يوسف البني يوسف البني

إضعاف الركيزة الأساسية للبنية التحتية انقطاع الكهرباء بين التقنين والتدمير، وقرارات القهر والإذلال

ماذا نسمي هذه الظاهرة؟! وكيف يمكن أن نصفها؟! هل هي ظاهرة تخلف عن ركب الحضارة، ونحن ندعي السير منذ سنوات بمسيرة التحديث والتطوير؟! أم هي ظاهرة عجز في تخديم المجتمع تفضح الأرقام الوهمية التي يطلقها البعض عن النمو والتنمية الاجتماعية والاقتصادية؟! أم هي محاولة قهر وإذلال وقتل لروح الوحدة الوطنية، التي ترتكز قبل كل شيء على متانة البنية التحتية، وما تقدمه من خدمات للمواطنين؟!

نعم، إن انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة، وقد تتكرر على مدار النهار والليل، إنْ كان ضمن برنامج للتقنين، أو ناجماً عن عطل طارئ في شبكات الكهرباء، يعني بالتأكيد كل ما سبق. ومن المؤكد أيضاً أن هناك من يخدمون المصالح الخارجية عمداً أو جهلاً، ممن يسعون إلى إفقار وتجويع وإذلال أبناء هذا الوطن العزيز، ويعملون على تدمير صموده ووحدته الوطنية، بتخريب الركائز الأساسية في البنية التحتية.

أطلق مسؤولون في وزارة الكهرباء تصريحات رسمية بأن «المؤسسة العامة للكهرباء ستقوم بتنفيذ برنامج يحدد ساعات قطع الكهرباء والمناطق بشكل منتظم، وهي (تناقش خيار) أن يكون القطع يومياً، وبموعد محدد البدء والانتهاء، أو أن تحدد الفترة الزمنية للقطع مع تغيير موعد القطع ضمن برنامج ينشر في وسائل الإعلام. وأن فترة قطع الكهرباء لن تتجاوز الساعتين يومياً وبمواعيد معلومة من المواطنين». إلا أن التنفيذ جاء مختلفاً عن التصريحات، وتكرر القطع في كثير من المناطق مرات عديدة يومياً، وتغير موعد القطع في كثير من الأحيان دون برنامج محدد ومعروف، وامتدت ساعات القطع أحياناً إلى ضعف الفترة المقررة. وقد تساوت معاناة وقهر المواطنين على مساحة الوطن من هذه الظاهرة، التي أدت إلى خراب ودمار كبيرين في الحياة المعيشية اليومية، في المنزل والوظيفة والمدرسة والعيادة الطبية والمخابر والجامعة والمشفى، وحتى الأفران التي تقدم الخبز للناس.

وللوقوف على الآثار السلبية لبرنامج «التقنين» الذي ليس له برنامج، استطلعت «قاسيون» الواقع الكهربائي في بعض المدن والمناطق السورية، فأفادنا مراسلنا في المنطقة الشرقية أنه ضمن «برنامج التقنين» قد تنقطع الكهرباء ثلاث أو أربع مرات يومياً، وبمعدل ساعتين في كل مرة، فلو تجاوزنا الضرر الكبير على الحرف والمهن اليدوية، فلن نستطيع غض النظر عن تأثير ذلك على دراسة أبنائنا الطلاب في جميع المراحل التعليمية من الأساسي وحتى الجامعي، وخاصة في فترات الامتحانات، فهل هذا برنامج مقصود لضرب مستقبل الطالب؟ وخطوة تمهيدية للضربة الكبرى له في رفع معدلات القبول في الجامعة؟!!

 

أشكال مختلفة من المعاناة والقهر

في دير الزور نسبة هدر عالية في الكهرباء، وهناك حالة استياء عامة من هذا الوضع الذي أوصلنا إليه أصحاب القرار، بسبب مخططاتهم الاقتصادية الليبرالية، التي أدت إلى تجويع المواطنين عموماً وإفقارهم، مما اضطر الكثير منهم لبيع قسائم المازوت لشراء المواد الأساسية للمعيشة اليومية، وحين أتى موسم البرد والشتاء يستخدمون الكهرباء للتدفئة.
ومثل هذه الظاهرة سيكون لها مستثمروها الذين يثرون على مآسي الآخرين، فقد ارتفع سعر كيلو غرام الشمع، الذي نستعيض عنه بالإنارة بدلاً من الكهرباء، بمعدل 20 -30%، وكذلك زاد الطلب على محركات توليد الكهرباء المنزلية الصغيرة، وهذه أيضاً بدأ التجار يتحكمون بسعرها، وقد يكونون هم وراء برنامج التقنين هذا، بالتنسيق مع بعض المسؤولين في وزارة الكهرباء.
وكذلك الأمر في محافظة الحسكة فإن وضع الكهرباء سيئ جداً، حيث أن هناك انقطاعات يومية متكررة، ليس فقط ضمن برامج التقنين، بل بسبب اهتراء الشبكة التي فات على استخدامها عمر طويل، وهي مصممة على أساس عدد المشتركين الذي لا يساوي ربع المشتركين الذين يستجرون التيار الكهربائي حالياً، ولا تجري للشبكة أية صيانة أو تحديث. هذا بالإضافة إلى السرقات التي تتعرض لها الشبكة من ذوي النفوذ والمحسوبيات والواسطات، والتي تؤدي إلى الانقطاع المتكرر للكهرباء، ويدفع ثمن تلك السرقات المشتركون النظاميون، أما ضمن برنامج التقنين فتنقطع الكهرباء لمدة ساعتين يومياً على الأقل ولكن دون موعد ثابت، ويتغير موعدها بين يوم وآخر، وفي انقطاعها المفاجئ وعودتها المفاجئة تؤدي إلى تخريب الكثير من الأدوات الكهربائية المنزلية، ولكن الضرر الأكبر أيضاً على طلابنا وخاصة في أوقات الامتحانات.
 

تضرر الزراعة المحمية والسياحة الشتوية
أما في المنطقة الساحلية فالوضع مأساوي بامتياز، وبرنامج التقنين أيضاً غير ثابت، ومتكرر بشكل عشوائي، وبعيد جداً عن تصريحات المسؤولين الذين يقولون إن التقنين لا يتجاوز الساعتين يومياً، فالكهرباء تنقطع ساعتين في كل مرة هذا صحيح، ولكن أكثر من مرتين يومياً. وهناك أعطال كثيرة طارئة، خاصة في موسم الشتاء بسبب رداءة الشبكة وقِدَمِها، وكذلك فهي مخصصة لربع عدد المشتركين الحاليين، حيث لم يتم تحديثها منذ سنوات طويلة، ولم يؤخذ بالحسبان الزيادة في عدد السكان، ولا حتى المشتركين نظامياً. وقد يصل الانقطاع إلى سبع ساعات متواصلة أحياناً، ما يسبب توقف النشاط السكاني بشكل شبه كامل، فالحرف كلها تضررت، وكذلك الأدوات المنزلية الكهربائية التي لا غنى عنها، أصابها الكثير من الأعطال بسبب الانقطاعات المفاجئة والعودة المفاجئة للتيار، الذي قد يكون عالي الفولتاج في بدايته، ما يسبب التلف والأعطال للكثير من المحركات.
أما المعاناة الأساسية للمنطقة الساحلية بسبب انقطاع الكهرباء فتتمثل في ناحيتين: أولهما الضرر الكبير الذي تتعرض له الزراعات المحمية بسبب تعطل وسائط التدفئة للبيوت البلاستيكية، التي تعمل حرّاقاتها على الكهرباء، وكذلك رشاشات رذاذ الماء على أسطح البيوت البلاستيكية، وقد اضطر الكثير من المزارعين للعودة إلى وسائل بدائية للاستعاضة عن التدفئة، ولكن الخطر الكبير على تلف البلاستيك بسبب توقف رشاشات الرذاذ، ما يؤدي إلى خسائر كبيرة للفلاح من جهة، وللثروة الزراعية الوطنية من جهة أخرى. والناحية الإستراتيجية الأخرى الأكثر تضرراً هي السياحة الشتوية، التي تعتمد عليها الحركة الاقتصادية في المنطقة بشكل كبير، وخاصة منتجعات مشتى الحلو والكفرون.
ولشرح معاناة مواطنينا هناك وافانا أحد الرفاق بمداخلة جاء فيها: «مع نهاية عام 2008 تودعه وزارة الكهرباء بعتمة قاسية قسوة الشتاء، وبطالة قسرية للجميع، فنظام التقنين في بعض مناطقنا يأخذ شكلاً غريباً عجيباً (نصف ساعة كهرباء ونصف ساعة راحة)، وحين نتصل برقم الطوارئ 117 نجده معطلاً على مدار الوقت، أما الطلاب فلا حول لهم ولا قوة، ويجب أن يسعوا لإتمام كل شيء نهاراً، من أجل الراحة القسرية ليلاً في عتمة دامسة. وقد مرت الأعياد دون أن يدري بها أحد، فلا عيد أضحى أتى ولا عيد ميلاد، ولا سنة هجرية ولا سنة ميلادية، فالأيام كلها موشحة بالعوز والحرمان والفقر والسواد...».

 المنطقة الوسطى من الأرض ومن السماء
تخضع مدينة حمص منذ أكثر من شهرين لبرنامج التقنين حيث تنقطع الكهرباء يومياً من 2 – 3 ساعات وبدون موعد ثابت، وقد تبدأ الفترة من العاشرة صباحاً أو في ساعة متأخرة من الليل، وفي الريف تنقطع على فترتين أو أكثر وبدون برنامج محدد.
إن لمنطقة حمص وحماة وريفهما وضعاً استثنائياً، فالأحوال الجوية القاسية والرياح الشديدة التي تسببها الفتحة في السلاسل الجبلية، تسبب الكثير من أمراض الشتاء للمواطنين، والكثير من الحوادث أيضاً، وبالإضافة إلى تعطل الحرف وكثير من المنشآت الحيوية بسبب انقطاع الكهرباء، تتعطل أيضاً المشافي والمخابر الطبية ومراكز التصوير الشعاعي وغيرها، وقد شكت كل المنشآت الطبية المتوزعة بالمدينة من أزمة إنسانية في ظل انقطاعات التيار الكهربائي، ففي منطقة الوعر (حمص) يعاني مشفى البرّ والخدمات الاجتماعية، من العجز عن تقديم الخدمات الطبية في ساعات انقطاع الكهرباء، وكذلك مشفى الجمعية الخيرية في حي النزهة، وهناك في حي الزهراء 3 مشافي خاصة، ومثلها على طريق الشام، وفي مركز المدينة المشفى الوطني. كما تضررت كثيراً المنشآت الحرفية والمنطقة الصناعية، وبسبب تقنين الكهرباء تأخر تنظيم جداول الرواتب في قطاعي الصحة والتعليم في محافظة حمص، وتعطلت الكثير من نوافذ الصراف الآلي، فلم يستلم الموظفون رواتبهم إلا في وقت متأخر.
 

وحتى العاصمة لم تسلم من العتمة
دمشق وريفها طالهما أيضاً برنامج التقنين العشوائي والمتكرر، خلافاً للتصريحات الرسمية، وأدى ذلك إلى أضرار كثيرة نتيجة تعطل الصناعات والمرافق الحيوية الهامة، وقد أحسَّ كل منا بالقهر والسخط واليأس، فلا صوتٌ يصل ولا استغاثةٌ تجدي. وفي عيادة الطبيب «ع.ر» كنا ننتظر دورنا للكشف الطبي، وفجأة انقطعت الكهرباء وثار الجدل والسباب والشتائم، على هذه الحال التي وصلنا إليها. وفجأة خرج الطبيب ساخطاً أكثر من غيره، فقد كان المريض على سرير الفحص بحاجة ماسة إلى صورة للكلية بالأمواج فوق الصوتية (الإيكو). كيف يمكن أن نصور هذا الموقف؟! وكيف يمكن للمريض الذي يتألم بشدة أن ينتظر حتى عودة التيار مرة أخرى؟! ومِنَ المؤكد أن هذه الحالة قد حصلت أيضاً في مخبر للتحاليل الطبية، وفي عيادة طبيب أسنان، وغيرها الكثير..
إحدى المواطنات قالت بسخط كبير: «لقد خربوا بيوتنا وقتلوا آمالنا وسوَّدوا عيشتنا وليالينا، ولم يكفهم تدمير مستقبل أبنائنا ومحاربتهم في الأيام التي تشتد فيها الحاجة للإنارة وقت الامتحانات، وحتى المؤونة التي كنا نخزنها في الثلاجات لأيام الحاجة والشتاء القاسي، على أساس (خبئ قرشك الأبيض ليومك الأسود)، ونتيجة انقطاع الكهرباء المتكرر، خربت المؤونة وأضاعوا قرشنا وسودوا أيامنا».
ولا تقل معاناة المنطقة الجنوبية عن غيرها من المناطق في سورية، بسبب انقطاع الكهرباء المتكرر، بل على العكس، فمعاناتها أكبر وأشد، حيث تعتبر المحافظات الجنوبية من المحافظات النائية، والمنسية تماماً من الخدمات والمشاريع التنموية، وهي تعيش على هامش الاهتمام والتخطيط  الاقتصادي، وجاءت (حلول) تقنين الكهرباء لتزيد أزماتها ومعاناتها وتضيف إليها معاناة جديدة.

في البحث عن الأسباب
تدّعي الحكومة أن كلفة توليد الكيلوواط الساعي الكهربائي عالية، وقد تصل إلى 238 ق.س ويصل إلى المواطن، بمعدل الشرائح الصغرى، بحوالي 145 ق.س بينما أكد مختصون في وزارة الكهرباء أن كلفة إنتاج الكيلوواط الساعي في الظروف الطبيعية والعادية، لا تتجاوز 25 ق.س، ولكن ارتفاع التكلفة حاصل بسبب السرقات والنهب، وآلات التوليد والتحويل الفاسدة، المستوردة على أنها نخب أول.
إن الحكومة تستغبي المواطن، وتبين له ما تريده أن يفهم، في قضية لا يعرفها ولا يستطيع شرحها وتفنيدها والسؤال عن خفاياها، فما هي الغاية الكامنة في نفس يعقوب؟!
يُطرح اليوم موضوع استثمار القطاع الخاص ومشاركته في مجال توليد الطاقة الكهربائية، وتم التأكيد على فتح الباب للقطاع الخاص للاستثمار في هذا المجال، وهناك العديد من العروض المقدمة في هذا الشأن، فقد تقدمت المجموعة الاستشارية الألمانية السورية لبناء مزارع ريحية في محافظة حمص، وقدمت شركة ati الإنكليزية عرضاً لبناء محطة حرارية على مبدأ B.O.T، أي استثمارها لفترة بعد بنائها تسديداً لقيمة العقد. وتقدمت شركة إيرانية لبناء محطة توليد كهرباء بمواصفات عالية، وهناك قرار صادر عن رئيس مجلس الوزراء يقضي بالسماح للقطاع الخاص ببناء محطات توليد كهرباء في مواقع المدن الصناعية. فهل تحاصر المواطن وتضغط عليه بقطع التيار لكي يقول: «أعطوا الكهرباء للقطاع الخاص، وخلّصونا!!»؟.
ألم يكفهم ما دمروا وهدروا من منشآت ومكتسبات القطاع العام، وحتى الكهرباء يسعون إلى خصخصتها، أَوَلم يستفيدوا من الدروس والعبر، أن الدول التي تخلت عن دورها الرعائي للقطاعات الخدمية قد فشلت في بناء أنظمتها الاقتصادية المتينة؟! وهي تحاول مؤخراً استعادة هذا الدور الرعائي لحماية مكتسباتها ومنجزاتها؟!
وتساءل كثير من المواطنين: هل صحيح ما يدور حول إعطاء الكهرباء للدول المجاورة، مثل لبنان والأردن؟! هل صحيح أننا «طبيب يداوي الناس وهو عليل»؟ وهل نعيش الأزمة المأساة مثل «نجار وبابه مخلوع»؟ إن كان كذلك فأصحاب الفرن أولى بخبزهم إذا جاعوا، ورب البيت أجدر به أن يُشْبِع أولاده قبل أن يطعم الجيران، ونحن أولى بثروتنا الوطنية.
إننا نطالب وزارة الكهرباء بإنصاف المواطن السوري، فيجب ألا تضيف الفاقد والهدر والسرقات على الفواتير النظامية، ويجب أن تكون العدادات نظامية وعادلة، وليست كالكثير الذي رأيناه من عدادات فاسدة وغير نظامية وتسجل ضعف الاستهلاك، بالإضافة إلى الفوضى في قراءة العدادات والمزاجية وعدم التواتر المنتظم. على الوزارة أن تضع برنامج حماية ورعاية للمشترك، وفي ذلك ضمان لكرامة الوطن والمواطن.

معلومات إضافية

العدد رقم:
386
آخر تعديل على الجمعة, 16 كانون1/ديسمبر 2016 16:42