على وقع الحرب والليبرالية القمح يتراجع.. والبدائل التصديرية تتقدم

على وقع الحرب والليبرالية القمح يتراجع.. والبدائل التصديرية تتقدم

زُرع  في عام 2012 قرابة 1,6 مليون هكتار من الأراضي الزراعية السورية بالقمح، أنتجت 3 مليون طن، وإلى جانب هذه المساحات كانت مساحة تقارب 72 ألف هكتار فقط، تزرع بالنباتات الطبية السورية، يتصدرها الكمون والحبة السوداء واليانسون والكزبرة، وغيرها من مجموعة تزيد على 3600 نوع مسجل متوزعة في المناطق السورية..

 

مزارعو الحسكة كانوا يزرعون مساحات صغيرة من أراضيهم بهذه النباتات، التي تنمو بعلاً والتي لا تحتاج إلى جهد عمل كبير، حيث كانت تجد من يشتريها من التجار السوريين، على اعتبارها منتجات تصديرية بالدرجة الأولى.

 

يتبين بأن سورية كانت المصدّر العالمي الثاني للنباتات الطبية، وتحديداً اليانسون، الكمون، الكزبرة، والحبة السوداء، والشمر، التي بلغت قيمة صادراتها في عام 2010: 53 ألف دولار فقط، ومع ذلك فإن هذه القيمة جعلت سورية في الموقع الثاني عالمياً من حيث قيم التصدير، تسبقها الهند بمقدار 144 ألف دولار، وتليها إيران بمقدار 45,7 ألف دولار، ثم الصين 41,7 دولار، فمصر 31,5 ألف دولار، وسط سوق عالمية صغيرة لهذا النوع من الإنتاج الزراعي.

صدر التجار السوريين أكثر من نصف إنتاج الكمون في عام 2009، 15 ألف طن تصدير من إنتاج إجمالي 23 ألف طن، أما في عام 2011 تم تصدير 38 ألف طن، بينما الإنتاج بلغ 30 ألف طن، أي تم تصدير كامل إنتاج العام، مع جزء من مخزونات العام السابق، كما تورد بيانات المجموعة الإحصائية الزراعية السورية.

4 دونمات نباتات طبية..

تعادل دونم قمح

تعتبر غلة النباتات الطبية قليلة في المساحة، 100 كغ في الدونم بالحد الأقصى، إذا ما قيست بالقمح الذي كان ينتج 400 كغ في الدونم في ظروف سابقة، أي أنك تحتاج إلى أربعة دونمات مزروعة بالنباتات الطبية، لتنتج ما ينتجه القمح السوري في دونم واحد كمياً، وعلى الرغم من ارتفاع أسعارها العالمية، وتحديداً إذا ما قيست بتكاليفها القليلة، إلا أن هذه النباتات لا تستطيع أن تشكل بديلاً استراتيجياً، لأن سوقها العالمية صغيرة، فأكبر مستورد عالمي هو الولايات المتحدة بقيمة لا تتجاوز 58 ألف دولار، تليها ألمانيا، بقيمة لا تتجاوز 33 ألف دولار.

وبالطبع تصدر هذه النباتات السورية دون تصنيع، وبشكلها الخام، ما يجعل عوائدها أقل من الاحتمالات الكامنة فيما لو صنعت أو عبئت، أو استخدمت بشكل دوائي محلياً.

اليوم تتوسع هذه الزراعات إلى الحد الذي تتحول إلى منتج زراعي رئيسي في كثير من المناطق التي يتراجع القمح، والشعير فيها، لتظهر في موسم عام 2016 تغيرات باتجاه مزيد من تراجع مساحات القمح، وتقدم مساحات النباتات الطبية، المعدة للتصدير..

 تراجع مساحات القمح.. 

لا توضحه الأرقام الحكومية

تراجع مساحات القمح في الحسكة يوضح الكثير، ففي عام 2012 زُرعت الحسكة بحوالي 692 ألف هكتار من القمح، أنتجت مليون طن، بينما في العام الحالي، فإن الحكومة وضعت (خطة طموحة) لزراعة 718 ألف هكتار بالقمح: 261 ألف هكتار بالقمح المروي، و 457 ألف هكتار للقمح البعل، إلا أنها تركت هذه الخطة التأشيرية لما تفرضه الظروف، بعد أن قامت لمدة 3 سنوات متتالية، بتقديم أسعار غير مجدية للمزارعين، وبتقليص مراكز الاستلام في المحافظة، وبرفع أسعار بيعها للأسمدة والمازوت بمستويات لا تتناسب مع رفعها لأسعار شراء المحصول من المزارعين، والنتيجة الطبيعية لسياسة التقشف الحكومية على الإنتاج السوري، هي تراجع الإنتاج، وهذا ما كان. في هذا العام، تقول الأرقام الرسمية أن ما زرع فعلياً في الحسكة  472 ألف هكتار بنسبة 65% من الخطة، بحسب زراعة الحسكة، ولكن هل هذه الأرقام المذكورة، منفذة فعلاً؟!

تقاس الأرقام المنفذة بناء على ما يرخصه المزارعون أي وفق بيانات تسجيلهم لما زرعوه في مديرية الزراعة في المحافظة، لكن هل يزرعونها فعلاً أم لا؟! الجواب غير واضح، لأن إحصائيات دقيقة من المزارع والوحدات الإرشادية في المناطق والقرى لم تعد متوفرة. فيمكن أن يرخص المزارع أرضه بالقمح أو الشعير، ولا يقوم بزراعتها بهذه المحاصيل.

حيث يظهر هذا من حجم استلام المحصول في المحافظة، ففي العام الماضي 2015، تم استلام 285 ألف طن فقط، وهذه الكميات تزرع في مساحات لا تتجاوز 185 ألف هكتار بأقصى الحالات، بينما كانت بيانات الوزارة تشير إلى توقعات بأن حجم إنتاج القمح في المحافظة سيبلغ 750 ألف طن، وسيسلم منها 450 ألف طن.. وتسليم 285 ألف طن، يشير إلى أن مساحات تبلغ 300 ألف هكتار، لم تزرع بالقمح، أو أن كامل إنتاجها بيع للتجار، وهذا تقدير غير منطقي حيث أن أسعار التجار لا تبتعد كثيراً عن أسعار الحكومة، وبناء عليه يمكن التشكيك في رقم المساحات المنفذة فعلياً من القمح، وتحديداً أن المعلومات المحلية، تشير إلى أن المزارعين يعزفون عن زراعة القمح، ويتجهون إلى الزراعات التصديرية الأقل كلفة، والأعلى ريعاً، مثل النباتات الطبية، وفيما يلي نستعرض بعض المقارنات بين كلف القمح، وأسعاره، وظروف زراعته، وبين النباتات الطبية، التي توضح أسباب هذا التوجه.

القمح غير مجدي.. بمنطق السوق!

تكلفة القمح على المزارع اليوم قد تبلغ وفق تقديرات المختصين الزراعيين في الحسكة 80 ليرة للكغ للمروي، و بينما تسعيرة الحكومة لعام 2016 بين 72-75 ليرة للكيلو، أي الخسارة هي حالة واردة، والعائد إن وجد فسيكون في الزراعة البعلية، ومع سماد أقل سعراً وجودة، ومع عمالة بجزء كبير منها منزلية، وسيكون بهذه الحالة قليل أيضاً، بينما كانت نقابة المهندسين الزراعيين في الحسكة، وغيرها من المنظمات المرتبطة قد اقترحت أن السعر المجدي يجب أن يبلغ 100 ل.س للكغ، ليحقق عائد وينافس التجار.

الحكومة تقول بأنها تدرس التكاليف، وتضع هامش الربح، ثم تسعر، إلا أن قياس التكاليف الوسطية في الظروف الحالية، لا يمكن أن يكون كافياً لتحفيز زراعة القمح، نتيجة كثرة الطوارئ، التي تفرض أسعار سوق احتكارية مثل سعر سماد السوبر فوسفات المصنوع في حمص، والذي يباع الطن  في الحسكة بـ 200 ألف ليرة في الحسكة، بينما سعره الرسمي 86 ألف ليرة للطن، ليلجأ المزارعون إلى سماد موجود في سوق المحافظة من العراق سعر طنه 100 ألف ليرة، ولكن نسبة المواد فيه 18%، مقابل نسبة المواد في السماد السوري البالغة 46%.

 

الحكومة رفعت سماد السوبر من 18 ألف ليرة للطن في عام 2011، إلى 86 ألف، بنسبة 377%، أما واقعياً فقد ارتفعت كلفته على مزارعي الحسكة بنسبة 1100%، بينما رفعت أسعار شرائها للقمح من 22 إلى 72 ل.س للكغ،  بين عامي 2011-2016، أي بنسبة 227% فقط.

عملياً لم تترك الحكومة بأسعارها وسياساتها، أي ورقة داعمة، ليستمر المزارعون بزراعة القمح أو يتوسعوا بها، بينما السوق تقدم كل المغريات للاتجاه إلى زراعات تصديرية.

النباتات الطبية في الجزيرة.. عوائد أضعاف التكلفة

تنتشر في الحسكة زراعة أربعة نباتات طبية رئيسية: الكزبرة- الكمون- الحبة السوداء، والحلبة، إلا أن الكزبرة تراجع إنتاجها في هذا العام بعد أن انخفض سعرها كثيراً في العام الماضي، مع زيادة العرض.

مجمل هذه الزراعات بعلية، لا تحتاج إلى سقاية، وبالتالي إلى تكاليف محروقات، كما أنها تحصد وتدرس بالحصادة مباشرة، باستثناء الكمون، ما يجعل حاجتها لساعات العمل، تقتصر على تهيئة الأرض، والتعشيب، ورش البذار فقط.

كما أن أسعارها العالمية عالية، وعوائدها مجزية، وفي الجدول كلف زراعة الكمون، وعائديتها على المزارع.

أرباح حبة البركة

والحلبة 6 أضعاف التكاليف

أما في نباتات طبية أخرى، مثل حبة البركة والحلبة، وهي الأكثر انتشاراً اليوم في الحسكة، فإن التكاليف أقل، والعوائد أعلى، حيث أن المنتجين يُحصدان آلياً، ما يخفف من كلف الحصاد، بينما لا تحتاج الحلبة إلى سماد، ووفق حسابات قاسيون فإن تكلفة الدونم من الحبة السوداء، تبلغ 5000 ليرة سورية فقط، تنتج 60 كغ، وتباع بسعر 700 ليرة وسطياً للكيلو، أي بحوالي 36 ألف ليرة، ويكون ربح الكغ: 516 ليرة سوريا تقريباً، أي 620% من التكلفة.

أما الحلبة فتكلفة الدونم منها لا تتعدى 4200 ل.س، تنتج 100 كغ، وتباع بسعر 300 ليرة للكيلو، أي 30 ألف ليرة للدونم، ليربح المزارع من كغ الحلبة 258 ليرة، وبنسبة 614% من التكلفة.

تباع هذه المنتجات للتجار، بأغلبها، حيث تشتري الحكومة كميات من الكمون فقط، بمقدار الخطة التي تضعها بمساحة  لا تتجاوز 31,5 ألف دونم، تنتج حوالي 1500 طن، بينما المساحات المنفذة والتي أحصتها مديرية الزراعة في المحافظة هي 36 ألف هكتار، أي 360 ألف دونم، تنتج حوالي 18 ألف طن من الكمون، والمساحات الفعلية غير المسجلة هي أكبر من هذه، بالإضافة إلى مساحات زراعة النباتات الطبية الأخرى، من كزبرة، وحبة البركة، والحلبة وغيرها.  

مقابل هذه العوائد العالية، للنباتات الطبية، تضع الحكومة سعراً للقمح، قد يحقق خسارة، أو بأحسن الأحوال يحقق هامش ربح 25%..

لذلك من الطبيعي في ظروف كهذه أن تتوسع مساحات هذه النباتات على حساب مساحات زراعة المحاصيل الرئيسيةـ إذا لم تجد هذه المحاصيل، سياسة اقتصادية مدعومة بإنفاق حكومي، وقرار بحماية الأمن الغذائي السوري، وإدارة أزمته.

آخر تعديل على السبت, 05 آذار/مارس 2016 23:26