كلية الاقتصاد أولى ضحايا اقتصاد السوق ترفض إيديولوجيته..

كلية الاقتصاد أولى ضحايا اقتصاد السوق ترفض إيديولوجيته..

عند سؤاله عن أسباب إيقاف تدريس مقرر الاقتصاد السياسي وحذف كتاب تاريخ الأفكار الاقتصادية من منهاج كلية الاقتصاد لفترة طويلة، أجابنا أحد أكاديمي الكلّية (أزمتنا اليوم، هي أزمة اقتصاد سياسي)!. هكذا كثف ذلك الأكاديمي الأزمة الاقتصادية- السياسية التي عصفت بالبلاد، رابطاً إياها بإجراء قد يبدو تقنياً اتخذ قبل 10 سنوات تقريباً من إنفجار الأزمة، فهل من علاقة ما بين تغيير منهاج كلية الاقتصاد وأزمة اليوم؟

 

بالتأكيد ليس الأمر بهذه البساطة، لكن المقصود هو الإشارة إلى أن إجراءات الليبرالية التي اجتاحت البلاد بعد 2005 تحت عنوان اقتصاد السوق الاجتماعي، عمدت إلى التمهيد لضرب أي ممانعة لها حتى لو كانت أكاديمية الطابع، وهو مادفعها إلى تعديل مضامين المناهج العلمية بما يتوافق مع طروحاتها وسياساتها، وهو ما يعني إقصائها للعلم بدل احترامها له، وهي التي ادعت مراراً أن هدفها التطوير والتحديث!
قاسيون استطلعت آراء طلاب كلية الاقتصاد وطلاب الدراسات العليا وبعض الأكاديمين حول هذا الموضوع وخلصت للآتي:


76%: لم نسمع بالمقررين!!

شمل استطلاع قاسيون عينة عشوائية من طلاّب السنوات الأربع الأولى في كلية الاقتصاد وكانت نتائجه على الشكل التالي:
- 76% منهم  الإجابة نفسها: (لم نسمع بالمقررين)!
- 80% ممن سمعوا بهذين المقررين تعرفوا عليهما خارج الكلية ومن مطالعاتهم الشخصية.
- 60% من الطلاب الذين تعرفوا على هذين المقررين أكدوا، أن حذفهما هو (محاولة تهميش الجانب الفكري، ولتغييب الوعي الاقتصادي الملموس بشدة عند الطلاب، وتكريساً لتفسير الاقتصاد على أنه علم رقمي رياضي، ومحاسبي، ومصرفي فقط).
- 40% من الآخرين الذين سمعوا بالمقررين رأوا أن الحذف قد يعني محاولة لجعل الكلية عملية أكثر منها نظرية!
- 45% من الطلاب الذين اطلعوا على المقررين دعموا خيار إعادة تدريسه في السنوات الأولى، بينما لم يحدد باقي الطلاب المطّلعين موقفاً من طريقة التعاطي الضرورية مع هذين المقررين حالياً، أو في المستقبل القريب.
قاسيون استطلعت آراء طلاب الدراسات العليا في كلية الاقتصاد وهم بأغلبيتهم العظمى من المطلعين على المقررين بحكم متابعاتهم النظرية الضرورية، في إعداد أبحاثهم لا بحكم دراستهم لها في السنوات الأولى.


طلاب الدراسات العليا: الإلغاء بين الأدلجة والسياسة

يقول ابراهيم النفرة لقاسيون، وهو المعيد في قسم الاقتصاد الموفد إلى روسيا حول أسباب حذف هذين المقررين (أعتقد أنَّ تفسير حذفهما يندرج ضمن موجة التعديلات التي حصلت في الفترة الأخيرة، والتي اتسمت بالتركيز على المواد ذات الطابع الفني، تذرعاً بالابتعاد عن أروقة الأيديولوجيا، وأنَّ هذين المقررين مشبعان بالطروحات الأيديولوجية التي يجب تجاوزها، لكن الحقيقة غير ذلك تماماً).
سامر ديب وهو طالب قسم الدراسات العليا باختصاص النقدي والمالي، قال لقاسيون: إن (إلغاء المقررين كان له آثاراً سلبية جداً وهذا الإلغاء ليس مستغرباً في إطار التوجهات المعروفة للإدارة الاقتصادية السابقة، والحالية إلى حد ما، التي لطالما قللت من أهمية الفكر الاقتصادي والاقتصاد السياسي لصالح التحليل القياسي الإحصائي).
أما محمد كيكي وهو طالب ماجستير في القسم نفسه فأجاب حول تفسيره لحذف المقررين فيما مضى: (أفسره بضعف قدرة الكلية على إنتاج بدائل، لا أعتقد أن السبب أيديولوجي، فمعظم الأساتذة درسوا هذه المواد في الكليات التي تخرجوا منها في أوربا الشرقية، لكن عندنا تم حذف المقررات بحسب توجهات المؤلف السياسية (كعارف دليلة، وكتاب تاريخ الأفكار الاقتصادية مثلاً) أو بسبب توقف المؤلف عن التدريس وعدم وجود بديل مناسب (كما حدث في كتاب الاقتصاد السياسي لمطانيوس حبيب).
هذا، وقال ميمون العبيد وهو حامل لشهادة الماجستير في العلوم المالية والمصرفية من جامعة دمشق، وهو الذي اطلع على كتاب الاقتصاد السياسي في السنوات الأولى في جامعة حلب: إن (السبب الأساسي هو التوجّه الليبرالي لأصحاب القرار في سورية، وبالتالي محاولة التعتيم وتغييب كل الأفكار التي تعارض هذا الفكر الليبرالي، وهنا يتجلى الفكر الإقصائي للأصحاب القرار).
وأكد غيث ريحان طالب ماجستير في قسم الاقتصاد الدولي في كلية العلوم السياسية، رأي العبيد، كما استغرب تلك الخطوة بقوله (وكأن من قرر الحذف اعتبر أن هذين المقررين مرتبطين بالاشتراكية!! ولا يعلم أنه في أكبر دولة رأسمالية في العالم، وهي الولايات المتحدة يدرس هذان المقرران بالإضافة إلى تدريس ماركس وأنجلس ونقد الرأسمالية)، أما معتز فيومي وهو طالب ماجستير في قسم المالي والنقدي فقد رأى: أن (حذف المقررين محاولة لتحويل كلية الاقتصاد إلى كلية تجارة وتمويل).
يمامة اسماعيل، وهي طالبة في مرحلة إعداد أطروحة الماجسيتر أكدت أنه: (من المهم جداً الاطلاع على هذين الموضوعين، وهذا الأمر لم أدركه إلا في مرحلة ما بعد التخرج، عندما شعرت بضعف في تحليل بعض الوقائع الاقتصادية بشكل عام، وتحليل السياسات الاقتصادية في سورية وأسباب قصورها بشكل خاص). كما أكد وجدي وهبي وهو أيضاً في مرحلة إعداد أطروحة الماجستير: أن (الاطلاع على هكذا مقررات، يرفع من السوية العلمية والمعرفية للطالب، ويمكنه من الحصول على العديد من مناهج وطرق التحليل التي تساعده في فهم الاقتصاد المحلي والعالمي بصورة أعمق).


أكاديميون يتوافقون مع الطلاب ويعدون بالتغيير

هذا وقد تحدثت قاسيون مع بعض الأكاديمين في كلية الاقتصاد حول هذه الخطوة حيث أكد الدكتور رسلان خضور عميد كلية الاقتصاد بجامعة دمشق: أن (هناك اتجاه عالمي نحو حصر علم الاقتصاد بالجانب الكمي الإحصائي الرياضي، دون أبعاده الاجتماعية. وهو بالدرجة الأولى علم اجتماع، أما الطرائق الكمية، هي مجرد أداة لدارس الاقتصاد ليس إلا، وللأسف البعض وضعها في المقدمة، واعتبرها الجانب الأساسي. والكثير من الجامعات تأثرت بهذا الاتجاه السائد، ومن ضمنها جامعاتنا).
وحول منهاج الكلية الحالي قال خضور: (المقررات المتبقية تستطيع أن تغطي جانباً بسيطاً فقط، ولكنها لا تستطيع التوسع في المدارس الفكرية الضرورية للتأسيس الأكاديمي، وعدم وجودها ثغرة في المناهج الحالية، ومقرر الاقتصاد السياسي مكمل ضروري). كما أكد الأستاذ خضور: أن (الكلية تبحث مسألة تطوير مناهجها وتغييرها).
الدكتور عدنان سليمان عضو مجلس قسم الاقتصاد، انتقد حذف المقررات المذكورة بشدة واصفاً إياها، بـ(الخطأً الكبير)، كما أشار إلى مقارنة كلية الاقتصاد مع مثيلتها في مصر، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، التي تنفصل عن كلية التجارة.
بدوره اعتبر الدكتور غسان ابراهيم: أن كلية الاقتصاد بمناهجها الحالية، وطريقة التدريس، هي كلية محاسبية ومصرفية بالدرجة الأولى، والجانب الاقتصادي الاجتماعي والسياسي فيها غير ذا شأن، مع حذف هذه المقررات، وما تلاها، معتبراً أن هذا الحذف غير مبرر أياً كانت أسبابه، وهو يخل بالمنهج العلمي، حيث تعتبر مقررات تاريخ الفكر الاقتصادي مقررات تأسيسية.

خلاصة:

بعد حذف المقررين السابقين وغيرهما من المقررات المشتقة في السنوات المتقدمة، اعتمدت كلية الاقتصاد في جامعة دمشق على أملية من 200 صفحة فقط تحت عنوان (مدخل إلى علم الاقتصاد) لطلاب السنة الأولى، حيث تم وضع مقرر مختزل بطريقة أقل ما يقال عنه أنه لرفع العتب، واعتمدت حتى عام 2012، حيث صدر كتاب جديد بعنوان (مدخل إلى علم الاقتصاد-الاقتصاد السياسي وتاريخ الأفكار الاقتصادية) شمل دمجاً لأهم عناوين المقررين، ولكن بشكل ممنهج وموسع عما كانت عليه الأملية السابقة، ومع ذلك يرى الدكتور غسان ابراهيم أحد مؤلفي هذا الكتاب، أن الكتاب محاولة لتفادي المشكلة السابقة، إلا أنه غير كاف بالمقارنة مع ما كان، ومع ما ينبغي تدريسه لطلاب علوم الاقتصاد.
إن وقوف قاسيون عند هذا الموضوع اليوم ليس للوقوف على الماضي وللتأكيد على أن عبث السياسات الليبرالية امتد إلى كل شيء وحسب، بل للقول على أن هناك العديد من الخطوات لم تتخذ بعد للرجوع عن العبث المؤدلج بالعلم، واليوم لم يعد هنالك أي مبرر للتراخي مع مثل تلك الإجراءات، خاصة مع بروز صيحات أكاديمين عالميين كروبرت سكيدلسكي وبيكيتي وستغلتس الرافضة لقصر علوم الاقتصاد على الاقتصاد الرياضي وإفراغه من مضمونه الاجتماعي وذلك على إثر الأزمة الاقتصادي العالمية التي لازالت تتعمق.

 
آخر تعديل على الخميس, 18 حزيران/يونيو 2015 21:24