إيقاد الحرب التجارية... بذريعة الصناعة الأمريكية

إيقاد الحرب التجارية... بذريعة الصناعة الأمريكية

أقر الرئيس الأمريكي برفع التعرفة الجمركية على الواردات الأمريكية من الحديد بنسبة 25% و10% على الألمنيوم...وهذه الخطوة ليست الأولى باتجاه التراجع عن نهج الحرية التجارية العالمية، الذي كان الأمريكيون حماته الأساسيين، ولن تكون الأخيرة في نهج محاولة إيقاد (حرب تجارية)... كما وصفها دونالد ترامب.

 

ترافقت الحملة الانتخابية الأمريكية الأخيرة مع الهجوم على الحرية التجارية، ومنظمة التجارة العالمية التي يصفها ترامب (بالكارثة)، وتأتي مع هذه الشعارات المعادية للتجارة، وعودٌ كثيرة بحماية المنتجات الصناعية الأمريكية، وإعادة الصناعات إلى البلاد وزيادة فرص العمل.
سلسلة إجراءات حمائية
سبق هذا الإجراء الأخير المتعلق بالحديد والألمنيوم إجراءات حمائية أخرى، حيث رفعت التعرفة الجمركية بنسبة 50% على واردات آلات الغسل الكبرى، وبنسبة 30% لوحدات الطاقة الشمسية المستوردة. وكذلك رفع التعرفة الجمركية على طائرات بومباردييه الكندية بنسبة 220%...ولكن الأهم، هو: إعادة الأمريكيين النظر باتفاقيات التجارة الحرة ككل، حيث أوقف ترامب العمل باتفاقية التجارة الحرة عبر المحيط الهادئ، التي تستكمل اليوم دون الأمريكان، وبدخول الصينيين، وكذلك الأمر تجري الولايات المتحدة مفاوضات صعبة مع المكسيك وكندا، لإعادة ترتيب اتفاقية التجارة الحرة بينهم: NAFTA، وتصريحات وزير التجارة الأمريكية المفاوض تلوّح بإلغاء الاتفاقية. ولكن تعتبر التعرفة الجمركية على المعدنين واحدة من أهم الإجراءات حتى الآن وأوسعها تأثيراً.
الولايات المتحدة هي المستورد الأكبر للحديد عالمياً، وهي مستورد هام للألمنيوم كذلك الأمر، وفي الوقت الحالي فإن الصناعات الأمريكية تعتمد على واردات الحديد والألمنيوم بشكل كبير، حيث ثلث الحديد المستخدم في الصناعة الأمريكية مستورد، بينما أكثر من 90% من الألمنيوم الداخل في الصناعة يأتي من الخارج أيضاً!
تعتبر الصين العدو التجاري الأهم للولايات المتحدة، وفق التصريحات الرسمية الأمريكية، ولكن المفارقة، أن الصين لن تكون المتضرر الأكبر في الإجراءات الأخيرة. بل عملياً حلفاء الولايات المتحدة هم الأكثر تضرراً. فمن يورد الحديد والألمنيوم للولايات المتحدة؟
الحلفاء هم الخاسر الأكبر؟!
يتبين من قيم مستوردات المعدنين إلى أمريكا في عام 2017، بأن كندا هي المورد الأكبر من المادتين بنسبة 22% من قيم المستوردات، وبمقدار 3,2 مليار دولار، من أصل 14 مليار دولار، يليها دول الاتحاد الأوروبي بنسبة 18% تقريباً، ثم كوريا الجنوبية، فالمكسيك، والبرازيل، ثم روسيا، التي تليها الصين بنسبة 5%، وقيمة: 700 مليون دولار. وحتى بالكميات فإن نسبة صادرات الصين من المعدنين إلى الولايات المتحدة تصبح أقل وبمقدار لا يتعدى 2-3% (Peterson Institute for International Economics).
تشير تصريحات الرئيس الأمريكي، إلى أن تطبيق التعرفة سيكون انتقائياً، منوهاً أن المستثنيين الأوائل هم جارتا الولايات المتحدة: كندا والمكسيك، ولكنه وضع هذا الاستثناء ضمن شروط، تندرج غالباً في المفاوضات الجارية حالياً بين الدول الثلاث لإعادة صياغة اتفاقية التجارة الحرة في أمريكا الشمالية: NAFTA. بينما لم تتم الإشارة إلى استثناءات للاتحاد الأوروبي الذي سيكون المتضرر الأكبر، وتحديداً ألمانيا، بالإضافة إلى كوريا الجنوبية التي تصدر 91% من هذين المعدنين للولايات المتحدة، وتقدر بأن خسائرها السنوية ستبلغ 1,1 مليار دولار، وكذلك الأمر فإن البرازيل ستكون من كبار المتضررين.
أما الصين التي تُعلن كهدف لهذه الإجراءات، فإن أضرارها لن تكون كبيرة، وذلك لأن قرارات أمريكية سابقة، فرضت على المستوردات الصينية من المعدنين ضرائب، ليرتفع سعرها إلى مستوى السعر العالمي، ولا تُغرق السوق الأمريكية! وهو ما يفسر انخفاض واردات الحديد والألمنيوم من الصين للولايات المتحدة، رغم أن الصين هي أكبر منتج عالمي، حيث تنتج نصف حديد العالم، والولايات المتحدة هي المستورد الأكبر.
أي: أن إجراءات التعرفة الجمركية الأخيرة، تستهدف التفاوض مع الحلفاء قبل الأعداء التجاريين... فهل ستؤدي فعلاً إلى أثر على الصناعات المحلية، والتشغيل؟
هل سيزيد التشغيل الأمريكي؟
ردود الفعل الأولى على الإجراءات أتت من داخل الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أشار ممثلو الصناعات المرتبطة بواردات الحديد والألمنيوم إلى الولايات المتحدة، أن النتيجة ستكون نقلة في ارتفاع مستوى أسعار المجموع الكبير من المنتجات المرتبطة بالمعدنين. وقد أتت الاستجابة المالية في مؤشر داو جونز الصناعي الذي انخفض بمقدار 500 نقطة.
ويشير بعض المحللين الاقتصاديين الأمريكيين في موقع: The economist network Econofact إلى أن هذه الإجراءات، التي يُعلن أن هدفها زيادة فرص العمل في الولايات المتحدة، لن تؤثر إيجاباً على فرص العمل. لأن فرص العمل الأمريكية في هذا القطاع لم تتسبب بها التجارة الصينية أو الإغراق التجاري عموماً، بل التغيرات التكنولوجية في القطاع، وتبديل العمال بالآلات. فصناعة الحديد الأمريكية خسرت بين الخمسينيات والوقت الحالي 80% من عمالها، من 650 ألف عامل إلى 140 ألف. بفعل التطوير التكنولوجي على الصناعة واستبدال العمال بالآلات.
يرى البعض أن الإجراءات الحمائية التجارية الأمريكية التي رفع لواءها الرئيس ترامب، لا تهدف فعلياً إلى رفع مستويات التشغيل كما يسوّق لها، وإن كانت تهدف جزئياً إلى حماية صناعات محددة أمريكية، والضغط على الجزء الهام منها، العامل خارج البلاد للعودة... لكن هل بالفعل هناك إمكانية جدية لاستعادة الصناعة الأمريكية، التي فقدت جزءاً هاماً من تسارع تطورها، مع التوسع المالي والاعتماد الأمريكي على عوائد احتكار المال العالمي، أي: الدولار؟!
إن استعادة الصناعات الأمريكية، والسياسة الحمائية، تعني مخالفة قانون السعي نحو الربح الأقصى؟ فالشركات لن تعود للعمل في الولايات المتحدة، ولن تقبل السوق بدفع تكاليف أعلى للمستوردات، إلا إذا كان معدل الربح الصناعي أعلى مضموناً... وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا بنقلات تكنولوجية صناعية: وهذه بدورها تزيد التكاليف، وتقلل التشغيل، وتزيد البطالة، وتخفض مستويات الاستهلاك، وتؤدي إلى انخفاض معدل الربح مجدداً! إن إحداث نقلات تكنولوجية، وحماية الصناعة وإعادة انتعاشها عمليات تتطلب، ظروف نمو وازدهار اقتصادي، وتوسع الطلب، وليس ظروف أزمة اقتصادية عالمية كالتي نعيشها اليوم... إذاً: ما المطلوب فعلاً من هذه الإجراءات، ومن الهجوم على التجارة العالمية؟ ربما تكون الحرب التجارية، وإيقاد الفوضى الاقتصادية هدفاً أمريكياً للمرحلة القادمة.