الوكلاء والممولون يحضرون أنفسهم...

الوكلاء والممولون يحضرون أنفسهم...

سيترافق من اليوم فصاعداً أي حديث سياسي حول الأزمة السورية بالحديث حول عملية إعادة الإعمار بل إن معظم الجهات الدولية بدأت بالفعل... ولكن كل على طريقته.

عشتار محمود
يتحفظ الأمريكيون حتى الآن عن الحديث حول إعادة الإعمار، بينما يركز الأوروبيون على هذه المسألة ولكنهم يضعون شروطاً مقابلها، حيث يربط الاتحاد الأوروبي بين إعادة الإعمار وبين إتمام (عملية الانتقال السياسي)، ويؤكد على تأجيل مسألة رفع العقوبات والمساهمة بالأموال اللازمة لإعادة الإعمار إلى مرحلة لاحقة...
الغرب يهيئ وكلاءه
تتلطى مجموع قوى المال الدولية التي نشطت في جملة (إعادات الإعمار) السابقة الفاشلة في المنطقة، من الولايات المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي وحتى دول الخليج، وراء الحركة التي تبديها مؤسسات التمويل الدولية الغربية المعنية بهذا الشأن أي: البنك الدولي، والإسكوا بالدرجة الأولى. وكل من الأخيرتين تجاوزتا مرحلة تقدير الخسائر، وانتقلتا إلى رسم خطط للمرحلة القادمة اقتصادياً وسياسياً وقانونياً، دون أن تطرحا أي جديد، فالجوهر هو: تدفق الاستثمار الدولي عبر مؤتمرات للمانحين، بالإضافة إلى التسويق لأسماء وشخصيات تصلح كصلة وصل بين الوكلاء من قوى المال والنفوذ في سورية، وبين الغرب الأوروبي بالدرجة الأولى الذي كان الإطار الحاضن لنشاط هؤلاء ومستقر أموالهم، ووجهة عقودهم وتجارتهم، ومن هذه الأسماء على سبيل المثال لا الحصر: عبد الله الدردري الذي كان (واجهة التغول الليبرالي) لقوى المال والفساد السورية قبل الأزمة، والذي انتقل من المنصب الاقتصادي الأول في سورية إلى المنصب الأول المختص بإعادة الإعمار في الإسكوا، ثم في البنك الدولي، وهناك أيضاً أيمن أصفري الذي نشطت عقود شركته في قطاع الغاز والنفط السوري في كل من شركتي حيان، وإيبلا قبل الأزمة. والهدف من الترويج للأسماء هو إمكانية التربيط الغربي مع أوسع طيف من الوكلاء من القوى السياسية والاقتصادية التي ستلعب دوراً في المرحلة القادمة في سورية. بما يتيح ترسيخ علاقة تبعية اقتصادية بين الخارج والداخل، تسمح بالتحكم بقرار النمو وعدمه والاستقرار وعدمه، وتسمح باستعادة الفوضى عن طريق ضمان ثراء قلة مرتبطة بالخارج تحجب النمو التنمية عن البلاد ككل.
خطوات عملية على الطرف الآخر
بالمقابل، لا يتحدث الروس- وهم القوى الدولية الأعلى فعالية في حل الأزمة السورية- حول مسألة إعادة إعمار سورية، ولا يقومون بتجنيد مؤسسات البحث ولم يكن موضوع إعادة الإعمار يمر إلا لماماً في خطابهم السياسي، ولكن بعض المستجدات تحدث مع التراجع السريع للإرهاب في مناطق داعش، وتوسيع مناطق خفض التوتر. حيث تأتي تصريحات وزارة الدفاع الروسية التي أرسلت إشارات متكررة حول موضوعي المساعدات الإنسانية والبنى التحتية في مناقط خفض التوتر، وفي المناطق التي يتم تحريرها من الإرهاب، والتي تصبح عودة سكانها إليها متاحة أمنياً، ولكنها غير متاحة خدمياً، حيث أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن إرسالها لـ 4 آلاف طن من المساعدات كمواد بناء وحفر ومستلزمات بنى تحتية للكهرباء والاتصالات والسكن.
أي: عملياً وحتى الآن، يربط الروس مسألة إعادة الإعمار بعملية تأمين ضمان الاستقرار في المناطق التي خرجت حديثاً من دائرة المعارك.
بينما أطراف دولية أخرى لم تنضم إلى العقوبات، وأبقت هامش علاقات اقتصادية واسعة، تذهب إلى خطوات عملية اقتصادية في إعادة الإعمار، وفي مقدمتها الإيرانيون حيث وقَّعت إيران عقوداً مع الحكومة السورية حول بناء محطة توليد كهربائي جديدة في اللاذقية وتزويد بانياس بمجموعات غازية ما قد يزيد نسبة 13% إلى الطاقة الإجمالية المتاحة والحديث يدور حول تكلفة 130 مليون يورو للعقد دون توضيح ما تغطيه التكلفة، كما تكررت الوفود الصينية والهندية وحتى الروسية والبيلاروسية التي لم تنتقل إلى عقود محددة الآن، ولكن نشاطها واضح بهذا الاتجاه.
ورغم أن هذا النشاط لم ينتقل إلى خطوات عملية ملموسة حتى الآن باستثناء الخطوط الائتمانية الإيرانية، إلا أنه لا يمكن تقييمه إلا إيجاباً حيث يتم الحديث عن جوانب ترتبط بالبنى التحتية والطاقة والصناعة، القطاعات التي تتوفر الظروف فيها لإحراز نقلات جدية، وهي التي بدورها تجعل عملية الإعمار تبدأ بعتبة أعلى من الجاهزية، رغم أن البعد السياسي لا يخرج عن حسابات بعض الأطراف الإقليمية التي ترى أن الظرف السياسي الحالي يتيح لها تثبيت عقود استراتيجية دون منافسين جديين، على العكس من الظرف السياسي القادم الذي سيصبح أكثر تعقيداً.
قوى المال المحلية تراسل الممولين
إن كان هذا على الصعيد الدولي، فكذلك تبدأ الحركة على صعيد قوى المال السورية الكبرى المتوزعة في الأطراف السياسية كلها. فالجميع يحاول أن يبحث عن موقعه المعتاد كوكيل ومعتمد للأموال المعتقد تدفقها في المرحلة القادمة، ويتطلب موقع الوكالة هذا عادة وزناً سياسياً وقدرة على التحكم بالقرار والسياسة الاقتصادية. لذلك فإننا نستطيع توقع نشاط فعال لتمتين الربط بين أطراف السياسة والمال الدولية والمحلية.
وأكثر ما تظهر في المسعى الحكومي التواق لتكرار أسطوانة المستثمرين وجذبهم، وجاهزية سورية لاستقبالهم، وفي مسعى أطراف سياسية في المعارضة إلى الدعوة لمؤتمر مانحين، والمشاركة الفاعلة في تنسيقه.
لا تملك قوى المال التقليدية المحلية والدولية إلا أن تفكر بإعادة الإعمار بالمعطيات القديمة للعلاقة الاقتصادية والمالية بين الخارج والداخل، والتي كانت تناسب مصالح الطرفين: (الممول والوكيل)، وهم يتجاهلون معطيات سياسية دولية تشير إلى أن إعادة الإعمار في سورية لديها فرصة هامة كي لا تكون كسابقاتها، أي: لديها فرصة هامة لتنجح بالتحول إلى نموذج اقتصادي سوري مستقل. وأبرز هذه المعطيات هو: أنه لدى أطراف دولية وفي مقدمتها الروس والصينيون محددات هامة: هي ضرورة نجاح إعادة الإعمار وعدم انتكاسها بالشكل الذي يعيد إنتاج الفوضى، ولدى الشعب السوري احتياجات وضرورات وتجربة لن تجعل مرور نموذج الإعمار التقليدي سهلاً على وكلاء المال الدولي.

إن أهم شرط لنجاح إعادة الإعمار هو إضعاف دور وتأثير قوى المال الدولية وهيمنتها على استقلال القرار الاقتصادي، وهو ما يتطلب الحد من علاقات الوكالة والارتباط بين قوى المال المحلية والدولية، لأن هذه العلاقة تحاول أن تضمن تبعية الاقتصاد السوري لمشاريع الربح والفوضى الدولية. أما التخلص من الدور الاقتصادي لوكلاء المال وضمان إعادة إعمار ناجحة فيدعمه الضعف المالي والسياسي للممولين في الغرب، وفشل المشروع السياسي المتطرف لقوى الفساد والمال المحلية في الطرفين، ولكن هذا النجاح لا يتوقف على ضعف أولئك فقط، بل يتطلب قوى سياسية تكون وكيلة السوريين، وتسعى جدياً لجعل القرار الاقتصادي بيد الشعب ولمصلحته، مع ما يتطلبه هذا السعي من إيجاد برنامج وآليات وتعبئة اجتماعية. وقوى من هذه النوع تتواجد دائماً وتلقى دعماً في الظروف السياسية الثورية كالتي يشهدها عالم اليوم، حيث يتراجع دور قوى المال الغربية وتوابعها الإقليمية التي تغوص في أزماتها، ويتقدم مشروع تنمية واستقرار دولي يواجه مشروع الفوضى ويطفئ حرائقه، ما يعطي فرصة جدية للاستقلال الاقتصادي والنجاح للدول التي تخرج من المعارك الضارية كسورية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
828