النموذج الاقتصادي العالمي الحالي يصل إلى نهايته
سيرجي غلازييف سيرجي غلازييف

النموذج الاقتصادي العالمي الحالي يصل إلى نهايته

كان بوتين واضحاً خلال خطابه في الجلسة العامة لمنتدى سان بطرسبرغ الاقتصادي الدولي في 17 حزيران، إنّه من المستحيل العودة إلى النظام العالمي القديم. انتهى عصر النظام العالمي أحادي القطب... رغم كلّ المحاولات للإبقاء عليه وحفظه بأية وسيلة.

ترجمة: قاسيون

إنّ التغييرات في تكوين الدول الرائدة في النمو الاقتصادي وطبيعة العلاقات الدولية ذاتها ناتجة عن عملية تغيير النماذج الاقتصادية العالمية السائدة. يفسّر التغيير في النماذج الاقتصادية العالمية عدم الاستقرار الحاد في نظام العلاقات الدولية الذي يحدث خلال مثل هذه الفترات في تدمير النظام العالمي القديم وتشكيل النظام العالمي الجديد. لقد استنفذت فرص التنمية الاقتصادية والاجتماعية القائمة على النظام الراسخ للمؤسسات والتكنولوجيا المتأصلة في الدورات القديمة لتراكم رأس المال، والتي تكمن خلف كلّ اقتصاد عالمي. إنّ تغيير الدول التي تقود التنمية الاقتصادية العالمية، والذي ترافق مع الحروب العالمية، أصبح أمراً لا مفرّ منه. يستفزّ ذلك النخب الحاكمة للنظام الاقتصادي العالمي الآفل، والذين لم يعد لديهم أيّة وسائل وأدوات أخرى للحفاظ على هيمنتها العالمية.
في القرن الماضي توسطت الحربان العالميتان الانتقال من الاقتصاد العالمي للإمبراطوريات الاستعمارية إلى الاقتصاد العالمي لهياكل الإنتاج المتكاملة رأسياً، والتي كان توسعها مدعوماً بقضيّة النقود غير المحدودة. إنّ التوسع السريع في الإنتاج على الأطراف الأمريكية والأوروبية للنظام الاقتصادي البريطاني المهيمن في بداية القرن الماضي كان ينظر إليه من قبل النخبة الحاكمة البريطانية على أنّه تهديد لهيمنتهم العالمية.
من خلال تنظيم الحرب العالمية الأولى، حافظ البريطانيون على قيادتهم عبر تدمير منافسيهم الأوروبيين الرئيسيين: ألمانيا وروسيا والنمسا والمجر وتركيا. لكنّ «طرفهم» الأمريكي أصبح أكثر قوّة. كنتيجة للجولة الثانية من هذا الصراع، ذهبت القيادة العالمية إلى الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. استمرّت مواجهتهما لأكثر من نصف قرن. كان انهيار الاتحاد السوفييتي بمثابة بداية الانتقال إلى نظام اقتصادي عالمي جديد. لقد وسعت العولمة الليبرالية– وهي المثالية لمؤسسات دورة التراكم الأمريكية– هيمنتها في العالم لمدّة ربع قرن، وفقدت اليوم قدرتها على تحفيز نمو الاقتصاد العالمي.
اليوم، بعد ربع قرن فقط من تأسيس الهيمنة الأمريكية العالمية، لم تعد السوق العالمية توفر إعادة إنتاج موسعة لمؤسسات دورة التراكم الأمريكية. تدفقت الموارد المحررة من المجمعات الصناعية والتكنولوجية القديمة إلى جنوب شرق آسيا، وهو مركز جديد للتكاثر الذي يتوسع بسرعة، والذي قدم نموذجاً للتعايش الخالي من النزاعات، حيث يتعايش التخطيط بانسجام مع اقتصاد السوق، وبين القطاعين العام والخاص. بالتزامن مع النمو السريع للبلدان الرئيسية للنظام الجديد، فالاقتصاد العالمي السابق– الذي كان يركز على الازدهار الاقتصادي للولايات المتحدة، يغرق في فصول ناتجة عن الاختلالات والتناقضات الداخلية المتراكمة.
بناءً على نظرية تغيير نماذج الاقتصاد العالمية، من المرجح أن تتطور أحداث جديدة على النحو التالي: سيستمر التطور المتسارع للصين والهند في المستقبل المنظور. إنّ حملة واشنطن المناهضة لروسيا تعززها بشكل موضوعي: يتمّ إعادة توجيه تدفقات الهيدروكربون الروسي وغيره من الموارد الطبيعية بسعر مخفض من الاتحاد الأوروبي إلى أسواق هذين البلدين. توصلت بلدان الاتحاد الاقتصادي الأوراسي لاتفاق شامل في التعاون الاقتصادي مع الصين، وقد تمّ إدماج الاتحاد الاقتصادي الأوراسي مع «حزام واحد وطريق واحد». تمّ اتخاذ القرار من حيث المبدأ ببدء المفاوضات لإبرام اتفاقية تجارية تفضيلية بين الاتحاد الاقتصادي الأوراسي والهند.
مع تشديد العقوبات المناهضة لروسيا، يتسارع نمو التجارة بين بلدان النظام العالمي الجديد، وعليه في 2021 مقارنة بعام 2020، كانت التجارة الأجنبية بين الاتحاد الأوراسي والهند والصين قد ازدادت بنسبة 131,7٪ و132.2٪ على التوالي. بحلول كانون الثاني 2022، ازدادت تجارة دول الاتحاد الخارجية بالمقارنة مع العام السابق بنسبة 146٪ مع الهند، وبنسبة 150,7٪ مع الصين.

تدهور متسارع بلا مكابح

الأوضاع في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في تدهور متسارع كما هو واضح. فرغم أنّ الولايات المتحدة حققت جميع أهدافها من الحرب الهجينة التي أطلقتها ضدّ روسيا: تعزيز سيطرتها على دول الناتو والاتحاد الأوروبي، وضخّ عشرات المليارات من الدولارات في إعادة إحياء مجمعها للصناعات العسكرية أثناء تجميد التزاماتها بالديون تجاه روسيا، فهذا لا يكفي كما هو واضح لإحياء الاقتصاد الأمريكي المتداعي. أدّت زيادة المعروض من الدولار بمقدار أربعة أضعاف إلى تضخيم الفقاعات المالية، ممّا وفّر الاستقرار، ولكن ليس نمو النشاط الاقتصادي. من خلال إصدار 9 ترليون دولار إضافية لعام 2020 فقط «حوالي 20٪ من المعروض بالدولار العالمي، نما حجم الإصدار في 2021 بنسبة 27٪ أخرى– وهي الزيادة الأكبر في 60 عاماً» باستخدام عمليات إعادة الشراء الضخمة الطارئة، تمكنت السلطات النقدية الأمريكية من ترجمة ما لا مفر منه في ظروف تغيير النماذج التكنولوجيّة للكساد العظيم إلى ركود كبير.
لكن حتّى بالمقارنة مع الكارثة الاقتصادية في الثلاثينات من القرن الماضي، فالزيادة الإجمالية في النشاط الاقتصادي في العقد منذ بدء الأزمة العالمية هي أقل اليوم مما كانت عليه في الفترة المماثلة من القرن الماضي. في عام 2021 بلغت الزيادة في التضخم الاستهلاكي 8,6٪ وهو رقم قياسي خلال العشرين عاماً الماضية. في الاتحاد الأوروبي، تُظهر ديناميكيات الاقتصاد الكلي مؤشرات أسوأ بسبب الترابط العميق للتجارة البينية مع روسيا. في محاولة للعب جنباً إلى جنب مع أسياد البحار، اختارت أوروبا انتحار الطاقة الجماعي، ونتيجة لذلك بلغ متوسط الزيادة في مؤشر أسعار المستهلك لشهر أيار 2022 في الاتحاد الأوروبي ككل «من 5,8٪ في فرنسا ومالطا إلى 20,1٪ في إستونيا».
لا يوجد سبب للشك في أنّ الاتجاهات المذكورة ستستمرّ في المستقبل المنظور: سيستمر جنوب شرق آسيا في الازدهار، بينما ستزداد اتجاهات الأزمات في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، مع إعادة إرسال صدماتهما المصطنعة إلى الصناعة ودخل الأسر. وفقاً لتوقعات الباحث الروسي البارز بانتين، فإنّ ذروة المواجهة الجيو- اقتصادية مع الغرب مجتمعاً من المتوقع أن تكون في الفترة من 2023 إلى 2024 مع تلاشي نهائي تدريجي في عام 2025، وهو ما يتوافق مع «هيكل الموجات الطويلة لظرف كوندراتيف الاقتصادي».
بالنسبة لدول الاتحاد الأوراسي، فتعزيز النمو سيتطلب من بين أمور أخرى، إعادة تقييم مكان ودور الحوافز النقدية، والتي لها صلة متساوية بجميع اقتصادات الاتحاد. لهذا يجب أن تنصّ السياسة النقدية– من بين أمور أخرى– على:
تخفيض أسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية الوطنية في إطار أدوات خاصة لإعادة التمويل الذي يستهدف البنوك التجارية لمؤسسات القطاع الحقيقي، ومشاريع الاستثمار الحكومي ومؤسسات التنمية.
توسيع خطوط الائتمان التفضيلية بأسعار فائدة منخفضة لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة والصناعات ذات الأولوية.
زيادة التمويل من قبل مؤسسات التنمية للمشاريع ذات الإمكانات التكاملية، بما في ذلك المشاريع التعاونية التي تهدف إلى تحديث أو توسيع الإنتاج الحالي.
تطوير آليات وبرامج تمويل أهداف مشروطة لتنمية الاقتصادات التي تحاول اللحاق بالركب.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1083