنوياً.

منذ انفجار الأزمة في سورية، شهدت البلاد تسارعاً في تراجعها الاقتصادي الحاد على مختلف الأصعدة. ومع ذلك، تبقى الموازنات العامة تحمل طابعاً إيجابياً ظاهرياً، وكأن الوضع الاقتصادي لم يتغير، أو كأن الانهيار الاقتصادي في البلاد ليست بالقدر الذي يعيشه السوريون يومياً. هذا التناقض بين الموازنات والواقع المعيشي يطرح تساؤلات كثيرة حول كيفية إعداد هذه الموازنات ومدى تمثيلها للحقيقة.

1146a

«التذاكي المكشوف» موازنة العام المقبل بالأرقام

وافقت الحكومة السورية، الثلاثاء الماضي 24/10/2023، على الاعتمادات الأولية لمشروع الموازنة العامة للدولة لعام 2024، والبالغة 35.5 تريليون ليرة سورية (زيادة شكلية 115% عن موازنة العام الماضي البالغة 16.5 تريليون)، موزعة على 26.5 تريليون ليرة للإنفاق الجاري و9 تريليون للإنفاق الاستثماري (زيادة شكلية 82% عن اعتمادات العام الماضي البالغة 4.9 تريليون). وبلغت اعتمادات الدعم الاجتماعي في موازنة العام المقبل 6.2 تريليون ليرة (زيادة شكلية 107% عن اعتمادات العام الماضي البالغة 3.0 تريليون ليرة)، بينها 2 تريليون لدعم المشتقات النفطية و75 مليار ليرة لدعم المناطق المتضررة من الزلزال، و75 مليار ليرة أخرى لصندوق دعم الإنتاج الزراعي.
لا يحتاج المرء كثيراً من الحنكة ليستنتج أن هذه «الزيادات» في الأرقام ليست سوى حبر على ورق ولا تتعدى كونها «ارتفاعات» شكلية لا تعكس الواقع المتدهور للاقتصاد السوري. لكن الجديد في التغطية والتحليلات التي تخرج من هنا وهناك حول موازنة العام المقبل هو سيل «الخبراء» الاقتصاديين المضطرين للاعتراف بأن ثمة تراجع ما قد جرى، لكن يحاولون التخفيف من حجمه وتقزيمه بحيلٍ شتى، من بينها مثلاً أن يحاول أحدهم حساب أرقام الموازنة وفقاً لسعر صرف الدولار في السوق السوداء، ليخرج باستنتاج أن موازنة العام 2023 كانت تعادل 2.8 مليار دولار وفق سعر صرف السوق السوداء حين إقرارها، أما موازنة العام 2024 فأصبحت تعادل حوالي 2.6 مليار دولار بحسب سعر صرف الليرة في السوق السوداء (13.9 ألف ليرة للدولار)، ثم يدعي أن التراجع في قيمة الموازنة بلغ في هذه الحالة حوالي 7%.
لهذا السبب، سنحاول في هذا المقال أن نحسب القيمة الحقيقية للموازنة، ونقارنها مع السنوات السابقة، لنستنتج النسبة الفعلية للتراجع الذي أصاب أرقام الموازنة، وذلك بالاعتماد على حساب قيمة الموازنة وفقاً لثلاثة معايير (سعر الصرف الرسمي للدولار، ومعيار ما تستطيع الموازنة أن تشتريه من ذهب، ومعيار ما تستطيع الموازنة أن تشتريه من لحم الغنم) ذلك لأن السلع الأساسية تستطيع أن توفر صورة أكثر دقة لواقع التضخم والتراجع الاقتصادي. هذا دون أن نغفل أن أرقام الموازنة بالأساس لا تتعدى كونها «إعلان نوايا» لا تعكس بالضرورة ما سيتم إنفاقه وجبايته خلال العام المقبل.

1146b

الموازنة انكماشية على جميع الجبهات وبجميع الحسابات

بأخذ سعر صرف الدولار الأمريكي رسمياً، نجد أن الموازنة العامة للدولة في سورية كانت تتراجع طوال السنوات الفائتة خلافاً للارتفاعات الخلبية التي يتم الإعلان عنها حين الحديث عن الموازنة بالليرة السورية.
ووفقاً لهذا المعيار، فإن موازنة العام 2010 كانت تعادل حوالي 16 مليار دولار أمريكي، بينما هبطت موازنة العام 2022 إلى حدود 10.6 مليار دولار، ليعقب ذلك انخفاضان آخران، الأول في موازنة العام 2023 حين لم تتعدى حدود 5.3 مليار دولار، ثم في موازنة العام المقبل التي لا تزيد عن 3 مليارات دولار. أي أن نسبة التراجع الذي حدث بين موازنتي 2023 و2024 هي بأحسن الحالات -41.7%.
أما إذا أردنا أن نقيّم الموازنات بالذهب (عيار 21 غرام)، فإن موازنة العام 2010 كانت تكافئ حوالي 428 طن ذهب، ثم انخفضت بشدة في عام 2022 لتصبح 78 طن، ثم 76 طن ذهب في موازنة 2023، أما في موازنة 2024 فقد انحدرت إلى مجرد 45 طن. وبهذه الطريقة تكون نسبة التراجع بين موازنتي العام 2023 و2024 وفقاً لمعيار الذهب هي -41.8% وهي شديدة التقارب مع نتيجة معيار الدولار الرسمي.
وحتى إذا أخذنا معيار لحم الغنم، فإن موازنة العام 2010 كانت تعادل 837 ألف طن من لحم الغنم، وأخذت بالتراجع حتى وصلت إلى 443 ألف طن في موازنة عام 2022، ثم 412 في موازنة العام 2023، وصولاً إلى 236 ألف طن فقط في موازنة العام 2024. ما يعني أن نسبة التراجع بين موازنتي العام 2023 و2024 وفقاً لمعيار لحم الغنم وصلت إلى -42.6%.

1146c

الدعم الاجتماعي يتلاشى أيضاً.. وبتسارع

وفقاً لمعيار سعر صرف الدولار الأمريكي رسمياً، فإن قيمة الدعم الاجتماعي المخصص في الموازنة العامة للدولة عام 2023 كانت تقف عند تخوم 0.96 مليار دولار، أما في موازنة العام المقبل فهي لا تتعد 0.54 مليار دولار. ما يعني أنها تقلصت فعلياً وفقاً لهذا المعيار بحدود -43.9%.
وبحساب قيمة الدعم الاجتماعي وفقاً لمعيار الذهب، نجد أن قيمة هذا الدعم كانت تكافئ حوالي 13.8 طن في موازنة العام 2023، وانحدرت إلى حدود 7.9 طن في موازنة 2024، أي أنها تراجعت أيضاً بحوالي -43.1%.
أما بالنظر إلى معيار لحم الغنم، فنجد أن قيمة الدعم الاجتماعي انخفضت من حوالي 75 ألف طن لحم في موازنة العام 2023، إلى ما لا يزيد عن 41 ألف طن لحم في موازنة 2024، ما يعني تراجعها بحوالي -44.8%.

1146d

الإنفاق الاستثماري.. نحو الحضيض رغم مزاعم «الارتفاع»

بعيداً عن تباهي بعض «المحللين» بارتفاع أرقام الإنفاق الاستثماري بين موازنتي 2023 و2024 بنسبة 82%، نجد أنه وفقاً لمعيار سعر صرف الدولار الرسمي فإن الرقم الاستثماري كان يكافئ حوالي 1.5 مليار دولار في موازنة العام 2023، ليهبط مرة واحدة إلى ما دون 0.8 مليار دولار في موازنة 2024، أي أن الانخفاض كان بحدود -50.5%.
وعلى النحو ذاته، نجد أن رقم الإنفاق الاستثماري كان يعادل حوالي 22.8 طن ذهب في موازنة العام 2023، ثم وصل إلى 11.4 طن في موازنة العام 2024. ما يعني أيضاً أن الانخفاض كان بحدود -49.8% بين الموازنتين.
وكذلك، فإنه وفقاً لمعيار لحم الغنم، كان الإنفاق الاستثماري يكافئ حوالي 123 ألف طن لحم في موازنة 2023، وبات عند حدود 60 ألف طن لحم فقط في موازنة 2024، ما يعني أن الانخفاض وصل كذلك إلى -51.2% بين عامين.

1146e

الخلاصة في الأرقام الوسطية

أخيراً، يمكن القول إن وسطي نسبة انخفاض الموازنة العامة بين عامي 2023 و2024 بلغ -42%، بينما وصل وسطي انخفاض الدعم الاجتماعي إلى -44%، أما رقم الإنفاق الاستثماري فقد انخفض وسطياً بنسبة -51%. وكل ما عدا هذه النسب لا يتعدى كونه محاولات لتغليف عملية التراجع بهالة من الأرقام المفبركة التي لا تستطيع أن تستغفل السوريين الرازحين تحت وطأة المعاناة والألم اليوميين.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1146
آخر تعديل على السبت, 06 كانون2/يناير 2024 14:22