السعوديّة بين العالم القديم والجديد
فاليري كوليكوف - ترجمة: أوديت الحسين فاليري كوليكوف - ترجمة: أوديت الحسين

السعوديّة بين العالم القديم والجديد

في عالم اليوم، تتراجع الدول ذات الاقتصادات الإمبريالية أمام الاقتصادات الصاعدة. تقف الدول التي اعتمدت فيما مضى على الإمبرياليين وهي مدركة بأنّ عليها البحث عن شراكات وعلاقات تجارية أخرى كي تنجو، ومثالها السعودية، والتي يجب الأخذ بالحسبان أنّ تحوّلها قد يستغرق وقتاً تبعاً لثقله، لكنّه يستحقّ التتبّع لما فيه من إشارات على مدى مراحل التراجع التي وصلت إليها الإمبريالية.

على الرغم من محاولات الإدارة الأمريكية الحالية التقليل من دور السعودية على الساحة الدولية، فمن الواضح أنّها تصبح مشاركاً أكثر نشاطاً في الأحداث الأخيرة. كانت السعودية على مدى سبعة عقود شريكة لواشنطن، حيث ضمنت الولايات المتحدة أمن المملكة، مقابل تنسيق الأسرة الملكيّة سياساتها للطاقة بشكل وثيق مع الولايات المتحدة.
كان التحالف السياسي مع الرياض أحد أعمدة إستراتيجية واشنطن في الشرق الأوسط. تمّ تنظيم العلاقات بينهما منذ اتفاقية كوينسي في ١٩٤٥. كانت طبيعة الاتفاقية بسيطة إلى حدّ ما: تضمن الولايات المتحدة سلامة المملكة السعودية والعائلة المالكة، وتتمركز القوات الأمريكية في المملكة، وتزودها بأحدث الأسلحة. بالمقابل، تضمن السعودية بدورها سلامة الطاقة للولايات المتحدة بإمدادات متواصلة للنفط.
بعد أزمة النفط ١٩٧٣، اقترح الأمريكيون اتفاقية جديدة: سيساعد الغرب في تحديث صناعة النفط ويحتفظ بها بأعلى مستوى، بينما يحتفظ شيوخ المملكة ببلايين نفطهم في بنوك الولايات المتحدة ويعيشون على الفوائد، ثمّ سيضمنون دعم الدولار الذي لم يعد مدعوماً بالذهب عبر عدم بيع النفط بغير الدولار. في هذه المرحلة استسلم ملوك العرب إلى «العجل الذهبي»، فإن كان بنيّتهم محاولة اتباع سياسة مستقلة، فسيتعرضون للإفلاس بسهولة، ويصبح مصدر ثرائهم: النفط الذي يتمّ استهلاكه بشكل أساسيّ من الغرب، مهدداً.
استمرّ «توازن المصالح» هذا لعدّة عقود. استقبلت الولايات المتحدة السعوديين كحلفاء في النضال ضدّ الحركة القومية العربية والكتلة الشيوعية، وطوّرت مراكز التحليل في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة برنامج «الإسلام ضدّ الشيوعية» باعتباره بداية للخطة التي وضعها هنري كيسنجر لخلق قوس من عدم الاستقرار بالقرب من الحدود الجنوبية للاتحاد السوفييتي.
أعطت واشنطن ولندن الضوء الأخضر للدعاية السعودية للإسلام المتطرّف. أصبحت المملكة أداة واشنطن ولندن في زعزعة استقرار منطقة كبيرة، من شمال إفريقيا إلى إيران، ما أدّى لطفرة جديدة في الإسلام المتطرّف «المتشح بالسواد». نتيجة لذلك، اندلعت الفوضى في عدد من الدول التي كانت فيما مضى تعدّ حليفة لموسكو: العراق وليبيا وسورية ومصر.
مع ذلك، بعد أن مزقت الولايات المتحدة تلك الدول بمعونة من حليفتها الشرق أوسطية، بدأت دوامة الفوضى تطال السعودية نفسها، والتي وجدت نفسها عالقة في الحروب الدائرة، وخاصة اليمن وسورية.

إدراك الخطر

في الآونة الأخيرة، بدأت الأنظمة الملكية العربية التي لطالما كانت على قائمة الحلفاء المتميزين للولايات المتحدة، تدرك الخطر المحدق بها. باتوا يعلمون بأنّ واشنطن تتخلّص بحريّة من «الأصدقاء» كما الأعداء. بالنسبة للسعودية، تجلّى هذا بشكل خاص بتخلي الولايات المتحدة عن الحليف مبارك في مصر، وعدم التصرّف حيال أحداث البحرين رغم تواجد الأسطول الخامس الأمريكي في ميناء المنامة واضطرار السعودية للتدخّل، وصولاً إلى وضع أساسات للاتفاق مع إيران.
تعززت عدم الثقة في الفترة التي كانت فيها إدارة أوباما. في ١٦ آذار ٢٠١٦ نشر جيفري غولدبيرغ مقالاً تضمّن تعليقات أوباما التي نُشرت لأوّل مرة في حينه، والتي عرض فيها النقد القاسي الذي وجهه أوباما للسعودية، والأهم تشكيكه بمدى جدوى الشراكة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة والسعودية. بدا واضحاً للسعودية بأنّها قد تصبح جزءاً من «الأضاحي» الأمريكية التي تسعى إلى إشعال المنطقة، وبأنّ واشنطن لن تحمي السعودية في حال الصراع مع إيران، وأنّها قد لا تتخذ حتّى موقفاً مؤيداً لها علنياً. وربّما الأهم، الاقتصاد السعودي الذي يعتمد بشكل كبير على بيع النفط، مضطرّ لإيجاد حلول تجنبه الانهيار إذا ما وقعت أزمة اقتصادية غربية أخرى.
بعد وصول محمد بن سلمان إلى السلطة الفعلية في السعودية، بدأت العلاقات بين السعودية والولايات المتحدة تأخذ منحى توتر أكبر. منذ حملته الرئاسية، وصف بايدن السعودية بـ «المنبوذة»، ثمّ أعلن عدم دعم الأمريكيين لحرب السعودية ضدّ الحوثيين في اليمن، وبأنّ الولايات المتحدة ستعود إلى التفاوض مع الخصم الرئيسي للسعودية: إيران. كما أنّه حاول عزل وليّ العهد محمد بن سلمان، وهو صاحب السلطة الحقيقية، بذريعة اشتراكه بشكل مباشر في جريمة مقتل الصحفي جمال خاشقجي.

البدء بالتحرّك

بدأت السعودية بتسريع تطوير علاقاتها مع روسيا والصين والهند، وقررت مراجعة تفضيلاتها في السياسات الاقتصادية وما يعنيه ذلك من تعديلات على السياسة الخارجية، حيث أدركت سلطات المملكة أنّه لا يمكن الاعتماد على الولايات المتحدة.
من هنا نفهم بأنّ ما يبدو بأنّ السعوديين قد سربوه للإعلام، قد يكون أكثر من مجرّد مناورة ومراوغة عندما ينضج ويصبح بإمكانهم تحقيقه بالفعل: استعداد السعودية لتلقي مدفوعات النفط باليوان الصيني. الأمر الذي يعني توجيه ضربة قاصمة لمفهوم البترودولار الذي لطالما ضمن استقرار الدولار وبقاءه كعملة عالمية.
أعلن السعوديون ضمن الاتجاه ذاته أيضاً، عن تنسيق العمل مع روسيا داخل أوبك وخفض الاستثمار داخل الولايات المتحدة. بل ذهب السعوديون أبعد من ذلك إلى حدّ الإدلاء بتعليقات سلبية تجاه الولايات المتحدة.
حاولت إدارة بايدن إجراء محادثات مباشرة بين الرئيس الأمريكي وولي العهد محمد بن سلمان، من أجل مناقشة إمكانية زيادة صادرات النفط من أجل استقرار الأسعار. لكنّ ولي العهد رفض الحديث ببساطة، وذلك وفقاً لمصادر الإعلام الغربي ذاته. رفضت السعودية التنديد بالعمل العسكري الروسي في أوكرانيا، وبدلاً من ذلك تحدّث وزير خارجية المملكة مع زميله الروسي، وناقش معه «سبل تعزيز وتوطيد» العلاقات.
تذهب تقارير الإعلام الغربي إلى أنّ السعودية قد بدأت التصرّف بشكل يؤذي المصالح الاقتصادية الغربية. نشرت وول ستريت جورنال بأنّ السعودية وجهت دعوة من ولي العهد محمد بن سلمان إلى الرئيس الصيني شي جينغ بينغ ليزور المملكة بعد نهاية شهر رمضان، من أجل مناقشة توطيد العلاقات التجارية بين البلدين وتوقيع اتفاقيات بهذا الخصوص.
بدأت واشنطن في مواجهة ما يجري باتخاذ خطوات لاسترضاء الرياض من خلال تزويدها بأنظمة إضافية مضادة للصواريخ من طراز باتريوت، وعدد كبير من الصواريخ المضادة، من أجل ضمان القدرة الدفاعية للسعودية ضدّ تكثيف الهجمات من اليمن.
قد لا يكون لما تفعله الولايات المتحدة التأثير التي تأمله، فالرياض تدرك بأنّ العديد من المشكلات الاقتصادية والسياسية التي تواجهها اليوم يمكن حلّها ليس بمساعدة الولايات المتحدة، بل بمساعدة من روسيا والصين.
قد لا يكون تحوّل المسار السعودي سريعاً، وقد يختبر مرحلة من التذبذات المنطقية تبعاً لكثرة الأوراق التي تملكها الولايات المتحدة للضغط على السعودية. لكن لا يجب أن نغفل الإشارات التي تظهر أثناء هذا الانتقال. من هذه الإشارات الإنكار الرسمي السعودي في ١٩ آذار للزيارة المخطط القيام بها من قبل وزير الخارجية الأمريكي بلينكن إلى المملكة، الأمر الذي كانت واشنطن تعلّق عليه الكثير من الآمال كما يبدو. علينا الانتظار لنرى ما سيحدث.

بتصرّف عن:
Riyadh Reclaims its Place in Active International Politics

معلومات إضافية

العدد رقم:
1064
آخر تعديل على الإثنين, 04 نيسان/أبريل 2022 13:49