العالم يتغير... بقاطرة صينية

العالم يتغير... بقاطرة صينية

يعتبر تراجع التدفقات المالية الغربية التي كانت تضخ كقروض عبر مؤسسات التمويل الدولية، إحد أهم تجليات الأزمة الاقتصادية العالمية منذ عام 2008، حيث انحسرت التدفقات المالية خلال الفترة 2007 – 2016 من 12.4 تريليون دولار إلى 4.3 تريليون دولار.

انكفاء التمويل الغربي، قابله زيادة في حجم ونوع التمويل الوارد من الشرق عبر الصين بالدرجة الأولى، ودول بريكس التي ازدادت مساهمتها إلى إجمالي التدفقات من 5% عام 2010 إلى 8% عام 2016.

تترافق عمليات التغير المذكورة بنقاط علّام في السياسة الاقتصادية العالمية، «فتوافق واشنطن» يقابله اليوم «توافق بكين».
توافق بكين بمقابل توافق واشنطن
إنّ توافق بكين اصطلاحٌ استخدم لتمييز تجربة الصين في التنمية الاقتصادية عن توافق واشنطن العائد لعام 1989 وهو جملة الإجراءات السياسية التي تبنتها المنظمات الدولية الغربية صندوق النقد والبنك الدولي التي مركزها واشنطن «لانتشال الدول من أزماتها الاقتصادية والمالية»، العملية التي نشرت الوصفات النيوليبرالية عبر العالم.
تقود الدولة-في التجربة الصينية-عملية التنمية وتلعب دور صانع السوق، بينما وفقاً لتوافق واشنطن فإن السياسات تكون موجهة من قبل السوق مع تقليص لدور الدولة للحد الأدنى.
مقابل شروط حرية انتقال رؤوس الأموال والبضائع وإزالة القيود، التي تضعها مؤسسات واشنطن، كان النجاح الصيني المتمثل بمعدل نمو وسطي 10% خلال العقود الثلاثة الماضية، مرتبطاً بالسياسة المالية الصينية التي جمعت بين استقرار أسعار الصرف، وأسواق المال المغلقة، والاستقلال النقدي تحت ما سمي «الثالوث المستحيل» وذلك في ظل رقابة حكومية صارمة على أسواق المال.
في مجال السياسة التجارية والاستثمارية، اعتمدت التجربة الصينية في انفتاحها على المستثمرين، وعلى وضع الاشتراطات عليهم، فأبقت سياسة تنمية الصادرات والحماية، وفرضت تنظيم الاستثمار الأجنبي الوارد واشترطت نقله للتكنولوجيا، وبالمقابل فإن أهم بنود توافق واشنطن كان اشتراط حرية التجارة وتخليص الاستثمار من كل قيد أو شرط قد تضعه الدول المستقبلة.
بناء على هذا، استطاعت الصين أن تصل إلى أعلى مستوى من التصنيع وأكثرها شمولاً، بينما اضطرت الدول الخاضعة لتوافق واشنطن أن ترضى بالدور الذي يختاره لها الاستثمار الدولي في قطاعات المال والخدمات، أو في عمليات صناعية محدودة تعود منتجاتها وأرباحها لمنابع الاستثمار، واضطرت أغلب دول الأطراف نتيجة حاجتها للمساعدات والتمويل، إلى الرضوخ لشروط النيوليبرالية في ظل هيمنة سياسات وبرامج صندوق النقد والبنك الدولي خلال العقود الماضية، بالإضافة لعدم وجود أي بديل في النظام الدولي.
بعد هذا الفشل وعدم الرضى، جاءت الدعوات بالتوجه لإيجاد نموذج بديل للتنمية الاقتصادية من شأنه أن يحل محل توافق واشنطن، وهو ما عبر عنه جوزيف ستيغليتز: «بأن النقاش الآن لم يعد فيما إذا كان توافق واشنطن انتهى أم لا، بل إن النقاش يدور حول ماذا سيحل مكانه».
وعليه فإن النموذج التنموي الصيني، أو توافق بكين يطرح نفسه كبديل تنموي لتوافق واشنطن على المستوى الاقتصادي العالمي، من خلال المبادرات والمؤسسات التنموية الجديدة التي تتيح للبلدان النامية الاندماج في الاقتصاد العالمي، من خلال التنمية المتبادلة مع المحافظة على استقلاليتها.
البنوك والبنى التحتية
إن تطوير البنى التحتية القائمة، والاستثمار في مشاريع كبرى جديدة في دول الأطراف كان هامشياً في التمويل الدولي الغربي (صندوق النقد والبنك الدوليين). وهو إذ يشمل قطاعات الطاقة والنقل والمياه والاتصالات بشكل أساسي، فإنه يعتبر رافعة اقتصادية وتنموية تنقل مستوى الإنتاج المحلي والنمو الاقتصادي في كل دولة إلى عتبة أعلى، ويزيد إمكانية الربط والتفاعل الاقتصادي. ورغم الكتلة الهائلة من الاستثمار العالمي الذي كان يتدفق إلا أن فجوة كبيرة في الاستثمار في البنى التحتية في دول الأطراف بقيت موجودة.
وفقاً لتقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OCED)) فإن فجوة في البنية التحتية على المستوى العالمي ستصل بحلول عام 2030 إلى 50 تريليون دولار أمريكي. أما بنك التنمية الآسيوي (ASD) فقد أشار إلى أن الدول الآسيوية ستحتاج خلال الفترة 2010- 2020 إلى إجمالي استثمارات في البنية التحتية بحوالي 8 تريليون دولار، وهو ما يعادل استثمارات سنوية بحوالي 750 مليار دولار.
ويأتي النشاط الاقتصادي للقوى الصاعدة والصين تحديداً لملاقاة هذه النقطة أولاً، وأهمها: المبادرة الصينية المتمثلة ببنك آسيا للاستثمار في البنية التحتية الذي بدأ عملة في 2016 برأسمال أولي قدرة 100 مليار دولار وبعضوية 57 دولة للعمل على سد هذه الفجوة التي تشكل معيقاً للتنمية الاقتصادية.
تبلغ مساهمة الصين في رأسمال البنك 30 مليار دولار، تليها الهند بـ 8 مليار دولار من ثم روسيا بـ 6.5 مليار دولار كأكبر ثلاثة مساهمين، فعلى الرغم من المساهمة الصينية الأكبر مع قوة تصويت بنسبة 26% أعلنت الصين أنها لن تمارس حق النقض الفيتو في البنك، وكذلك الأمر في بنك البريكس الجديد للتنمية (NBDB) الذي يهدف لتمويل الدول الأعضاء خلال الأزمات، بالإضافة لتمويل مشاريع التنمية في البلدان النامية ومنها مشاريع البنية التحتية، برأسمال أولي بقيمة 100 مليار دولار. حيث تساهم الصين بـ 41 مليار دولار، منها ولكن حقوق التصويت ورسم السياسات متساوية بين الدول الخمس.
بينما تمتلك الولايات المتحدة نسبة 17,6% و 16.8% في كل من الصندوق والبنك الدوليين، وتمتلك حق النقض الفيتو على تمويل هذا المشروع أو عدم تمويله، أو وضع هذه السياسة أم غيرها.
الربط العالمي للقارات الخمس
إن كانت البنوك التمويلية المستحدثة شرقاً تركز على التمويل والبنى التحتية، فإن المشروع الصيني الأوسع هو الحزام الاقتصادي لطريق الحرير البري والبحري (حزام واحد – طريق واحد).
أصبح الهدف المعلن هو الربط الثلاثي لقارات آسيا، إفريقيا، أوروبا عبر أكثر من 60 دولة، وهذا الربط يقوم على بناء تكامل ثلاثي، بين: البنى التحتية والمؤسسات والتبادلات، ويهدف للتقدم بخمسة مجالات: التقارب السياسي، ربط البنية التحتية، الربط التجاري، تدفق رؤوس الأموال، التفاهمات المشتركة. وفقاً للرئيس الصيني.
المشروع الأضخم في القرن الواحد والعشرين يشمل ثلثي السكان عالمياً و3/4 موارد الطاقة، وتكلفة المشروع وفقاً للتقديرات الصينية تصل إلى 100 مليار دولار سنوياً إنفاق صيني خارجي لمدة 10 سنوات، أما الاعتماد الأساسي في تمويل المشروع فيقوم على البنوك الصينية والبنكان الحكوميان الصينان: بنك التنمية الصيني (CDB)، وبنك الصين للصادرات والواردات (China Exim) يمتلكان أصولاً إجمالية بأكثر من 1.8 تريليون دولار، منها 500 مليار دولار في الخارج في عام 2016 بما يزيد عن مجموع أصول بنوك التنمية التي يدعمها الغرب والتي تبلغ 700 مليار دولار 400 مليار دولار منها للبنك الدولي.
وخلال عامين من إطلاق مشروع طريق الحرير فإن أكثر من 1000 مشروع في 49 دولة قد مولت بقيمة تقارب 79 مليار دولار.
ويلتقي مشروع الحزام والطريق مع مشروع الصين لإقامة منطقة التجارة الحرة لآسيا والمحيط الهادئ (FTAAP) وذلك بعد استبعاد الصين من مفاوضات الشراكة الاقتصادية عبر المحيط الهادئ (TPP) التي أنهاها الرئيس الأمريكي، حيث إن المشروع الصيني يشمل جميع الأطراف في TPP بالإضافة إلى ثمانية بلدان أخرى، بما في ذلك الصين وروسيا، أي: أنه يأتي ليربط بين طرفي المحيط الهادئ في القارتين الآسيوية والأمريكيتين، بمجموع دول تساهم بنسبة 58% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
المشروع الصيني ليس صينياً فقط، بل هو تعبير عن مجمل وزن القوى الصاعدة الاقتصادي، ومجمل هذه القوى الصاعدة هي دول أطراف كانت منذ أربعة عقود تحت عسف قوانين هيمنة الغرب الاقتصادية، بينما هي تزيح اليوم هذا العبء الذي أثقل كاهل التطور، ذاك الذي لا يمكن أن يتم إلا بنمط علاقات تعاون عالمية تزيح حالياً الهيمنة الاحتكارية وستضطر لاحقاً لإزاحة التنافس بحد ذاته.

هامش:
A Beijing Consensus in the Making: The Rise of Chinese Initiatives in the International Political Economy and Implications for Developing Countries
Chinese investments in infrastructure worldwide
China goes global with development banks

معلومات إضافية

العدد رقم:
828