يسار ابراهيم يسار ابراهيم

مؤشر أسعار قاسيون من جديد.. هل تحسّن مستوى معيشتنا حقاً؟!

يُفترض لأي نظام اقتصادي في العالم، أن يكون هدفه المطلق وغايته النهائية تحقيق الرخاء والرفاهية للمجتمع، وتوفير شروط إنسانية لائقة للحياة، وهو ما يمكن التعبير عنه بتحسين مستوى المعيشة.

ولمستوى المعيشة بعد كمّي يمكن قياسه، ويعبر عنه بالعلاقة بين مستوى الدخل ومستوى الأسعار. كما أن له أيضاً بعداً روحياً يصعب قياسه، وهو يعكس تطور المستوى الثقافي والقيمي والأخلاقي للمجتمع والذي ينشأ عن تراكم الإرث المعرفي والحضاري وينعكس بالضرورة على أنماط الاستهلاك وحجمه، ويتسبب بالتالي في بروز هذا الاختلاف الذي نلحظه في عادات الاستهلاك وأنماطه بين مجتمع وآخر. 

الجهل.. والتضليل المتعمد

يختلف مستوى المعيشة إذاً بين مجتمع وآخر، باختلاف المستوى الحضاري والثقافي الذي بلغه المجتمع، وباختلاف درجة تطور القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج فيه.

ويستخدم أحياناً، بسبب الجهل أو بهدف التضليل، مؤشر وسطي حصة الفرد من الدخل الوطني (أو الناتج المحلي الإجمالي للفرد) للتعبير عن وسطي مستوى المعيشة في المجتمع. وهنا سنقع في خطأ كبير، لأن هذا المؤشر هو مؤشر مضلل لا يصلح لقياس مستوى المعيشة في المجتمع، كما أنه لا يصلح لقياس التطور الاقتصادي-الاجتماعي نظراً لكونه يخفي التشوه الحاصل في توزيع الدخل بين طبقات المجتمع لتبدو جميع شرائح المجتمع متساوية من حيث الدخل والثروة.

كما ويُفهم خطأً أحياناً أن قياس مستوى المعيشة ممكن باستخدام مؤشر دخل الفرد. فإذا ارتفع دخل الفرد مثلاً من 100 وحدة نقدية إلى 120 وحدة نقدية، قيل إن مستوى معيشته تحسن بنسبة 20 %. وفي الواقع فإن مؤشر الدخل بمفرده يصبح غير ذي معنى ما لم يتم ربطه بمؤشر آخر مكمّل هو مؤشر الأسعار. إذ أن ارتفاع دخل الفرد في مثالنا السابق بمعدل

20 % هو دليل على تحسن مستوى معيشته فقط في حال ثبات الأسعار عند مستواها السابق قبل زيادة الدخل أو في حال انخفاضها دون هذا المستوى. ولكن قد يرتفع مستوى الأسعار بنسب مختلفة بحيث تستنزف زيادة الدخل الجديدة في تغطية هذا الارتفاع، أو قد يعجز الدخل الجديد عن تغطية التكاليف الإضافية الناجمة عن ارتفاع الأسعار، وهو ما يعني تراجع مستوى معيشة الفرد رغم الارتفاع الاسمي في دخله.

لقياس مستوى المعيشة إذاً، نستخدم مؤشراً مركباً هو مؤشر الأسعار-الدخل. وحسب اتجاه تطور هذا المؤشر المركب سواء لصالح الدخل أو الأسعار، نستطيع أن نحكم على منحى تطور مستوى المعيشة إن كان صعوداً (تحسناً) أم هبوطاً (تراجعاً).

وبكل الأحوال، فإن هناك حداً أدنى لمستوى المعيشة ينبغي تأمينه لجميع شرائح المجتمع، ويقصد بالحد الأدنى لمستوى المعيشة، سلة السلع والخدمات الضرورية لحياة يومية عادية، والتي تسمح للفرد بتجديد قوة عمله وممارسة حياة طبيعية. وتشمل هذه السلة السلع الغذائية الضرورية لتأمين السعرات الحرارية الكافية لبقاء الفرد واستمراره، إضافةً إلى مجموعة من السلع الأخرى غير الغذائية والخدمات اللازمة للحياة العادية (سكن، مواصلات، لباس، تعليم، صحة، كهرباء، مياه، ....).

ويبدو واضحاً اليوم، وجود خلل خطير أضر بالتوازن بين الحد الأدنى للأجور وبين مستوى أسعار السلة المذكورة سابقاً (والتي تعبر عن الحد الأدنى لمستوى المعيشة). وإن استمرار تجاهل هذا الخلل، بل ومواصلة تعميقه قد ينتهي بنا إلى نتائج اقتصادية-اجتماعية خطيرة.

فعلى المستوى الاقتصادي، يؤدي انخفاض الأجر دون تكاليف المعيشة إلى تقليص الاستهلاك إلى الحد الذي تعجز معه قوة العمل عن تلبية الحد الأدنى الضروري من الحاجات الأساسية اليومية اللازمة لإعادة تجديد نفسها، مما يؤدي تدريجياً إلى انخفاض وسطي عمر قوة العمل.

كما أنه يؤدي أيضاً إلى تراجع الطلب وانخفاض الاستهلاك، مما يؤثر سلباً على العملية الإنتاجية ويؤدي إلى تراجع الإنتاج اللاحق.

أما على المستوى الاجتماعي، فإن إخلال التوازن في علاقة الأجور-تكاليف المعيشة لصالح الأسعار يعزز الانقسامات في المجتمع الواحد، ويعمق الهوة بين طبقاته، ويضعف ارتباط الشرائح الضعيفة اقتصادياً بالمجتمع، ويتسبب في بروز تناقضات اجتماعية يمكن أن تنتهي، مع تنامي حدتها، إلى تهديد الاستقرار الاجتماعي والسياسي. 

مؤشر الدخل.. ومؤشر الأسعار

من هنا، فإن تصحيح الخلل في علاقة الأجور-تكاليف المعيشة ليس ترفاً، بل ضرورة.

ولو تمعنا فيما أنجز على الأرض على هذا الصعيد لوجدنا أنه تمت زيادة الرواتب والأجور للعاملين في الدولة في شهر أيار من العام الحالي 2008 بمعدل 25 %. فماذا يعني ذلك؟

كما أشرنا مسبقاً، فإنه ليس لمؤشر الدخل أية دلالة ما لم نربطه بمؤشر الأسعار، وهنا، أي فيما يخص الأجور، يجب الانتباه لأمرين هامين:

أولاً- التحقق من ربط الأجور بالأسعار. أي تحقيق توازن علاقة الأجور-تكاليف المعيشة بعد كل ارتفاع جديد في الأسعار وبالشكل الذي يوفر شروطاً إنسانية لائقة لمعيشة العاملين بأجر.

ثانياً- وهو الوجه الآخر للمسألة، ونعني به حصة الأجور والرواتب من الدخل الوطني. وهو أمر بالغ الأهمية لا ينبغي إغفاله لأنه يعكس نمط توزيع الدخل والثروة في المجتمع.

وعلى أرض الواقع، نلاحظ أن تطور حصة الأجور لم يكن نحو الأفضل. حيث انخفضت نسبة الأجور من 24.6 % من الناتج المحلي الإجمالي بتكلفة عوامل الإنتاج بالأسعار الثابتة في عام 2000 إلى 20.9 % في عام 2004، ثم إلى 19 % فقط في عام 2006. ولا نملك بيانات عن الأجور في العامين 2007 - 2008.

إن تراجع حصة الأجور من الدخل الوطني رغم تحقيق معدلات جيدة للنمو الاقتصادي خلال السنوات السابقة هو مؤشر على تعميق عدم عدالة التوزيع. إذ لم تستفد جميع شرائح المجتمع من النمو الاقتصادي المحقق، بل كان يتم تجييره لصالح رأس المال على حساب العمل.

أما بالنسبة لعلاقة الأجور-تكاليف المعيشة، فنجد على الأرض ما يلي:

جرت زيادة الرواتب والأجور ما قبل الأخيرة في شباط 2006، وارتفع الحد الأدنى للأجور عندها إلى 4805 ل.س. ثم جاءت زيادة الأجور والرواتب الثانية في أيار 2008، ووصل الحد الأدنى للأجور عندها إلى 6010 ل.س، أي بمعدل زيادة قدرها 25 % من مستوى الأجر في عام 2006، وبلغت الزيادة بالقيمة المطلقة 1205 ل.س. فإذا كان هذا حال الأجور، فماذا عن الأسعار؟

طبعاً، رافق زيادات الأجور في العامين المذكورين سلسلة من الارتفاعات في الأسعار. مؤشر أسعار قاسيون رصد لنا تغيرات الأسعار لسلة الاستهلاك خلال هذه الفترة، أي بعد زيادتين متتاليتين في الأجور في عامي 2006، 2008. وتظهر تغيرات الأسعار في الجدول المرفق..

ونلاحظ أن أسعار جميع السلع في السلة ارتفعت ارتفاعات كبيرة ووصلت في إحداها إلى 600 %، باستثناء بعض السلع الغذائية (بطاطا-كوسا-بصل-بندورة) التي انخفضت أسعارها بين فترتي الرصد.

ولربط الحد الأدنى للأجور بأسعار سلة الاستهلاك، سنعتمد المؤشرات التالية:

يبلغ الحد الأدنى للأجور حالياً 6010 ل.س

ارتفع الحد الأدنى للأجور في العام الحالي عنه في العام 2006 بمقدار 1205 ل.س وهو يشكل 25 % من الأجر في عام 2006.

مستوى الإعالة الوسطي في سورية يساوي 4.1 (أي أن كل دخل يعيل وسطياً 4.1 فرداً).

كما أننا سننطلق من الفرضيات التالية:

جميع الأفراد الذين يعيلهم هذا الدخل غير مدخنين (أي أنهم لن ينفقوا جزءاً من دخلهم على التدخين).

يملك الأفراد الذين يعيلهم هذا الدخل بيتاً (لن ينفقوا جزءاً من دخلهم على السكن).

سيكتفي هؤلاء الأفراد بقسائم المازوت المدعوم (أي لم ترتفع كلفة المازوت كثيراً، وهنا سنهمل هذه الزيادة وقدرها 1.5 ل.س لكل ليتر).

لن يشتري هؤلاء الأفراد أياً من السلع المعمرة خلال الفترة 2006 - 2008 (أي لن يتأثروا بتغير أسعار هذه السلع).

لن يشتري هؤلاء الأفراد ملابس خلال الفترة 2006 - 2008 (هنا أيضاً لن يهتموا لتغيرات أسعار الملابس).

والفرضية الأخيرة تقول بأن اثنين فقط من الأفراد الذين يعيلهم هذا الدخل (وعددهم الإجمالي 4.1 فرداً) مضطران لاستخدام وسائل النقل العامة للذهاب إلى العمل أو المدرسة، بحيث يستخدمها كل منهما لمرة واحدة فقط يومياً وعلى مدى 22 يوماً فقط من الشهر (أي أننا استثنينا عطلة نهاية الأسبوع)، أما باقي أفراد الأسرة فلن ندخل تكاليف انتقالهم في هذا الحساب. 

الكارثة بحدودها الدنيا

رغم أننا وضعنا كل الفرضيات السابقة المخفِّفة للإنفاق حتى لا نتهم بالمغالاة، ومع أننا خفضنا مستوى الاستهلاك الشهري لهؤلاء الأفراد من السلع الغذائية وبعض السلع الأخرى إلى حدوده الدنيا كما هو واضح في الجدول السابق، نلاحظ أنه بعد زيادة الرواتب والأجور الأخيرة والتي يفترض أنها دُرست ووُضعت لتحسين مستوى معيشة العاملين بأجر يتوجب على هؤلاء الأفراد أن يرصدوا مبلغاً إضافياً وقدره 880 ل.س إضافة إلى المبالغ السابقة التي اعتادوا إنفاقها على المواصلات العامة قبل زيادة الأجور وارتفاع الأسعار (رفع الدعم). ولا ننسى أن هذه الزيادة في التكلفة كافية فقط لنقل شخصين إلى عملهم لمدة 22 يوماً فقط شهرياً! ويبدو الوضع أكثر بشاعة إذا علمنا أن هذه التكلفة الإضافية على المواصلات العامة تشكل فقط وفقط

73 % من الزيادة الأخيرة التي طرأت على الرواتب والأجور. هذا ما يخص تكلفة المواصلات، أما إذا أضفنا التكاليف الإضافية التي طرأت على باقي السلع الغذائية (وقد فرضناها هنا في حدودها الدنيا)، فسنجد أن التكلفة الإضافية الإجمالية التي سيتكبدها هؤلاء الأفراد بسبب ارتفاع الأسعار ستصل إلى 3681 ل.س وهي تمثل

305 % من مقدار زيادة الأجور الأخيرة والبالغة 1205 ل.س.

وهنا لابأس من أن نتساءل، ماذا لو أضفنا التكاليف الإضافية التي سيتحملها هذا الدخل للإنفاق على تغيرات الأسعار في السكن والملابس والسلع المعمرة؟ أين سينتهي بنا المطاف؟ وكم ستصبح الفجوة بين الأجر وتكاليف المعيشة؟

وبعد، هذه هي حال العاملين بأجر.. مع كل زيادة جديدة في أجورهم الاسمية، نلمس تراجعاً جديداً في مستوى معيشتهم وانخفاضاً في أجورهم الحقيقية.

العاملون بأجر أرهقتهم لقمة العيش، وجميعنا يدرك اليوم ارتباط أمننا الغذائي بالخبز. فهل نستقوي بهم أم عليهم؟!

آخر تعديل على الأربعاء, 30 تشرين2/نوفمبر 2016 10:54