المعركة العالمية  مع البنوك المركزية
ليلى نصر ليلى نصر

المعركة العالمية مع البنوك المركزية

خُلقت خلال عقود هيمنة الدولار بنية عالمية، إلى جانب هيكلية الدول التي ولدت منذ قرون عديدة. وهذه البنية الجديدة مصممة لإزاحة بنية الدولة ودورها السيادي عبر العالم، وهي ما يسمى بالحكومة العالمية، وقوام سلطتها الأساسي هو البنوك المركزية.

ليلى نصر
هذا ما كتبه العضو المشارك في الأكاديمية الروسية للعلوم الاقتصادية والأعمال، البروفسيور الروسي فالنتين كاتاسونوف، في مجلة «الثقافة الاستراتيجية». فيما يلي، تقدم قاسيون قراءة لهذا المقال المعنون بـ:«البنوك المركزية التي لا تُمَس».
مستويات هرم سلطة النقد العالمي
يمكن القول أن هذه البنية الجديدة هرمية الشكل، في الأعلى هناك البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، مركز إصدار الدولار الذي تحول إلى رمز العملة العالمية منذ 72 عاماً مضت في اتفاق بريتون وودز بعد الحرب العالمية الثانية.
المستوى الثاني من الهرم مكون من البنوك المركزية التي تصدر العملات الاحتياطية العالمية الأخرى: البنك المركزي الأوروبي، بنك انجلترا، وبنك اليابان. في الحلقة الأدنى من الهرم تأتي باقي البنوك المركزية لدول منطقة اليورو، التي تعتبر مساهمة في البنك المركزي الأوروبي، البنك الألماني والفرنسي بالدرجة الأولى. وهنالك أيضاً بنوك كندا، استراليا، نيوزيلاندا، وبعض البنوك المركزية للدول الاسكندنافية.
في قاعدة هذا الهرم هناك المجموع الكامل للبنوك المركزية عبر العالم، والتي عملياً يمكن القول عنها أنها (مجالس للعملة) مهمتها في السياق العالمي أن تطبع العملات المحلية عبر شراء الدولار الأمريكي أو العملات الاحتياطية الأخرى. وهذه «العملات الوطنية»، هي حقاً دولارات أمريكية مطبوعة بشكل آخر.
إن مجمل هذه البنوك المركزية العالمية مرؤوسة من قبل الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، رغم أنها قد تبدو مختلفة فبعضها يظهر كمنظمة قطاع عام، أو خاص، أو تشاركي، ولكن شكل الملكية في هذه المنظومة ليس مهماً، ولا يدل على الاستقلالية من عدمها. فالاحتياطي الفيدرالي هو شركة مغلقة بمساهمين محدودين، وكل من بنك انجلترا وبنك فرنسا كانوا عادة مملوكين من مساهمين خاصين، ثم تم تأميمهم، بينما على سبيل المثال كل من بنك ايطاليا واليابان لديهم ملكية مشتركة خاصة وعامة. وأياً كانت التغيرات فإن اتجاها واحداً كان يسود، وهو توسيع الدور الاقتصادي للبنوك المركزية حتى تحولت إلى المنظم المالي الأضخم، والمتحكم بسير العملية الاقتصادية، وزيادة استقلاليتها وحصانتها بحيث لا تستطيع السلطات المحلية للدول التأثير كثيراً عليها، بينما ترتبط موضوعياً بنظام طباعة العملات المحلية المعتمد على شراء العملات الاحتياطية، أي ترتبط بالعمق بمكنة طباعة الدولار في الولايات المتحدة.
ماذا عن دخول اليوان الصيني؟
في مقال آخر للباحث كاتاسونوف حول العملة الصينية اليوان، يحاول الإجابة على سؤال: «هل يستطيع اليوان أن يزيح الدولار؟»
وتأتي إجابة الباحث متفائلة حول توسع دور اليوان كعملة احتياطي عالمية، بعد أن استطاعت الصين بقوتها الاقتصادية من خلال توسيع فوائضها المالية ودورها الاستثماري والتجاري العالمي، أن تنتزع اعتراف المنظومة النقدية العالمية وصندوق النقد الدولي، باليوان كعملة احتياطي دولية، تضاف إلى سلة العملات. ويشير إلى أن العقبات التقنية تجاه هذا الموضوع يمكن تذليلها، ومنها ما تعمل الصين عليه عبر توسيع اتفاقيات سواب لتبادل عملتها مع البنوك المركزية المختلفة في الجوار الآسيوي أولاً، وفي أميركا اللاتينية ثانياً، وفي بعض الدول الأوروبية. بالإضافة إلى إجراءات مثل (مراكز اليوان) وهي أشبه بمحطات في مكان معين ولزمان محدد، يستطيع فيه غير الصينين الوصول إلى اليوان وشرائه، والتي تديرها البنوك الأساسية الصينية المملوكة للدولة، ومع بداية 2016، حوالي 20 محطة أطلقت في هونغ كونغ، سنغافورة، تايوان، سيؤول، لندن، فرانكفورت، باريس، ولوكسمبورغ.
لكن ومن خلال ما يذكره كاتاسونوف، يتضح أن هنالك عقبتين في وجه «عالمية اليوان». فعملياً، إن عدم التحرير الكامل لليوان الصيني يعتبر عقبة في وجه تحوله إلى عملة دولية، ولذلك لا يزال اليوان المستخدم عالمياً لا يشكل إلا نسبة 2-3% من كتلة اليوان المستخدمة في الصين، بينما النسبة التقديرية في حالة الدولار تشير إلى أنه من كل 3 دولارات تطبع، فإن واحدة فقط تبقى في الولايات المتحدة، واثنتان تخرجان للدورة العالمية...
عقبات تصديرية
ويضاف إلى ذلك أن الفائض التصديري التجاري للصين أيضاً هو عقبة في وجه هذه العملية، فالصين ترسل بضائع للعالم أكثر مما ترسل مالاً مقابل البضائع، وهذا لا يتناسب مع فكرة نشر اليوان عالمياً، ويقدر الباحثون بأنه بناءً على هذا، فإن ثمن عالمية اليوان ينبغي أن يكون «الصناعة الصينية»، لذلك، فإن الصين أمام وضع إذا ما التحقت فيه بمنطق عمل دول منظومة العملات الاحتياطية العالمية، فعليها أن تخسر نموذجها في التحكم المالي بالعملة، وأن تخسر صناعتها على المدى المتوسط أي عناصر قوتها الفعالة، وأن تعمل على تعويض الفرق من ريع العملة العالمية، وكلا الأمرين مستبعد فلا دول الغرب تقبل بمحاصصة في ريع النقد العالمي، ولا الصين تدخل بمحاصصة ثمنها هز الأركان الفعلية لقدرتها الاقتصادية، ولا المنظومة الاقتصادية العالمية تحتمل مزيداً من استمرار الاستغلال والريع الكبير الذي تحصل عليه آلة الطباعة العالمية التي تضر الصين قبل غيرها، والتي تأخذ حصة من قيمة كل ورقة نقدية محلية تطبع عالمياً...

إن هذه السلطة النقدية العالمية الغربية تزيد من تعقيد إجراء تغيرات سريعة وكبرى في المنظومة النقدية وبالتالي الاقتصادية، حيث تتطلب مواجهة الدول مع بنوكها المركزية التابعة وتطويعها واستعادتها من هيمنة الدولار والنظام النقدي الغربي العالمي، وهذه المواجهة دون بدائل جدية واسعة النطاق هي مواجهة صعبة وذات تأثيرات عميقة على الاستقرار الاقتصادي، وعلى العملات المحلية الوطنية. ولكن هذه المنظومة محمية بالقوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية للغرب، وجميع أركان هذه القوة اليوم مهتزة بعمق، وتبقي الدولار عارياً شيئاً فشيئاً وأقل مقاومة مقابل التغيرات التي أصبحت ضرورة في ظل أزمة اقتصادية عميقة ستدفع الدول في الاطراف العالمية لتحصيل كل ما تستطيع تحصيله من مالها المسروق تاريخياً، والخطوة الأصعب هي استعادة استقلالها النقدي.
المسألة تتطلب اتفاقاً عالمياً على منظومة بديلة لإصدار النقد المحلي، ومنظومة بديلة للتبادل في العلاقات الاقتصادية الدولية. العالم اليوم على عتبات الأزمة يحتاج إلى منظومة بديلة لتبادل البضائع، تتجاوز الدولار وربما أي عملة أخرى..

معلومات إضافية

العدد رقم:
820