هجرة الكفاءات والعقول العربية - الفاقد الاقتصادي

هجرة العقول ظاهرة تاريخية عالمية تخص جميع دول العالم باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية. وقد أخذت شكلاً جديداً بعد نهاية الحرب العالمية الثانية حيث أصبحت من نصيب النخبة من فئات المجتمع أطباء، مهندسين، علماء، تقنيين...

حيث تم استقبال هذه النخبة في الدول المتقدمة وهيئت لها الأرضية الأكاديمية البحثية لتنتج فوق أرضها بوقت قياسي وبتكاليف تكاد تكون معدومة على حساب الدول المصدرة التي زادت أزمتها وتعمقت مشاكلها وانعكس ذلك على نمو وتطور اقتصادها.

تنبهت دول العالم للظاهرة فأطلقت عليها بريطانيا نزيف الأدمغة وعرفتها اليونسكو عام 1968 بأنها شكل من أشكال التبادل العلمي الشاذ وهذا النوع من التبادل يتميز بأنه تدفق لهجرة العلماء في اتجاه واحد لصالح أكثر الدول تقدماً.

وللظاهرة جملة من الأسباب الدافعة الجاذبة نلخصها:

1- سياسية: نذكر منها: الحروب والانقلابات العسكرية وغياب الحريات السياسية.

2- اقتصادية: نذكر منها ضعف ميزانيات البحث العلمي، ضعف معدلات النمو، غياب التخطيط للسياسات التعليمية وزيادة عدد الخريجين.

3- اجتماعية: تتعلق بالامتيازات والخدمات التي يحصل عليها العالم.

4- ذاتية: طموح العالم وأحلامه وعجزه عن تحقيقه استقلاليته في وطنه.

5- التغريب الداخلي: أي هجرة الاختصاص والتوظيف الإجباري بغير مجال الاختصاص ويعتبر هذا السبب من أكثر الأسباب التي تؤسس لهجرة العلماء.

الكلفة الاقتصادية لإعداد الكفاءة العربية (للمراحل التعليمية المختلفة)

وتمثلت هذه الكلفة في محاور أربعة:

● إنفاق مباشر: من قبل الحكومات العربية على التعليم بمختلف مراحلها: 

في المرحلة الابتدائية164 دولاراً في العام.

في المرحلة الإعدادية والثانوية 205 دولارات في العام.

في المرحلة الجامعية (الاختصاص النظري) 956 دولاراً في العام.

أما في الاختصاص العلمي فهو 2321 دولاراً في العام.

● إنفاق غير مباشر: ما تنفقه الأسرة لتعليم أبنائها منذ الولادة وحتى نيل الشهادة:

في المرحلة الابتدائية295 دولاراً في العام.

في المرحلة الإعدادية والثانوية 376 دولارات في العام.

في المرحلة الجامعية (الاختصاص النظري) 530 دولاراً في العام.

أما في الاختصاص العلمي فهو 705 دولارات في العام.

● الهدر التعليمي متوسط عدد السنوات المهدورة في كل مرحلة والذي يقدر حسب كل مرحلة فهو كما يلي: 

في المرحلة الابتدائية 2.95 سنة.

في المرحلة الإعدادية والثانوية0.95 سنة.

في المرحلة الجامعية (الاختصاص النظري) 2 سنة/سنتان.

أما في الاختصاص العلمي فهو 1.9 سنة لكليات السنوات الأربع، و1.2 سنة لكليات الخمس سنوات، و0.48 لكليات الست سنوات.

● الفرصة الضائعة أي التضحية بالنشاط الاقتصادي في سبيل التعليم والتي تقدر للمرحلة الإعدادية والثانوية بـ 1100 دولار/سنة ولحامل الثانوية بـ 1500 دولار/سنة ولحامل الإجازة 2400دولار /سنة ولحامل الدكتوراه 4457 دولار/سنة.

فيكون: وسطي الكلفة الإجمالية للكفاءة الحاصل على دكتوراه 302 ألف دولار. 

 وسطي الكلفة الإجمالية للكفاءة الحاصل على إجازة 115 ألف دولار.

وهي القيمة الحقيقية التي تتكبدها الدول العربية عند هجرة كل عالم من هؤلاء.

إن إجمالي الخسارة العربية المترتبة على هجرة علمائها واختصاصييها تتمثل بالقيمة المادية التي أنفقتها على إعداد الكفاءات المهاجرة والذي بلغ عددهم حوالي 2.876 مليون كفاءة عربية هاجرت من البلاد العربية خلال50 سنة الماضية وبالمقابل حققت الدول الغربية مكاسب بأضعاف خسائر الدول العربية ويظهر ذلك:

أ- خسارة ترتبت على البلد المصدر للكفاءات: بكلفة دفعتها لإعدادهم مضافاً لها خسارة إنتاجيتهم في بلدانهم والتي قدرت بـ477 مليار دولار.

ب- أرباح الدول المستقبلة:تمثلت بتكلفة لم تدفعها مضافاً إليها أرباح ناتجة عن إنتاجية العلماء خلال فترة تواجدهم فوق أرضها والتي بلغت 3.148 تريليون دولار(تريليون = 1000مليار). 

ترتب على هذه الخسائر جملة من الآثار على مختلف الصعد:

على الصعيد الاقتصادي

1- الخسائر المادية المباشرة والتي قدرت بـ 477.34 مليار دولار خسرتها البلدان العربية بسبب هجرة كفاءاتها.

2- خسارة استثمار سنوية لهذه الأموال تقدر بـ 95 مليار دولار/سنة 

3- الخسائر الإضافية الناتجة عن استيراد الكفاءات قدرت عام 1980-1981 بـ 5 مليارات دولار.

4- خسارة زمنية متمثلة بزمن إعداد الكفاءة.

5- زيادة الواردات العربية الزراعية و الصناعية بالإضافة لاستخدام هذه الواردات كأداة للضغط السياسي على البلدان العربية.

6- توسيع الفجوة الاقتصادية بين الدول المتقدمة والدول العربية ويدل على ذلك زيادة حجم ديون الدول العربية فزادت ديون الدول العربية من 107مليار عام 1985 إلى 250 مليار عام 1995.

7- خسارة لا تقدر بثمن بما يسمى اقتصاد المعرفة. 

على الصعيد الاجتماعي

1- حرمان الطبقة الفقيرة من دول العالم النامي من فرص التعليم المجاني.

2- تأثر الصحة في البلدان النامية 

3- تكريس الفقر والجهل والتخلف بسبب غياب من يخطط للتخلص منها 

4- خسارة اجتماعية لا تقدر بثمن لها بسبب هجرة الطبقة المثقفة والمدربة والقادرة على تحقيق التطور الاجتماعي والحفاظ على الموروث الحضاري.

5- يشكل الأطباء وأصحاب المهن الطبية أكبر نسبة من المهاجرين مما ينعكس سلباً على الصحة. 

6- تدني مستوى الخدمات الاجتماعية من صحة وتعليم وخدمات ومستوى رفاهية.

7- تكريس روح اللامبالاة السائدة في الدوائر والمؤسسات الحكومية بسبب انخفاض المردود.

8- هجرة العلماء تسبب خللاً في ميزان المجتمع القيادي والتنظيمي والإداري. 

9- الاختراق الثقافي للمجتمع. 

على الصعيد السياسي الأمني-العسكري

1- هجرة الكفاءات تهدد استقرار الدول النامية بسبب فقدانها القسم الأهم والقادر على تحقيق التطور والتقدم والإنتاج والإبداع.

2- عدم امتلاك البلاد العربية لقراراتها السياسية والأمنية وخضوعها بأدق تفاصيل سياساتها للغرب.

3- خسارة هذه الفئة من رأس المال البشري يعني فقدان القيادات الشابة والمثقفة القادرة على قيادة البلاد والمجتمع للنهوض بهما.

4- احتلال الدول المستقبلة للكفاءات مركز الصدارة في الهيمنة على النظام السياسي العالمي والذي لا ترغب بالتنازل عنه.

5- عجز البلاد العربية عن حماية نفسها من المخاطر الخارجية فوصل إنفاقها على التسليح بين عامي 1970- 1990 ما قيمته 1000 مليار دولار.

 6- الإنفاق الهائل على التسليح أدى إلى تقليص الخطط التنموية.

على الصعيد العلمي

1- عجز السياسات التعليمية عن تحقيق أهدافها بدعم التدريس وتنمية البحوث العلمية.

2- زيادة فجوة المعرفة والهوة العلمية والتكنولوجية وترسيخ ما يسمى النقل المعاكس للتكنولوجيا بين الدول المتقدمة و الدول النامية.

3- إن هجرة العلماء يسبب خللاً في النظام التعليمي على المستويات الثلاثة.

4- تعثر النظام الجامعي ككل وعدم قدرته على تأمين المناخ الأكاديمي البحثي الضروري. 

5- انخفاض القدرة على توسيع وإنشاء مراكز البحث العلمي الضرورية.

6- تكريس ظاهرة إخفاء الحقائق وتشويهها ظناً من القيادات العربية أنها تحمي البلاد وبالواقع هذه المعلومات متوفرة لدى الدول الغربية. 

7- فقدان التجمعات العلمية داخل الوطن العربي.

 ويترتب على الآثار السابقة جملة من النتائج التي نلخصها بما يلي: 

 1- اعتبار عملية التربية والتعليم في الوطن العربي العائق الأهم في وجه عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية وبذلك يكون التعليم في الوطن العربي قد عجز عن تحقيق أهدافه التي رسمت خلال العقود السابقة وعجزت الأنظمة التربوية عن تحويل التعليم لصناعة منتجة تتفاعل فيها عناصر الإنتاج التربوي لإنتاج مهارات وقدرات بشرية ذات قيمة اقتصادية.

 2- الخسائر المباشرة (كمية): والتي تقدر عربياً بـ 477.34 مليار دولار بينما حقق الغرب مكاسب على حساب هذه الدول تصل حتى  3.625 تريليون دولار.

3- الخسائر غير المباشرة (نوعية): وهي الخسائر التي لا يمكن تقديرها حسابياً ولاحصرها رياضياً لتداخل عناصرها وتشعبها ولعدم اكتمال عناصر قياسها.

 4- إن حجم الفاقد الذي عانت منه دول العالم الثالث والذي قدر بـ 10.875 تريليون دولار خسائر مباشرة يقودنا إلى الاستنتاج أن هجرة الكفاءات هي شكل أساسي من أشكال التبادل اللا متكافىء بين الشمال الغني والجنوب المعدم، وهو يؤدي إلى:

أ - سلب الإرادة الوطنية. 

ب - حرمان الدول من ثمرة جهودها.

ج - التبعية بكافة أشكالها.

هكذا يصبح تعريف هجرة العقول أنه: شكل من أشكال التبادل العلمي الشاذ غير المتكافىء بين الدول.

وهذا النوع من التبادل يتميز بأنه تدفق لهجرة العلماء في اتجاه واحد في صالح أكثر الدول تقدماً.

 

■ عيسى المهنا