دحض المبررات الحكومية لفلتان الأسعار يوصلنا للآليات الكفيلة بضبط الأسواق

دحض المبررات الحكومية لفلتان الأسعار يوصلنا للآليات الكفيلة بضبط الأسواق

لا يختلف مراقبون للشأن الاقتصادي على أن ارتفاعات الأسعار التي لا تقيدها أية ضوابط تذكر هي المساهم في تأزيم الوضع الاقتصادي، والمسبب بتراجع القدرة الشرائية للسوريين، كما أن انفلاتها ما هو إلا نتيجة للخلل المتراكم في بنية الاقتصاد الوطني، وتراجع دور الدولة، ولكن المبررات الرسمية تصرّ على تحميل العقوبات والدولار مسؤولية الارتفاعات الحالية في الأسعار، متناسين أن انفلات الأسعار ليس بالجديد والطارئ على الأسواق المحلية، فالتشخيص الصحيح هو المنطلق لوضع الحلول السليمة، ولكن هناك من يريد إبعادنا عن تشخيص المشكلة الحقيقية للأسعار لكي يبعدنا عن وضع الحلول الناجعة، مبقياً للبعض على منفعتهم..

مفارقة

تحصر  المصادر الرسمية تحميل مسؤولية ارتفاع الأسعار بالعقوبات الاقتصادية، وهي عملياً تتحمل جزءاً من المسؤولية، من منطلق تخفيضها لإيرادات القطع الأجنبي، ولكن هناك جهات ومسببات أخرى تتحمل المسؤولية أيضاً، وتتصدرها قيمة الليرة المتراجعة، حيث شهدت انخفاضاً في قيمتها بنسبة 39% منذ شهر أيلول 2011 حتى الآن، وذلك من 47 ليرة للدولار في مطلع شهر أيلول إلى 64 ليرة للدولار الواحد حالياً، إلا أن المفارقة هي ارتفاع أسعار كل السلع، بينما إذا ما كانت العقوبات هي المحور، فالمفترض أن ترتفع أسعار المواد المستوردة فقط، وأسعار بعض السلع المنتجة محلياً، والتي يجري استيراد موادها الأولية أو نصف المصنعة من الخارج، إلا أن الارتفاع طال كل أنواع السلع حتى المنتجة محلياً بكل تفاصيلها، والمفارقة الأخرى هي أن نسبة ارتفاع الأسعار خلال 15 عشر شهراً تجاوز 100%، حتى أن متوسط ارتفاع أسعار السلع بحسب وزارة الاقتصاد بين أيار 2011 وشهر أيار 2012 بلع 63%، وهذه الارتفاعات تشكل ضعف انخفاض قيمة الليرة السورية أو أكثر...

تدمير الليرة

أما إذا ما أردنا الحديث عن أسباب انخفاض قيمة الليرة السورية، فإنها ليست ببعيدة عن مشكلة الاقتصاد السوري، الذي جرى إهماله تاريخياً، وبات اقتصاداً هشاً، وتحول تدريجياً من اقتصاد مصدّر إلى اقتصاد مستورد، بفعل إهمال ميزاته التنافسية النسبية منها والمطلقة، والتخسير المتعمد لميزانه التجاري الذي بدا بالخسارة منذ عام 2003 لتصل خسارته إلى ثمانية أضعاف في عام 2011، وذلك لاستسهال الاستيراد الذي يحقق أرباحاً كبيرة على حساب تصدير الناتج المحلي، والذي كان بفعل عقلية القطاع الخاص الباحث عن الربح، وكل ذلك أدى إلى تدهور الليرة كانعكاس لتراجع أداء ونمو الاقتصاد السوري، فـ»الليرة هي غطاء الاقتصاد»، وبالتالي فإن قوة الاقتصاد ستنتج ليرة قوية والعكس صحيح، وهذا ما يؤكده العديد من الاقتصاديين، فالليرة اهتزت مع أول حالة عدم استقرار في البلاد، فكيف ستدعم العملة الوطنية باحتياطي نقدي كبير والميزان التجاري السوري خاسر على امتداد تسع سنوات؟!

البدائل تفرغ العقوبات من مضمونها

كما يقف بعض المنتفعين والجهات الرسمية أيضاً وراء العقوبات الاقتصادية لتبرير ارتفاع الأسعار، فالعقوبات الاقتصادية ليست بالجديدة على سورية هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن تأثير عمليات تشديدها حالياً يتوقف على أساس البدائل المتوفرة، والتي نرى بأنها متاحة، فإذا كنا نستورد المشتقات النفطية من أوروبا في السابق، فهل لدينا بدائل سواها؟! وماذا عن روسيا وفنزويلا وإيران الذين يمتلكون الغاز والنفط وهم من اكبر الدول المصدرة لتلك المشتقات عالمياً؟! وإذا ما تحدثنا عن الصناعات التحويلية، فالصين أكبر مصدر لتلك المواد على الساحة العالمية أيضاً، كما أن البرازيل من أهم منتجي المواد الغذائية عالمياً، فتلك البدائل المتاحة تفترض التأثير المحدود، أو عدم وجوده أساساً، إلا أن التأثر الكبير إذا ما حصل، ناتج عن مؤامرة حكومية رافضة للتحول باتجاه هذه البلدان، لأن مصالح البعض ومنافعهم الذاتية من وراء كونهم وسطاء تاريخياً مع الكتلة الاقتصادية الأوروبية هو من جعل من التوجه شرقاً أمراً في غاية الصعوبة، ومن حقنا التساؤل: كيف نبرر ارتفاع الأسعار بالعقوبات ونحن نفتخر طوال عقود من الزمن بالاكتفاء الذاتي؟! ألا يفتح ذلك الباب أمام التساؤل عن مبررات ضرب هذا الاكتفاء من جانب الحكومات المتعاقبة؟!

الاحتكار

الاحتكار غير متاح قانوناً في سورية، إلا أنه النتيجة الطبيعية، لبنية اقتصادية مشوهة، ولأي بنية اقتصادية حديثة الرأسمالية في هذا العصر، فالسوق السورية لا تضبط أسعارها وفق العرض والطلب، لأن مستوى تحكم المحتكرين، يتيح لهم تثبيت ربح احتكاري عن طريق زيادة السعر، إلا أن حتى هذا السعر الاحتكاري يفترض أن يخفض، في حالات تأزم الإنفاق كما يحصل الآن، فحتى السلع المحتكرة، والتي تعتبر سلعاً رفاهية، لم تنخفض أسعارها على الرغم من توقف الطلب عليها، أي أن الاحتكارات لا تفسر إلا جزءاً من  الخلل، فهناك عامل أساسي لايمكن من تخفيض أسعار السلع وهو يكمن، في انخفاض قيمة الليرة.. 

تحرير الأسعار

لو أن للعقوبات الاقتصادية تأثيرها المطلق والأوحد على ارتفاع الأسعار، فما هو مبرر ارتفاع أسعار السلع بموجات متلاحقة في السنوات السابقة التي كانت تعيش فيها الليرة السورية حالة من الثبات الشكلي، ولم يكن أحد يتكلم عن تأثير العقوبات الاقتصادية، إلا أن الأسعار كانت تحلق، حيث ارتفعت الأسعار بنحو68.3% بحسب رقم التضخم الرسمي بين عام 2000 و 2010، على الرغم من أن التضخم الفعلي هو أعلى من ذلك بكثير، وفي حينها لم تكن الليرة السورية تعيش حالة من عدم الاستقرار، وكذلك هي حال العقوبات، فما هو مبرر ارتفاع الأسعار بهذه النسبة في السنوات السابقة إذا؟! والذي يحال إلى  عاملين تحرير الأسعار الذي جرى في السابق، وترك السلعة للعرض والطلب ليحدد سعرها، في ظل بيئة احتكارية بكل تفاصيلها، وهذا ما جعل من القانون هذا معطلاً أساساً وغير فاعل!

عاملان مباشران وعامل جذري

في كل هذه الزحمة تتحدث الأوساط الحكومية عن الاحتكار أو عن القرارات السابقة التي حررت أسعار ما يقارب 86% من المواد في السوق الداخلية، وهذا ما يؤكده التأثير غير الكافي للعقوبات قياساً بحجم الارتفاع الكبير بالأسعار، وهذا ما عزته بعض الصحف إلى العامل النفسي وتأثيره في ارتفاع الأسعار، والذي نحيله نحن بدورنا إلى عاملين مباشرين:

الاحتكار من جهة، حيث قانون المنافسة ومنع الاحتكار ذاته، لأنه سمح لتاجر الواحد بالاستحواذ على 30% من حجم سوق سلعة ما أي أنه بمقدور أربعة تجار السيطرة على السوق.

السياسات الحكومية وتحديداً تحرير الأسعار، التي تم التخويف من تقييدها أو التحكم بها، بحجة أنها تشوه الاقتصاد المشوه أساساً، شكلت الحلقة الأخرى في الإبقاء على فلتان الأسعار، وجعلها قدراً فوق رقبة الاقتصاد السوري والسوريين أيضاً، فالتحرير ليس قدراً، ويمكن التراجع عنه إذا ما توفرت النية والغطاء السياسي لذلك، خاصة وأن التجارب العالمية حتى في الدول الرأسمالية خير شاهد على إتباع التحديد الحكومي للأسعار لسنوات طويلة، وفرنسا إحدى هذه الدول التي استمرت خمسين عاماً في تحديد أسعار السلع والمواد في سوقها الداخلية، فما هي العوائق من تحديد ذلك في بلادنا حالياً؟

إلا أن أياً من العاملين لا يعبر عن كل جوانب ظاهرة ارتفاع الأسعار، التي يكمن في صلبها، تدهور النشاط الاقتصادي، وتدهور قيمة الليرة السورية التي تعكسها.