«تعويم العملة»  مصطلح رائج في أنظمة «الشرق الأوسط الغربية»

«تعويم العملة» مصطلح رائج في أنظمة «الشرق الأوسط الغربية»

من مصر إلى لبنان فالعراق وصولاً إلى سورية... يتنقل مصطلح تعويم العملة ليدرج على «ألسنة المفوّهين»، فيُمدح النموذج المصري، ويتم الحديث عن تحرير الليرة في لبنان، ويُخفّض الدينار في العراق، ويتحدّث البعض في سورية عن تعويم ممكن قادم! وكل هذا يأتي في مرحلة أزمة اقتصادية دولية تصبح فيها العملات الأساسية وتدفقات الاستثمارات الأجنبية بل المؤسسات الدولية التقليدية موضع تساؤل، ولكن تبقى أنظمة الحكم «الشرق أوسطية» مخلصة الولاء لليبرالية الجديدة الاقتصادية التي تتماوت في مركزها!

المفارقة الاقتصادية تفسّرها السياسة، أي: ارتباط أنظمة المُلك والحكم والقرار بمنظومة المال الغربية، وبشكل مكثّف بالدولار والمركز الأمريكي، الذي يستخدم أدواته الاقتصادية لتعميق الأزمات الاجتماعية في النقاط الهشّة، مثل: منطقتنا التي يمتلك الكثير من مفاتيح التحكم بقرارها! فهي بالمنظار الأمريكي لا تزال المكان الأمثل لتعميق الفوضى: عبر تهميش أجهزة الدولة بالدرجة الأولى، وسط صعوبة القدرة على بناء بدائل اجتماعية سياسية حتى الآن، وفي ظل احتقان اجتماعي عالٍ لمجتمع شاب يفتقد أسس الحياة.

تحرير العملات: الغاية واللحظة

أمّا ما علاقة هذا بتعويم العملة، فالإجابة يمكن تبسيطها... إذ إن التعويم أو تحرير سعر الصرف هو عملياً إضعاف لسلطة أجهزة الدولة على جانب هام من جوانب السيادة: قيمة النقد والعملة الوطنية، لتصبح قيمة الجنيه أو الليرة تتحدد في السوق وعبر قوانين العرض والطلب على العملات الأجنبية والمحلية، مع كل ما يعكسه هذا من تأثيرات على قيمة السلع اليومية، وبنية تكاليف الإنتاج المحلية... فيصبح استقرار مستويات الأسعار للسلع المستوردة والمنتجة محلياً رهناً بتدفق الدولار والعملات الأجنبية دخولاً وخروجاً، وتصبح العملة الوطنية وسلطة إصدارها منفعلة لا فاعلة.

وهو الحال غالباً في حالة تحرير العملة، ولكنه المآل المؤكد في دول منطقتنا تحديداً وفي اللحظة الحالية. إذ يتم هذا التحرير في دول كلها بالمجمل أصبحت تعتمد في أساسيات غذائها على الاستيراد، أي: على سعر الدولار في السوق. فمصر تؤمن 44% من حاجتها للحبوب (القمح والرز والأعلاف) عبر الاستيراد، والعراق 55%، أما لبنان فـ 90%، وفق منظمة FAO أما سورية التي لا يوجد قياس دقيق لهذه النسبة فيها، أصبحت تستورد أكثر من نصف حاجتها من القمح، إضافة إلى الرز، بينما تؤمن حاجتنا من الحمص والعدس محلياً، ومع ذلك فإن سلة غذائنا المحلية أصبحت بمعظمها مرتبطة بتغيرات الدولار (حتى قبل أن يحصل التعويم الكامل).

وعدا عن استيراد الغذاء، فإن «ميزان الحساب الجاري» لهذه الدول والذي يشمل معظم تدفقات العملات الأجنبية الداخلة والخارجة، سالب. أي: يخرج سنوياً قطع أجنبي منها لأغراض الاستيراد وأرباح المستثمرين الأجانب وتحويلات الكاش الأخرى... أكثر مما يدخل إليها: من التصدير وتحويلات دخل المواطنين في الخارج وغيرها من أوجه تدفق القطع الأجنبي. وهو حال جميع هذه الدول إذا ما استثنينا العراق، حتى الآن، الذي يحقق له النفط عوائد قطع أجنبي... ولكن في ظل بلد لا يزال تحت قيد الاحتلال، يتم استثمارها في شراء سندات دَين الخزانة الأمريكية بمقدار بلغ 34,6 مليار دولار في 2018 وما يعادل فوائضه المحققة بخمس سنوات!

أي: إن هذه الدول عبر التعويم تترك غذائها وقيمة عملتها الوطنية ومجمل مستوى الأسعار فيها رهناً لتقلبات سوق العملات الأجنبية... والأسوأ أنها تقوم بهذا في لحظة أزمة دولية يشهدها الاقتصاد العالمي مع التوقعات المتكررة بارتفاع أسعار الغذاء العالمية كعتبة قادمة من الأزمة. وعلى ماذا تعوّل أنظمة الليبرالية الجديدة هذه؟! على تدفق الاستثمارات الدولية، وهو الذي نراه يأتي إلى مصر بشكلين أساسيين: قروض صندوق النقد، والاستثمار في سندات دَين الحكومة المصرية، ومع وصول الدَّين الحكومي إلى 125 مليار دولار في مصر، فإنها لا تزال تحتاج إلى تمويل بنسبة 35% من ناتجها وما يعادل مجمل ما اقترضته حتى الآن، وفق تقديرات صندوق النقد. ولنا في النموذج اللبناني مثالٌ حيّ حول نتائج الاقتصاديات التي تعيش على الدَّين والتدفق الخارجي.

هذا عدا عن أن لحظة الأزمة تتمثل في تراجع تدفق الاستثمارات عبر العالم، وسط حالة عدم اليقين... التي تصل إلى حدّ أن يتوقع أبرز اقتصاديي الولايات المتحدة أن تتراجع قيمة الدولار بنسبة 35%، وأن يصل الركود في أمريكا إلى 50%.

أما ما يقوله آخرون مستندين إلى الكلاسيكيات بأن تعويم العملة وتخفيض قيمتها يؤدي إلى دعم الصادرات، وزيادة تنافسيتها... فقد أصبح مكروراً، تحديداً عندما يتم تجاهل أن هذه الحقيقة مشروطة بجملة عوامل لدعم التنافسية، ربما أهمها: الاستقرار السياسي الذي يهدده ارتفاع درجة حرارة المجتمعات، وتراجع آليات الحماية الاقتصادية الاجتماعية التي يعتبر جهاز الدولة أهمها. وعدا عن هذا فإن التجربة المصرية أيضاً تعطي دلائل، فمصر التي عوّمت عملتها الجنيه منذ 2016، لا تزال اليوم مضطرة للالتزام بمزيد من التغييرات الهيكلية وفق تقييمات البنك الدولي، الذي قيّم مؤخراً استجابة الصادرات المصرية بأنها سلبية حتى الآن، وأن هنالك حاجة لمزيد من الإجراءات!

التعويم في سورية؟!

إنّ الحديث عن تعويم العملة في سورية يشبه ضرباً من الجنون. فسورية دولة يتربّص بها مشروع التقسيم، ويهدد وجودها الجوع، ويتلاشى دور الدولة فيها إلى أدنى مستوياته، لدرجة عدم القدرة على تأمين الأساسيات في ظل العقوبات الإجرامية والسياسات المتبعة. وتعويم العملة الكامل في ظروف كهذه هو قطع آخر شعرة لدور المصرف المركزي، والسلطة النقدية في التحكم بقيمة العملة الوطنية. ورغم أنّ هذا الدور ملغى عملياً وواقعياً إلى حد بعيد وتحديداً خلال العامين الماضيين، إلّا أن التعويم الكامل يلغي إمكانية التدارك ويطلق سوق المضاربة إلى أعلى مستوى لها.

إن ما نحتاجه اليوم وبشكل ملحّ، وما كنا نحتاجه طوال سنوات الأزمة ولم يجرِ، هو ضبط سعر الصرف، بل محاولة التحكم بحركة ودور القطع الأجنبي بأعلى مستوى ممكن. عبر جملة سياسات تتجاوز السياسات النقدية، ولا تنطلق من سعر الصرف بل تنطلق من هدف تأمين الأساسيات وتثبيت أسعارها، وتعبئة موارد القطع لإبقاء جهاز الدولة حيّاً في مواجهة العقوبات، التي تريد في نهاية المطاف أن تصبح سورية بلد «كل من إيدو إلو» يتحكم أمراء الحرب فيها بمصير الملايين من لقمة خبزهم إلى تدفئتهم إلى مصير العملة الوطنية... وهو ما قطعنا أشواطاً في الوصول إليه!

إنّ أنظمة منطقتنا المرهونة للغرب إلى حد بعيد، تذهب معه بعيداً في سياساتها الاقتصادية لحظة الأزمة، وهي تعيق الخروج نحو الفرص التي تفتحها الأزمة الدولية ذاتها... كأن تمنع توازنات القوى الغربية في لبنان دخول الاستثمارات الصينية أو حتى الحصول على الوقود من إيران بالعملة المحلية! كذلك الأمر في سورية، ولكن دون جلبة وضجيج الإعلام في لبنان، يمنع أثرياء الحرب أية إجراءات جدية لمواجهة العقوبات وإزاحة الدولار، بل يستثمرون ما تبقى من موارد الدولة ليؤمنوا أرباحهم عبر استيراد الأساسيات «بالقطارة وبأعلى الأسعار» ويستثمرون في الفوضى ليربحوا من تجارتهم السوداء.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1001