الاختناقات.. واسترداد جهاز الدولة المستلب

الاختناقات.. واسترداد جهاز الدولة المستلب

الاختناقات في  مواد أساسية، عنوان رئيسي في الأزمة الاقتصادية، فُقد المازوت أولاً، وتلاه الغاز، ورافق هذا وذاك، التقنين القاسي للكهرباء..لم تحمل التصريحات و«الشروحات» الحكومية إلا مزيداً من سوء الفهم والاستغراب، لتظهر السوق السوداء المزدهرة وتبرر للمواطن، وبكل وقاحة، قائلة إن ما يجري هو سياسة زيادة ثروة الكبار وأزلامهم..

المشترك في هذه القطاعات، هو دور الدولة الكبير في الإنتاج والتوزيع، إلا أن الليبرالية كسياسة معلنة في سورية، لعبت دوراً كبيراً في تهميش هذا الدور، وبأساليب متعددة. حيث يفقد  المواطنون السوريون رويداً رويداً، الدولة القادرة على الدعم والضبط وحتى التشغيل والإدارة. وإذا ما بدأنا بالدعم، فقد قيل الكثير عن سياسة رفع الدعم عن المازوت، وعن أثرها الممتد على جميع المفاصل الاقتصادية – الاجتماعية، وعلى الرغم من «البروباغندا» الإعلامية التي رافقت حملة نزع الدعم، إلا أنها لم تنجح في تغطية كوارث هذه السياسة الخطيرة، وتحديداً لأن موارد الدولة الموفرة منها، لم تظهر في مكان آخر. أما في الأزمة، فقد كان لمادة المازوت -هذه السلعة الإستراتيجية والحساسة اجتماعياً- المكان الأول في سلسلة الأزمات المفتعلة في سورية، حيث تم التصريح وبالصوت العريض أن السلعة موفرة، وأن العقوبات لن تؤثر، على الرغم من تخفيف إنتاج النفط الخام، وبالتالي إنتاج المشتقات النفطية، وبالفعل فالمادة كانت موجودة بالكم المعتاد في السوق السورية، إلا أنها فقدت، بالتخزين، بالتهريب، بالاحتكار، وانتهى الأمر، بصعوبة توفيرها إلا بالسعر الأقصى الذي وصل إلى 40 ليرة للتر في السوق..

أما الغاز المنزلي، الذي ننتج محلياً منه 50% من الاستهلاك المحلي، ويرتبط إنتاجه أيضاً باستيراد المشتقات النفطية، فقد تعرض مع تراجع الإنتاج المحلي إلى ضغط في عملية إنتاجه، وإذا ما اعتبرنا أننا نعتمد فقط على الغاز المنتج محلياً، فإن الكمية قد انخفضت إلى النصف، وبالتالي على السعر أن يتضاعف فقط، إلا أن السعر ارتفع من 300 إلى 2000 في السوق أي بحدود خمسة أضعاف، وبينما تختفي الأسطوانات الرسمية المسعرة ب 500 ليرة تقريباً، تظهر بالمقابل أسطوانات السوق السوداء بمبلغ يقارب 2000 ليرة. أما الكهرباء فعلى الرغم من عدم اختراق القطاع الخاص بالشكل الفج لهذا الموضع الاستراتيجي، إلا أن هناك من يريد أن تظهر الدولة كجهاز غير مؤهل لإنتاج وإدارة هذا القطاع، وبالطبع كثير من التفاصيل تُسقط حجج الحكومة حول الأعمال الأمنية المتفرقة من هنا وهناك «كضرب المحولات أو غيرها»، فتصليح الأعطال، لا يقتضي تقنيناً وصل إلى 12 ساعة في الريف السوري المرهق، وأعطال وحوادث أمنية، لا تشرح إمكانية إمداد كل سورية بالكهرباء إذا ما طرأ«حدث إعلامي جلل» يرتئي التلفزيون السوري، ضرورة مشاهدته.

           الثروة النفطية ومافيات العرقلة

لابد أن غياب المازوت والغاز «الرسميين», وظهورهما الواسع في السوق السوداء وبسعرها الفج، وعلى مرأى من الجميع، يعطي الدلالة الكافية على أن التوزيع والرقابة والسياسات لها حصة الأسد في الاختناقات التي تحصل. إلا أن سؤالاً يطرح: هل الوفرة الكبيرة لهذه المواد كانت ستحل الأزمة؟

ولماذا لا توجد استراتيجيات أزمة، في بلد يغالي سياسيوها بصدهم لرياح المؤامرات العاصفة، وصمودهم بوجهها؟

الجهاز الإنتاجي في هذه القطاعات غير قادر على مواجهة أزمة، وأي زيادة بالضغط، أو خلل ما يسبب حالة من الفوضى والاضطراب، نظراً لأن الإنتاج غير مهيأ للزيادة، ويكمن الخلل في إدارة الثروة النفطية، فكل من المازوت، والغاز، وجزء هام من إنتاج الكهرباء يعتمد على مستوى الإنتاجية والجدوى في قطاع النفط.

في سورية الثروة النفطية غير معلنة وغير شفافة، نظراً لوجودها« بأيد أمينة»أو لضرورات تتعلق بالأمن الوطني, إلا أن الحرص على الأمن الوطني، لم يقتض إعادة النظر بعقود نفطية لشركات (أميركية، فرنسية، هولندية، كندية.. ) تأخذ 47% من الثروة الوطنية، ولم تقتض المصلحة الوطنية إعادة النظر، بالإدارة الضعيفة الجدوى والمريبة حتى، لهذا المورد الناضب والثمين، حيث بقي حوالي 30% من النفط المستخرج يصدر خاماً، وبكامله تقريباً إلى السوق  الأوروبية (بنسبة 95%).

أما نسبة 64% التي تدخل المصافي السورية، وتنتج مشتقات نفطية متنوعة، لم تحقق نقلات نوعية تذكر، لا بل على العكس، تم إعاقة مشاريع كبرى لمصافي التكرير، لتبقى موجودة على الورق، ينقصها قرار وإرادة سياسية غير موجودة أو غير فاعلة في مواجهة «مافيات العرقلة»، تلك التي مكنت تاريخياً العلاقات الاقتصادية مع الغرب، وتعيق حالياً أي توجه نحو الشرق وهو الأكثر انسجاماً من حيث الجغرافية السياسية والمصالح الوطنية. هذه المعطيات للدلالة على أمرين مرتبطين، أولهما غياب العقلية الإستراتيجية لمواجهة الأزمات، وثانيهما خلبية طروحات الأمن الوطني الاقتصادي، الذي يقابله منهج يعادي المصلحة الوطنية، ولعل كل السياسات الليبرالية التي أعلنت كانت تعبيراً عن غلبة هذا النهج في السياسة الاقتصادية في سورية، والتي كان تحييد دور الدولة أو القضاء عليه هدفاً نصب عينيها تحديداً في قطاعات أساسية، مثل النفط ومشتقاته، ويلحقها كل من الغاز والكهرباء، فتبدأ من رفع الدعم، وتظهر في التصريحات المتتالية حول دخول القطاع الخاص، إلى إنتاج وتوزيع الكهرباء، وعدم القدرة على لجم المحتكرين، أو تحييد دور القطاع الخاص في الأزمات، وتظهر جوهرياً في عدم وجود قرار سياسي في الاقتصاد يتناسب مع حجم الأزمة، وترك السياسة المضادة لتفعل فعلها في هذا المجال الحيوي الحساس، ليخسر السوريون دور مؤسسات جهاز الدولة، التي هي ملكهم, ومكاسبهم، وهم من عليهم الدفاع عنها.