نهاية عقود (قوى التخلف)

نهاية عقود (قوى التخلف)

عندما تنظر إلى الاقتصاد السوري، أو إلى مسار تطور المجتمع السوري الذي يرى البعض أنه متوقف منذ منتصف السبعينيات، فإن سؤالاً ملحاً حول الأسباب التي أوقفت التقدم الاجتماعي، وجعلت أية خطوة للأمام في مواجهة مباشرة مع (قوى خفية) تتجلى بالبيروقراطية والفساد والتكلس ومصالح الربح الكبرى والنخب، التي كانت تحتكر القوة والسيطرة وتضعف تقدم الجميع...

شكّلت رشوة الريع السياسي والمليار ونصف سنوياً المقدمة من السعودية منذ 1973 وحتى مطلع الثمانينيات، تلك الشريحة الاقتصادية التي تسمى بالبرجوازية البيروقراطية في سورية، فسَمِنَ ذوو السلطة سُمناً مفرطاً وسريعاً، مستفيدين من ضعف الطبقة العاملة، وقوى المجتمع السوري التقدمية المنتجة، ومن ضعف شرائح المال التقليدية والبرجوازية القديمة، التي تلقت ضربات متتالية في الستينيات، والتي اتنزع نموذج (رأسمالية الدولة) الكثير من مساحة السوق التي كانت تتربع عليها.
انتفخ (أولو الأمر) بكرم البترودولار، ووسعوا دور جهاز الدولة كأداة أساسية لإعادة التوزيع لصالح الشريحة الجديدة. واستمر هؤلاء بإدارة نموذج لمركزة الموارد في جهاز الدولة، وشفطها، حيث قدّرت نسبة الهدر في (نموذج القطاع العام) بـ 50%، أي: أن نصف الدخل الذي يفترض أن ينتج عن الاستثمار العام كان (مشفوطاً).
التكيُّف مع رياح الغرب
إنّ هذه الشريحة كانت محكومة بالبحث عن أدوات مختلفة، فالتوازنات التي أتاحت قوتها الضاربة كانت تتغير... فأولاً: كان النموذج الغربي النيوليبرالي يوسع هيمنته العالمية، وتتنحى النماذج الاقتصادية الأخرى المختلطة والمركبة لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وسادت وصفات النيوليبرالية التي تركز باستهدافها على جهاز الدولة ودوره الاقتصادي، وغزت هذه السياسات دول العالم واحدة تلو الأخرى، ثم بالجملة، داعية إلى نسف أية ملامح استقلال نسبي لبرجوازيات الأطراف، وعملت على دمجها وتبعيتها الكاملة، وفق الأدوات العالمية الجديدة، التي تقول بالسوق المفتوحة كاملاً، والدولة الضعيفة المشرفة فقط. ما انعكس ضغطاً على أدوات البرجوازية البيروقراطية السورية، ودفعها نحو التكيف مع عاصفة العولمة، التي أنعشت نسبياً البرجوازية القديمة ذات العلاقات والأرصدة والارتباطات بمنظومة الغرب الأوروبية تحديداً.
وثانياً: كانت المليارات المتكدسة لدى البرجوازية البيروقراطية تحتاج إلى مسارب تشغيل، فبالرغم من أنها اتّبعت التقليد المعروف لقوى النهب في دول الأطراف بإيداع الأموال المنهوبة كأرصدة في المنظومة المالية العالمية (في عام 2000 قُدّرت رؤوس الأموال السورية المودعة بالخارج بـ 100 مليار دولار)، إلا أنها عملت أيضاً على نقل أموال الفساد، لتتحول إلى رؤوس أموال في السوق السورية، التي بدأ انفتاحها المتسارع منذ التسعينيات. وتشكّلت شركات واستثمارات ووكالات (الفاسدين الجدد)، والجيل الثاني من أبناء وربيبي كبار فاسدي البرجوازية البيروقراطية. وما سمي بالبرجوازية الطفيلية.
الجيل الثاني من الفساد الكبير
فرض هؤلاء أنفسهم وكلاء أساسيين للتوجه الاقتصادي العالمي النيوليبرالي، وفتحوا أبواب السمسرة على مال العقارات والخدمات المصرفية والمالية والسياحية والاتصالات والتجارة، تحت شعار اقتصاد السوق الاجتماعي، وحرية التجارة وحركة رؤوس الأموال والاستثمار الأجنبي. وانتقل القسم الأهم إلى هيمنة البرجوازية الطفيلية، التي نحّت موضوعياً جيل الآباء المؤسسين، وبدأت تقلص أداة النهب السابقة الأساسية، أي: عبر جهاز الدولة، إلا بحدود إمكانية الاستفادة منه. وعلى هذا الأساس أُنهي تطور التجارة والصناعة والزراعة والنقل العام لصالح سوق الاستيراد والتصدير والاستثمار المحلي الخاص في هذه القطاعات. وأنهي تطوير المنظومة التعليمية والصحية العامة، وبدأ الاستثمار الخاص في هذه القطاعات كذلك الأمر. وبالمقابل استبقي الطابع العام لقطاعات النفط والكهرباء بالدرجة الأولى. حيث لم تتوفر إمكانية كافية للتصدي لمهمة خصخصة هذه القطاعات، من جهة لأنها تحتاج إلى استثمارات كبرى، ومن جهة أخرى لأنها تتيح بوضعها الحالي إمكانية نهب هامة من خلال عقود مبيع النفط الخام، وعقود استيراد المشتقات، وحصص تهريبها، وعقود الكهرباء وإنشاء المحطات وإلخ... وكذلك استبقيت علاقة الدولة بمنظومة الإنتاج الزراعي الواسعة للمحاصيل الأساسية: مثل القمح والقطن. وتم تأجيل عملية خصخصة هذه القطاعات الأساسية إلى مراحل لاحقة، رغم تجهيز جزء هام من البنية التشريعية التي تتيح هذه العملية.
توقف التقدم الاجتماعي في سورية، لأن شرائح البرجوازية السورية كانت تتكيف بنجاح، وبتمركز عالٍ مع معطيات عالم النيوليبرالية منذ الثمانينيات وحتى الأزمة المالية العالمية، ولأنها كانت تنظم عملية تعبئة الموارد، وصبّها في أرصدة الغرب، وتفتح البلاد على أموال القطاعات العفنة، وتربطها بسلطتها وأموالها.
الأزمة... بداية النهاية
مقابل هذا، كانت النتيجة المنطقية تراجع العوامل المحركة للتقدم الاجتماعي، وتراجع الاستثمار في تطوير الثروة الاجتماعية، أي: تطوير منظومة الزراعة، والصناعة، والنقل، والبنى التحتية، والتعليم والصحة... ومن الطبيعي أن تتباطأ إلى حد التوقف، وتائر تطور كل ما سبق، طالما أن الربح الكبير والسريع متاح من الوكالة والعلاقة مع سلطة نهب الموارد العالمية، وطالما أن القوى الاجتماعية الواسعة المتضررة من هذا التأخر، والتواقة للتقدم الاجتماعي غائبة عن الساحة السياسية، ولا تمتلك زمام المبادرة اقتصادياً أو سياسياً.
إلا أن التدهور المستمر يستحيل ألّا يواجَه بانفجار اجتماعي، وهو ما حصل ويحصل عالمياً ومحلياً، فالمنظومة القديمة في سورية لم تعد قادرة على الاستمرار، وانفجار الأزمة هو إعلان بداية نهايتها. ورغم أن الأزمة كانت ولا زالت ملعباً سياسياً لمحاولات التكيف والاستفادة من الوضع الجديد، وأتاحت مزيداً من المركزة والنهب من التراجع والدمار. إلا أنها أوصلت الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية، إلى حد غير قابل للتكيف.
إن خروج الأزمة من العنف كساحة صراع سياسي، ودخولها في إطار صراع سياسي ديمقراطي، يعني حكماً: دخول القوى الاجتماعية الواسعة المتضررة من التخلف على ساحة المبادرة السياسية، وستسمح لعموم السوريين من القوى الناشدة للتقدم والسير إلى الأمام بوضع مصالحها وحاجاتها الملحة على منصة الصراع السياسي، وستكون المواجهة مع قوى وشرائح برجوازية التخلف والنهب، هي عنوان المرحلة القادمة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
837