أما آن الأوان لتبديل العلاقة بين الأولويات؟

عندما بدأت مسيرة الإصلاح والتطوير في سورية عام 2000، كان لابد من وضع أولويات. وكانت هذه الأولويات تعتمد على مدى إلحاحها بالنسبة لحاجات المواطن السوري، وكان واضحاً في وسائل الإعلام أن الأولوية هي الاقتصاد وتحسين المستوى المعاشي للمواطن وخلق فرص العمل بما يتناسب مع تزايد عدد السكان، واعتمدت الدولة فيما بعد اقتصاد السوق الاجتماعي خياراً لتحقيق هذه الأهداف الاقتصادية.

وبدا واضحاً أن الأولوية السياسية، تأتي كأولوية ثانية بما يرتبط بها من قوانين الأحزاب والانتخاب وقضية الأكراد والجنسية، على الرغم من وجود ترابط أزلي بين الاقتصاد والسياسة.

أما الآن وبعد فشل تحقيق الأولوية الأولى بشكل واضح لأسباب عديدة داخلية وخارجية وتدهور الوضع المعاشي لمعظم المواطنين على حساب القلة، فإن الوضع الداخلي يستدعي الانتقال إلى الأولوية الثانية السياسة، لأنه الطريق المتاح حالياً لتحقيق الأهداف الاقتصادية (الأولوية الأولى). 

ما المبررات للتبديل؟

إن وجود قانون عصري للأحزاب سيزيد من الحراك السياسي الشعبي وتعبئة الموارد الناجحة للشعب السوري في تنظيمات تتنافس على نيل ثقة المواطن وتحسين مستوى المعيشة، وبالتالي المساهمة في حل المشاكل الاقتصادية. أما تعديل قوانين الانتخاب بما يتناسب مع متطلبات الشعب وتطلعاته للحرية، ووضع قانونية عصرية، فيساهم في عودة الكفاءات التي هاجرت للخارج قسرياً أو إرادياً، مما يساعد على تعزيز الوحدة الوطنية ومواجهته التحديات التي تحدق بالوطن والمواطن على جميع الجبهات.

والمفترض أن حل مشكلة المواطنين الأكراد وجنسيتهم سيزيد من اندماجهم في الوطن، وبالتالي تمتعهم بحقوق المواطنة كاملة إضافة لمساهمتهم في بناء الوطن، بدلاً من جعلهم ثغرة يمكن استغلالها من قبل الصهاينة ومنظريهم لتعكير الأمن الداخلي عبر بعضهم عند اللزوم.

أثبت الواقع أن الممارسات الاقتصادية المؤدية لإضعاف دور الدولة، أدت لظهور بعض بذور الإرهاب الداخلي بسبب العجز عن تسيير مجريات الأمور (منظمة جند الشام نموذجاً).

فالدولة الضعيفة هي التي تصدر القوانين ولا تطبقها، ولا يبالي فيها المتنفذون بالأنظمة لأنها تعدل وفق مشيئتهم، والمناصب يسعى الناس إليها بشرائها، كما أنها سلعة، والعقود الكبيرة تذهب فيها للأقوياء، وهذا كله يؤدي إلى مشاكل اجتماعية اقتصادية عضوية تستعصي على الحل. 

الصين أنموذج

فالصين الدولة ذات التجربة الاقتصادية الجديدة قد خططت عام 1980 لمضاعفة الناتج المحلي 4 مرات حتى عام 2000 استناداً لإرادة سياسية مدعومة شعبياً، لكنها نفذت ذلك عام 1995، فبلغت قيمة الصادرات الصينية 800 مليار دولار عام 2003 مع زيادة ملحوظة في دخل الفرد وجذب الاستثمارات الخارجية برغم أنها تنتهج سياسة الدولة التنموية، وليس اقتصاد السوق الاجتماعي الذي أثبت فشله في سورية. 

اقتصاد السوق السوري

إن الإجراءات الاقتصادية المتبعة في سورية قد أدت بنهايتها إلى تقليل الاستثمارات في القطاع الحكومي الرائد، ولم تستطع الاستثمارات الخاصة وقروض مكافحة البطالة امتصاص حجم البطالة المتزايدة يومياً، وبلغ حجم العجز المقدر في موازنة عام 2008 حوالي 200 مليار ليرة، وهو أكبر رقم للعجز المالي في تاريخ سورية.

إن اقتصاد السوق ليس سيئاً بمجمله، ولكنه يطبق بشكل سيئ في سورية، فالسوق يتحقق عند مبادلة البضائع بقيمها الحقيقية وفق كشوف (فواتير نظامية) تعبر عن التكلفة مما يؤدي لانسياب السلع بحرية، ومما يعزز هذا السوق وجود سوق أوراق مالية وشركات مساهمة ما زالت غائبة نسبياً في سورية.

إن مشكلة القطاعات الأربعة: الحكومي والخاص والمشترك والتعاوني عن طريق تنفيذ خطط الدولة سيحقق الأهداف التنموية، أما ما يجري حالياً فهو إطلاق العنان لسيطرة القطاع الخاص على وسائل الإنتاج الأساسية، مما سيؤدي لنتائج كارثية لا يستطيع المواطن تحملها. 

التجربة الماليزية والحل السوري

لقد اعتمدت ماليزيا في الستينات على تدخل الدولة الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وكان اقتصادها شديد الشبه بالاقتصاد السوري وحققت تنمية شاملة ما زالت مستمرة حتى الآن، رغم أنها اعتمدت على التخصيص، ولكن بأسلوب خاص بعيد عن توصيات صندوق النقد الدولي.

إن المشكلة الاقتصادية المتمثلة في ندرة ومحدودية الموارد مقابل تعدد الحاجات وازديادها لن تجد لها حلاً في سورية إلا عن طريق السياسة أولاً، فلكي نضع معدلات تنمية عالمية لابد من محاربة الهدر والفساد واستغلال الموارد وتحسين الأجور. وإن وجود أحزاب ديمقراطية مؤمنة بقضايا المواطن هو السبيل لتحقيق هذه الغاية، وقد آن الأوان لتبديل الأولويات، فالوضع المعاشي للمواطن لم يعد يحتمل الانتظار، والتاريخ والواقع أثبت صحة أقوال الرئيس الراحل جمال عبد الناصر «الخائفون لا يصنعون الحرية، والمترددون لا تقوى أيديهم المرتعشة على البناء».

* حكمت سباهي خريج INA

آخر تعديل على الثلاثاء, 29 تشرين2/نوفمبر 2016 22:30