الحكومة تسحق الدعم.. ومستحقيه!

 الدعم حاجة وطنية وإنسانية يقتضيها الواقع الاقتصادي والاجتماعي في كل البلدان، وخاصة في الدول النامية. ولكن في الوقت الذي تدعم فيه معظم الدول مستهلكيها، عبر تخفيف سعر المواد الغذائية والمشتقات النفطية بما يتناسب مع القدرة الشرائية لمواطنيها، ما تزال الحكومة السورية مصرة على تصوير قضية الدعم المقدم على المازوت على أنه العقبة الأساسية التي تستنزف الاقتصاد الوطني وترهق الميزانية وتتسبب في العجز.

والحقيقة أن المازوت هو المادة المدعومة الأخيرة التي تتصارع مع الحكومة في سبيل البقاء، وذلك بعد تخلي الحكومة عن دعم الجزء الأكبر من السلة الغذائية (الإعاشة التموينية)، التي كانت تقدمها للمواطن السوري، مروراً بإيقاف دعم المزارع والإنتاج الصناعي، تلاه التخلي عن الصناعة في أوقات محنها وحاجتها، مما أدى لإغلاق آلاف المنشآت الصناعية في المدن الكبرى وتشرد المعتاشين عليها.

القضية الأهم في عملية توزيع الدعم هو تحديد حجم الأسرة المستحقة للدعم التي لا يتجاوز دخلها 25 ألف ليرة سورية، وهذا يعطي مؤشراً إيجابياً واحداً هو اعتراف الحكومة بأن الأسرة السورية تحتاج إلى 25 ألف ليرة شهرياً لتكون قادرة على تأمين حاجاتها الأساسية، ولكن تحديد البدل النقدي بـ10 آلاف ليرة هو الخطوة الأخيرة على طريق إنهاء الدعم وإلغائه، لأن الحكومة في كل خطوة تخطوها لإعادة توزيع الدعم «إيصاله إلى مستحقيه»، تقوم بتخفيض حجم هذا الدعم والتقليل من قيمته، فالدعم انخفض قياساً بالعام الماضي بنسبة 80%، حيث كانت قيمته 16 ألف ليرة، كما أن إعطاء 1000 لتر من المازوت العام الماضي مثل تخفيضاً كبيراً في حجم الدعم المقدم على المواطن السوري مقارنة بالأعوام السابقة. فحسب تصريح عبد الله الدردري النائب الاقتصادي كان الدعم على المشتقات النفطية في بداية العام 2008 حوالي 385 مليار ليرة، فانخفض في أوائل العام 2009 إلى 80 مليار بعد رفع أسعار المازوت إلى 25 ل.س حسب تصريح وزير المالية محمد الحسين! والآن واعتماداً على الأرقام الحكومية لن يتجاوز الدعم الـ20 ملياراً، أي أنه يمثل أقل من 3% من الموازنة العامة في سورية، بينما كان حسب التصاريح الحكومية 65% من الموازنة العامة المعتمدة في العام 2008، إي أن الدعم يسير في طريق الزوال المتدرج!!

من جانب آخر إن توزيع البدل النقدي لا يختلف بآلياته كثيرا عن طريقة القسائم السابقة التي اعترفت الحكومة مؤخراً بفشلها، على الرغم من الدعوات والتحذيرات الكبيرة التي نصحت بها قبل اعتماد آلية القسائم، وهذا يعطي مؤشراً آخر على أن الآلية الجديدة سيشوبها الكثير من نقاط الضعف، بل إنها ستفشل مثل سابقتها، فهل سيكون المواطن السوري قادراً اقتصادياً واجتماعياً على تحمل فشل تجربة فاشلة أخرى لعام آخر؟!

إن قضية إيصال الدعم إلى مستحقِّيه مباشرة على شكل تعويض نقدي لن يحقق غايته، فتجربة القسائم أكدت أن شريحة معروفة من الانتهازيين يستدلون على طرقٍ للتحايل والتلاعب بـ«دعم» الناس، وسيتمكنون مع التجربة الجديدة من القيام بأمر مماثل. فهل ستكون الحكومة قادرة على تجنب التلاعب والتزوير الآن، في الوقت الذي فشلت في إيقاف التهريب وأعلنت ذلك صراحة، كما أعلنت وعلى لسان عبد لله الدردري النائب الاقتصادي فشل خطوة توزيع القسائم.

 الأرقام تتحدث

اعتماداً على الأرقام الرسمية التي أعلنتها هيئة تخطيط الدولة في مؤشرها للتنمية البشرية لعام 2006، فإن معدل الإعالة الاقتصادية في سورية هو /5/ أفراد، كما أن حجم الأسرة ذات المعيل الواحد وسطياً هو /5/ أفراد، مما يعني أن لكل أسرة معيل واحد، وإذا عرفنا أن متوسط رواتب العاملين في القطاع العام لا يتعدى التسعة آلاف ل.س، وأن متوسط رواتب العاملين في القطاع الخاص لا يتجاوز الـ 7532 ل.س، فعند ذلك تصبح المعادلة واضحة. وهذا يوصلنا إلى أن الرواتب لن تتجاوز بمتوسطها في القطاعين العام والخاص حد الـ9 آلاف ليرة، وهذا بدوره يؤكد أن الأغلبية الساحقة من العاملين السوريين في كل القطاعات، هم بحاجة إلى دعم، فكيف ستكون حاجة من هم في صفوف العاطلين عن العمل؟! فالحد الأدنى للمعيشة الذي تعترف به الحكومة هو 25 ألف ل.س، بينما متوسط الأجور هو 9 آلاف ل.س، وبطرح الرقمين نستنتج أن الحد الأدنى للهوة بين ما تحتاجه الأسرة السورية شهرياً، وبين ما تحصل عليه شهرياً هو  16 ألف ليرة سورية فقط لا غير!! وبالتالي فإن هذه الآلية المعتمدة الآن لا تهدف إلا لتفريغ قضية الدعم من مضمونها الحقيقي، وإلهاء الناس بالدعم المنزلي المأمول وغير الكافي، عبر اعتماد صدمات الانخفاض التدريجي في كل فترة، وإبعادهم عن التأثيرات الكلية جراء التحرير الفعلي لهذه المادة على قطاع الزراعة والصناعة، والذي سيكون له مردود وتأثير سلبي على المواطن المستهلك ذاته فيما بعد.

علماً أن لعبة الأرقام مليئة بالمؤشرات المخادعة، لكونها تعجز عن تحديد الواقع الفعلي لنسبة كبيرة من العاملين السوريين، فالحد الأدنى للأجور في القطاع العام 6100 ل.س، وتمثل نسبتهم 10 % من مجموع العاملين، كما أن نسبة كبيرة من عمال القطاع الخاص لا تتجاوز رواتبهم الـ5 آلاف ليرة سورية، وذلك لأن زيادة الرواتب المتكررة لم تشملهم، ولم توافق وزارة العمل ولا أصحاب العمل على زيادة أجورهم، أسوة بالعاملين في القطاع العام. يضاف إلى هذا أن سقف رواتب العاملين في القطاع العام لا يتجاوز الـ24 ألفاً، وهؤلاء شريحة صغيرة جداً من العاملين في الدولة، هم بعض موظفي الدرجة الأولى.. ولذلك ثمة مشروعية للسؤال: كم نسبة العاملين السوريين الذين يتقاضون أكثر من 25 ألفاً؟! ألا يقارب الصفر %؟؟ وهل هذه الأرقام وهذا الواقع الشديد الوضوح يتطلب استبيانات وبيانات لتحديد مستحقي الدعم؟! أم أنها مجرد محاولة جديدة لتيئيس الناس عبر إدخالهم دوامة من الإحصاءات والمعاملات البيروقراطية التي ستعيد لهم ذكريات الماضي القريب والطوابير الطويلة!!

وهنا لابد من التذكير أن معظم الدول العربية ومنذ زمن طويل بدأت بأسلوب الدعم لدوره في الحد من مضاعفات الفقر وأثاره، وكعامل مساعد في تامين الحد الأدنى من العيش الكريم. فالمغرب وعلى الرغم من كونه دولة غير منتجة للنفط وتستورد 96% من احتياجات الطاقة، لكنها لم تسعَ لعكس السعر العالمي بالأسواق المحلية الداخلية عند ارتفاع أسعاره عالمياً، بل إن الحكومة المغربية زادت ميزانية الدعم للمواد الاستهلاكية  إلى 4.12مليار دولار. وبلغ دعم المحروقات في تونس غير المنتجة للنفط ملياراً و612 مليون دولار، بالإضافة لتوجه الحكومة التونسية لدعم إنتاج الحبوب والأعلاف وتربية الماشية من خلال إعفاءات ضريبية وتخفيضات لنسب الفائدة على القروض. وبلغت قيمة الدعم في الولايات المتحدة العام الماضي 46,5 مليار دولار ، وفي عام 2006 بلغت قيمة الدعم في اليابان حوالى32 مليار دولار، وفي فرنسا 19 مليار دولار، وبلغت مخصصات الدعم في بريطانيا11 مليار دولار وألمانيا 10 مليارات دولار والصين أكثر من 8 مليارات دولار وإيطاليا 7 مليارات دولار. فمن حقنا أن نسال حكومتنا هل المواطن في البلدان المتطورة قبل المتخلفة يحتاج لدعم الدولة بينما تسعى هي مع كل اشتداد لموجة غلاء لرفع الدعم عن المواد الأساسية والضرورية وتجريد الشعب من غطاء الدولة الافتراضي، تحت حجج وأضاليل وهمية تقدمها الحكومة يوماً بعد يوم.