ع.م ع.م

الدولة هي اللاعب المفقود وزيت الزيتون أحد الخاسرين

يبدو أن الكثير من الخطط الزراعية والكثير من  تشدق الحكومات السابقة حول أهمية الزراعة، لم تستطع أن تنبه هذه الحكومات المتتالية إلى شجرة الزيتون التي تزرع سنوياً بكميات كبيرة ومتزايدة، فلم يلحظ المسؤولون عن الاستراتيجية الزراعية الفائض المتراكم من زيت الزيتون، ولم يصل جهاز الدولة إلى تقدير أهمية لعب دور للتأثير على الطلب المحلي، أو للبحث عن منافذ خارجية، على الرغم من وضوح أهمية هذا الدور.

ومجرد القراءة البسيطة لمشاكل هذا المنتج الهام الذي ترتبط به حوالي 377 ألف أسرة سورية، تشير إلى أن كافة الثغرات في الإنتاج والتسويق والإدارة تنتظر دخول اللاعب الأقوى وصاحب المصلحة العامة وهو جهاز الدولة، لإخراج هذا المنتج من فوضى السوق وتنظيم العملية، حتى يتحول فائضه إلى ثروة حقيقية، لأن عدم التدخل الحالي حوّل هذا الفائض إلى نقمة، وأدى وسيؤدي تلقائياً إلى تراجعه في حال بقاء الإهمال على المستوى الحالي.

فراغات تملؤها الدولة

• ثغرات الإنتاج :

أولاً- ارتفاع تكاليف الإنتاج : لا تقدم الدولة دعماً إلى زراعة الزيتون في سورية، حيث تقتصر طريقة الدعم على القروض من المصرف الزراعي والتي لا تبلغ نسبة 3% من قروضه.

تتقاطع الدراسات مع مذكرات ترفعها المديريات الزراعية المعنية بالقطاع مع مطالب المزارعين، حول نقطة هامة هي ضرورة استبدال الدعم النقدي بدعم مباشر لمستلزمات الإنتاج عن طريق تسليم المزارع المستلزمات مدعومة لهذه الشجرة ( أسمدة مدعومة – مبيدات  فطرية لأمراض شائعة - مصائد جاذبة لذبابة ثمار الزيتون- تقديم تحليل للتربة – عناصر نادرة – مرشات ) وتأمينها عن طريق مؤسسات الدولة مثل إكثار البذار وفق التنظيمات الزراعية الممنوحة من الوحدات الإرشادية. لأن الدعم بالطريقة الحالية يذهب إلى البساتين المهملة والمخدومة وبالقيمة نفسها.

ثانياً- المعاصر وتصنيع الزيت: عدد المعاصر وطاقتها الاستيعابية لا تتناسب مع كميات الثمار المنتجة، ويؤدي ذلك إلى تأخر عملية عصر الزيتون مما يؤدي إلى تراجع في نوعية الزيت المنتج لذلك من الضرورة زيادة عدد المعاصر وإلزامها بشروط التخزين المثالية. وهذا يعيدنا إلى  دور الدولة في تزويد المعاصر بالمستلزمات الضرورية للحفظ والتخزين بأسعار مدعومة، مقابل تحقيق شروط النظافة والفرز والتخزين الصحيحة. وعملية الدعم منطقية باعتبار أن هذه المعاصر هي منشآت تصنيع زراعي صغيرة تدفع ضريبة تصل إلى 2- 3% سنوياً.

بالإضافة إلى إمكانية تقديم قروض لأصحاب المعاصر والمكابس القديمة لتجديد مكابسهم، نظراً لإنتاجيتها وطاقتها الاعلى.وتتوزع المكابس حسب النوع:  15% مكابس قديمة نسبة أنتاجها 2%، 66% مكابس هيدروليكية تنتج 42%،19% نظام مستمر تنتج 56%.

ثالثاً- التعبئة والتكرير: على مستوى سورية يوجد 56 مصنعاً صغيراً ومتوسطاً لفلترة وتجهيز وتعبئة زيت الزيتون. إلا أن طاقة هذه المصأنع صغيرة وغير قادرة على استيعاب كامل الإنتاج، وتقتضي الضرورة إنشاء معامل تكرير وفلترة كبرى، تحديداً في ظل شروط التخزين السيئة التي تجعل من عملية التكرير والتصفية للزيت السوري ضرورة.

• ثغرات التوزيع:

أولاً- السوق المحلية: فائض إنتاج زيت الزيتون العائد إلى ارتفاع أسعار البيع للمستهلكين قياساً بمستوى الدخل من جهة،  وإلى انخفاض استهلاكه في عدد من المحافظات نتيجة طبيعة العادات الاستهلاكية، يطرح ضرورة إجراء تغييرات كبرى وتأثير نوعي على الطلب المحلي لهذا المنتج، عن طريق تخفيض أسعار المستهلكين من جهة، وعن طريق توسيع عملية تسويقه، وكلا المهمتين لا يمكن أن تنجزا طالما أن الكميات الكبرى من  زيت الزيتون تتركز في يد الحلقة الوسيطة من تجار الجملة بنسبة اكثر من 50%، مما يعطيهم القدرة على التحكم بسعر المنتج، باتجاه خفض سعر الشراء من المنتجين على الرغم من ارتفاع كلفهم، ورفع سعر البيع للمستهلكين على الرغم من انخفاض دخلهم.

والعمليتان تصبان في مصلحة تجار الجملة، وتتناقضان مع تطوير القطاع الذي يقتضي تحفيز المزارعين والمستهلكين.

 بالتالي تطوير القطاع يتطلب دور الدولة في منافسة تجار الجملة لتقوم بعمليات شراء بسعر يحقق ريعية اقتصادية للمزارعين، تتيح القدرة على استمرار العناية بالأشجار وخدمتها مع تحقيق هامش ربح مناسب، وتقوم بعمليات بيع للمستهلكين بأسعار تتناسب مع دخولهم، عن طريق مؤسساتها الاستهلاكية، وهو الطريقة التي من الممكن أن تشكل حافزاً هاماً للمستهلكين يدفع إلى تغيير في العادات الاستهلاكية باتجاه زيادة استهلاك زيت الزيتون كمنتج محلي وضروري صحياً.

ثانياً- السوق العالمية: يبدو أن تصدير زيت الزيتون إلى السوق العالمية لم يجد حافزاً لدى قوى التصدير التي كانت تندفع نحو السوق الأوروبية وتبتعد عن البحث في الأسواق الأخرى، حيث تعتبر السوق الأوروبية سوقاً مشبعة من المادة من جهة، ومحمية من جهة أخرى ولا تستورد إلا بكميات محدودة من دول الحوض الجنوبي للمتوسط مثل تونس، بناء على اتفاقيات ثنائية تدخل المنتج التونسي بأسعار منخفضة عن أسعار السوق الأوروبية.

لم تعمل الدولة على البحث عن أسواق جديدة، على الرغم من أن السوق العالمية تفتقر إلى زيت الزيتون كمنتج محصور تقريباً في منطقة حوض المتوسط، حيث تأخرت كثيراً عمليات تسويق زيت الزيتون إلى الكثير من الشركاء السياسيين والتجاريين مثل العراق، إيران أو روسيا، أوكرانيا، دول اميركا اللاتينية. اليوم يدور الحديث عن تصدير زيت الزيتون إلى إيران وفنزويلا، إلا أنها تبقى حتى اليوم مجرد افتراضات لم تدخل حيز التطبيق ولم يظهر تأثيرها على السوق السورية، بل على العكس تمت إعاقة بعض الاتفاقيات مع فنزويلا، وتتوجت اليوم بإعلان تأسيس الشركة السورية الفنزويلية للتكرير والتعبئة، بانتظار مآل هذه الخطوة الهامة..

ثغرات الإدارة والتنظيم:

من الممكن أن تسد عمليات ثغرات الإنتاج والتوزيع عن طريق عملية ضبط وتنظيم للقطاع في جميع مراحله، تستطيع  الدولة أن تحفز وتوجه أطراف سلسلة الإنتاج ( المزارعين، المعاصر، التجار، المصدرين) باتجاه التكامل وهي عملية تتطلب إنشاء المؤسسات الكبرى التي تربط بين هذه العناصر، وتمارس الدولة فيها دوراً مباشراً كداعم للمزارعين ومصدر نهائي، أو مشتري أخير، وهذا شكل من أشكال كثيرة ممكنة.

وهنا يطرح أهمية البحث في دور الدولة بتجنب المشكلة التي تؤثر على إنتاجية وريعية قطاع الزراعة بالمجمل والزيتون من بينها، وهي مشكلة الحيازات الصغيرة، حيث يفقد أصحاب الإنتاج الصغير أي قدرة على استمرار الإنتاج أو أية ريعية اقتصادية مع أي ارتفاع في الكلف أو انخفاض في الأسعار، بينما يبقى أصحاب الحيازات الكبرى أكثر قدرة على التكيف مع تغيرات السوق، وبالتالي تتيح عمليات التكامل توحيد شروط الإنتاج وتخفيف الأعباء والمخاطر عن أصحاب الحيازات الصغيرة.وهي مهمة ضرورية لن يستطيع قطاع الزراعة في سورية التطور دون تحقيقها.