استثمار المخلفات الزراعية برسم الحكومة

استثمار المخلفات الزراعية برسم الحكومة

لم تتوقف البلاد يوماً عن استيراد الأعلاف لتأمين حاجة الثروة الحيوانية، إلا أن أحداً لم يدرك إلا متأخراً أن هناك ثروات ضائعة يمكن الاستفادة منها بما يحقق الاكتفاء المحلي من أعلاف الحيوانات، إن لم نقل التوجه نحو التصدير بعدها

 ومقولة «أن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي أبداً» لن تصب في مصلحة الاقتصاد الوطني والمربين والمستهلكين على حد سواء بعد فوات الأوان، لأن بين الإدراك والتنفيذ قد تفصل عقود طويلة نهدر فيها جزءاً غير قليل من ثروتنا، وتجارب الحكومات السابقة تنبئ عن ذلك، فالكثير من المخلفات الزراعية تعالج اليوم بالحد الأدنى، والقسم الأعظم منها يحرق أو يترك في الأراضي الزراعية دون ما استفادة، إلا أن دول العالم قاطبة سعت للاستفادة من هذه المخلفات منذ عقود، بينما اكتفى أصحاب القرار الاقتصادي ببعض الندوات وتنفيذ التجارب على استخدام مخلفات شجرة الزيتون كأعلاف مركبة على سبيل المثال، دون الارتقاء بها، أو إقامة معامل للاستفادة من هذه المخلفات على مساحة الوطن..

الوفر المحقق

لم نفتح ملف إهمال المخلفات الزراعية من باب جلد الأداء الحكومي، بل لتذكير أصحاب القرار أن العجز في الميزان العلفي (بين المنتج محلياً والمستورد كبير) يؤدي إلى «هدر» مئات الملايين من الدولارات التي يدعي البعض الحرص عليها اليوم، ويطالب بعدم تحريكها حتى لو كان الهدف منها التخفيف قليلاً من وطأة ارتفاع الأسعار عن المستهلكين، بينما يتجاهل أن هناك بدائل حقيقية أخرى تصلح لتغذية الثروة الحيوانية، وهي المخلفات الزراعية من خلال معالجتها، وتعظيم قيمتها الغذائية، وهي لا تكلّف أكثر من إقامة عدة معامل صغيرة ومتواضعة في بعض المحافظات، وبما لا تتعدى قيمتها الإجمالية نصف مليار ليرة، بحسب بعض الدراسات، وهذا ليس بالرقم الكبير مقارنة بالوفر الذي سيتحقق عبر تنفيذ هذا المشروع..

657 مليون دولار لاستيراد مواد علفية

تراجع أعداد الثروة الحيوانية خلال الأزمة أصبح أمراً مؤكداً حيث ساهم ارتفاع أسعار الأعلاف المساهمة الأكبر، وصعوبة تأمينها المساهمة الأكبر، ويعود الارتفاع إلى تفاقم اتجاه التراجع في إنتاج المحاصيل العلفية في سورية خلال عام 2012، وأشار إلى ذلك تراجع احتياجات الأعلاف التي شكلت مساهمة المؤسسة العامة للأعلاف نسبة 20% منها فقط.

بالمقابل زادت حصة الاستيراد ليساهم ذلك في زيادة عجز الميزان العلفي بشكل كبير عن مستوى عام 2009 البالغ 2،2 مليون طن. وذلك مع تراجع إنتاج المحاصيل الرعوية، وتراجع إنتاج الأعلاف محلياً.

ولتقدير مستوى تكاليف استيراد الأعلاف، سنستخدم كلفة استيراد مادتين علفيتين رئيسيتين خلال عام 2012 فإن بيانات الجمارك تشير إلى استيراد كميات متناقصة من الذرة الصفراء عن عام 2010، وكذلك تناقص كميات استيراد مادة علفية أخرى وهي كسب الصويا. بالتالي فإن حوالي 657 مليون دولار تكلفة استيراد مكونين رئيسيين من مكونات صناعة الأعلاف

ثروات ضيّعها الإهمال

ركز بعض الخبراء في الآونة الأخيرة على مخلفات الزيتون، وإمكانية تحويلها إلى أعلاف للحيوانات، إلا أن المخلفات الزراعية أشمل من ذلك بكثير، فالمخلفات النباتية تبدأ من ورق الزيتون والأغصان بعد التقليم، وتمتد لتشمل ساق مادة الذرة، وساق مادة القطن، وتفل بقايا الخضراوات وبقايا الفواكه (قشور الفول والبازلاء، وقشور الفول السوداني، وتفل البندورة والعنب)، والبلاد تنتج منها كميات كبيرة سنوياً..

كما تشير بعض الدراسات إلى أن مخلفات البندورة تمثل 19% من إجمالى الإنتاج، بينما تمثل مخلفات البطاطا التي لا يتم الاستفادة منها فى الحقل نحو 10%، و20% من البطاطا أثناء عمليات التقشير، بالإضافة إلى لب البطاطا، ومخلفات العنب، وهى تمثل من 10- 20% من وزن الثمار، سورية تنتج مئات آلاف الأطنان سنوياً من هذه المواد الزراعية، والتي تترك بالحد الأدنى 10% كمخلفات من إجمالي إنتاجها..

بالإضافة إلى ذلك، فإنه بالإمكان تحسين القيمة الغذائية لهذه المخلفات عن طريق إضافة اليوريا أو فول الصويا أو الشعير وغيرها من المواد بنسب متفاوتة، بغاية تعظم القيمة الغذائية لهذه المخلفات، وقد كانت مصر السباقة على هذا الصعيد، وقد تم تجريب استخدام العديد من مخلفات الخضروات والفاكهة فى تغذية الحيوانات، عبر إجراء تجارب على تغذية الحيوانات بهذه المخلفات.. وأياً كانت كلفة تجميع وتصنيع هذه المخلفات فإنها لن تبلغ مقدار كلفة الاستيراد، مع عوائد أعلى..

حلقة من المستفيدين

إذاَ، وبالدليل القاطع، ستسمح الاستفادة من المخلفات الزراعية كأعلاف للحيوانات، في توفير جزء غير قليل من القطع الأجنبي، كما أن اكتفاء الثروة الحيوانية من الأعلاف المنتجة وطنياً، سينعكس إيجاباً على المربين، والذين سيشترون الأعلاف بسعر أقل، وسيشجعهم على التربية بدلاً من عزوفهم مع ارتفاع أسعار الأعلاف، وسيسمح للحكومة مواجهة الطلب المتزايد على الأعلاف، كما أن هذه العملية ستنعكس ايجاباً على المزارعين، والذين سيبيعون للدولة أو لتلك المصانع مخلفات إنتاجهم الزراعي بدلاً من حرقها أو إهمالها، كما أن هذا التراجع في أسعار مدخلات العملية الإنتاجية الحيوانية، سيعني بالضرورة انخفاضاً في أسعار المنتجات الحيوانية، ليستفيد المستهلك النهائي في هذه الحالة..

هي حلقة من المستفيدين إذا، وجميعهم ينتظرون قراراً حكومياً جريئاً، ولن يكون بالمكلف مقارنة بما سيحققه من وفر، وبما سيتركه من انعكاسات ايجابية على مربي الحيوانات والفلاحين والمستهلكين من جراء هذا القرار، ولكن هل سنشهد اهتماماً وقراراً حكومياً بمثل هذه  الطروحات في المدى المنظور، أم أن هذا الطرح سيمر على مسامعهم وأبصارهم –هذا إن وصل إليهم أساساً- مرور الكرام..