د. حيدر أحمد عباس د. حيدر أحمد عباس

الحقيقة المرة في الدعوة إلى اقتصاد السوق كلية الاقتصاد - جامعة دمشق

تشهد بلدنا منذ فترة دعوات صاخبة لتحويل بلدنا إلى اقتصاد السوق، وتماشيا مع ذلك يتم السعي حثيثا لتحويل جميع البنى الاقتصادية الموجودة فيه إلى قطاعات متوافقة مع متطلبات ذلك التحول.

 

المعلوم أن فكرة التحول إلى اقتصاد السوق في سورية، لم تكن سابقا مطروحة بشكل قوي إلا بعد التطورات الأخيرة في المنطقة العربية والعالمية، وخصوصا الغزو الفكري الداعي إلى الإصلاح الجذري في المنطقة العربية. وإذا تطلعنا إلى أهم التوجهات الثورية للتغيير والمنبعثة من الداخل وجدنا أن الدعوة للتحول إلى اقتصاد السوق لم تأت مطلقا من تلك الجهة. إن هذه الدعوات تستند إلى معطيات دولية في معظمها، وهذه العملية تحاكي تجارب عديدة قد طبقت في بلدان أخرى، ولا يمكن الادعاء بأن نتائجها كانت الازدهار والتطور وإنما كانت نتائجها ملبية تماما للرغبة التي تأملتها الجهات الخارجية التي تطلبتها. ولا يخفى على أحد أن هذه الدعوة مصممة ومدعومة من جهات خارجية مستفيدة من نتائجها ولها امتداد داخلي خطير، وقد تنامت مؤخرا بعدما أصبحت تتضمن في ذروتها القيادية مجموعة من المتنفذين وأصحاب الفعاليات الاقتصادية، وتسير خلفهم مجموعة من المواطنين.

    ومن المعلوم أن هذه الدعوة قد جاءت إلى بلدنا بعدما مرت على العديد من البلدان الوادعة، وكانت نتيجة السير في غياهبها أن تلك الدول قد تخربت وتمزقت إرباً إرباً ولا تزال  تعاني الويلات والحروب والانهيارات. وقد جاء الدور الآن على بلدنا وأقبلت طلائع الدعوة السوقية إلى بلدنا مشفوعة بمختلف الحجج المنمقة والمغريات الموعودة، ومدعومة بالقوة السياسية والعسكرية والإعلامية والمالية وغيرها...، وهي تتقدم نحو تحقيق أهدافها بثقة مستندة إلى كوادر محلية كان قد تم إعدادها في دول المنشأ المستفيدة على مدى عشرات السنين. والحال هذه فإنه ينبغي علينا أن ننظر إلى بعض أبعاد هذه الخطوة الكبيرة والخطيرة.

إننا نجد أن هدف التحول إلى اقتصاد السوق هو باختصار تحويل بلدنا إلى سوق لتصريف المنتوجات الأوروبية أو الأمريكية، وهذه الدعوة قائمة منذ زمن بعيد، ولكن كما هو معلوم فقد كان من يتلفظ بها فيما مضى يعتبر خائنا، أما اليوم فإن أذهان دعاة السوق تفتحت بسبب تغيير الكثير من المعطيات المحلية والمحيطة. فانتشت الآمال والنفوس وطفقت شرائح معينة ومعروفة تماما  تصرخ بالدعاية لهذا التحول. واستجر ذلك الكثيرين من قليلي المعرفة والخبرة الاقتصادية، حتى أن البعض ممن كان طيلة عمره داعية للاشتراكية تحول بين عشية وضحاها إلى داعية لاقتصاد السوق متناسين كل منطق ومتجنبين حتى مجرد إسداء النصيحة أو لفت الانتباه إلى المطبات والمحاذير. 

    ومن الملاحظ أن دعاة السوق يذكرون مجموعة من مبررات هذا التحول وهي حجج تستند على مفاهيم غير دقيقة، ولكن بريق الجدة وإغراءات المناصب والإعلام المساند تضفي عليها بريقا وانبهارا يغشي الأبصار حتى أن عامة الناس لا تتمكن من تمييز أوهامها عن حقائقها. فدعاة السوق يعتبرون انهيار الاتحاد السوفيتي تطورا إيجابيا لأنه يعود بالمنفعة عليهم وليس لأنه إيجابي بالنسبة لمواطن ذلك البلد. وإذا نظرنا إلى الوضع الحالي للاتحاد السوفيتي من وجهة نظر محايدة فإننا نجد أن كل العالم يسمي عملية التحول إلى اقتصاد السوق بانهيار الاتحاد السوفيتي. واستخدام كلمة «الانهيار» له دلالة تخالف معنى «التحول» وتخالف معنى «إعادة البناء». وهنا نعود إلى بدايات الانهيار ونذكر أن عملية التحول إلى اقتصاد السوق لم تكن تستخدم كلمة الانهيار أبدا في بدايات عملية التحول، بل كانت تستخدم كلمة «إعادة البناء». وكما نعلم فإن عملية التحول أصبحت تدعى بالانهيار فقط بعد إتمام عملية التحول، ولا يخفى على أحد أن نتيجة التحول (لن نستخدم تعبير الانهيار ولا تعبير إعادة البناء) قد أدت فعلا إلى عدة انهيارات، أهمها

أولاً- الانهيار الاقتصادي: حيث سقطت قيمة العملة الروسية بشكل خيالي، ودمرت البنى الاقتصادية دون بناء بدائل لها.

ثانياً- الانهيار السياسي: حيث تلاشى الثقل السياسي.

 ثالثا- الانهيار العسكري: حيث لم تعد القوات السوفيتية التي حسمت الحرب العالمية الثانية تستطيع السيطرة حتى على أراضيها.

رابعا- الانهيار الأخلاقي: فالمعلوم أن الشعب السوفيتي لم يتعلم فنون الغش والكذب وتجارة الفساد الأخلاقي إلا بعد الانهيار.

خامساً- الانهيار الاجتماعي: حيث تفتت المجتمع وتشرذم إلى طوائف دينية وعرقية مما أدى بالنتيجة إلى انفصال كل الدول التي يمكن أن تجد لنفسها صبغة مخالفة. وقد حدثت انهيارات أخرى في مجالات عديدة لسنا بصدد إحصائها، ولكن نكتفي بالإشارة إلى هذه الأنواع التي لا تحتاج لإثبات لأنها معروفة عالميا.

نستنتج من ذلك أن تعابير إعادة البناء التي استخدمها دعاة السوق في روسيا كانت تعابير مخادعة يقصد بها تحقيق الانهيار. وقياسا على ذلك يحق لنا أن نسأل دعاة التحول إلى اقتصاد السوق فيما إذا كانوا يستخدمون الكلمات المواربة التي تخفي الحقيقة المرة المنتظرة لبلدنا والتي ستظهر بعد عملية التحول، والتي يفترض أن نتيجتها ستكون حدوث انهيارات محاكية لتلك التي حصلت في الاتحاد السوفيتي، أي انهيار الاقتصاد السوري، انهيار القرار السياسي، انهيار القوات المسلحة، انهيار القيم الأخلاقية، انهيار البنية الاجتماعية.. وغير ذلك.

نعم يبدو أن هذه هي الحقيقة، أما العناوين التي تطرح فلا يمكن للدعاة أن يستخدموا إلا الشعارات البراقة والمغرية والمنمقة، فهل يعقل أن يقول دعاة الانهيار أنهم  يهدفون إلى تدمير البلد وتتبيعه وتحويله إلى دمية سياسية واقتصادية وثقافية؟ كلا، فمنظرو الطرق الحديثة للاستعمار قد تجاوزوا تلك الأساليب القديمة الساذجة.