طباعة
كيريل بينيديكتَف (مجلة رجال الأعمال الروس) ترجمة د. إبراهيم إستنبولي كيريل بينيديكتَف (مجلة رجال الأعمال الروس) ترجمة د. إبراهيم إستنبولي

الليبراليون الجدد يخونون الذاكرة.. أقاليم «غازبروم» و«روس نفط» بدلاً من روسيا والاتحاد السوفييتي..

قرر حكام روسيا الاحتفال بالذكرى الستين لرفع الحصار عن مدينة لينينغراد بطريقة فريدة من نوعها، ففي موسكو راحوا يهدمون قرية ريتشنيك، حيث تقف هناك إلى جانب الفيلات التي يبلغ سعرها ملايين الدولارات، منازل خشبية تعود للعجزة الذين عاشوا الحصار. وفي لينينغراد (بطرسبورغ حالياً)، قاموا أثناء تشييد «مركز أوختا» بتفكيك تمثال على شرف أبطال الحصار.

إذا كان شكسبير على حق في قوله بأن العالم بأكمله مجرد مسرح، والناس هم ممثلون فيه، فإنه يصبح صعباً علينا أن نتخلص من الشعور بأننا نمثِّل في مسرحية مكتوبة خصيصاً لمسرح اللامعقول، فهذه هي الكاميرات التلفزيونية تصوِّر لنا حفارات صفراء ماركة «كوماتسو»، وهي تدك جدران المنازل الفخمة المؤلفة من طابقين والباهظة الثمن، منطلقة في هذا من اعتمادها على الغريزة الطبقية لمشاهدي التلفزيون العاديين. وها هي وجوه العاملين على الحفارات والبلدوزرات منتشية ومفعمة بالإلهام. لدرجة يمكن أن نتخيل كما لو أنهم يستلهمون المبدأ القديم: «السلم للأكواخ، والحرب على القصور».

المحاربون القدماء

لكن الحقيقة تكمن في غير ذلك، لأنهم سوف ينسفون الأكواخ أيضاً – ولو بعد حين - ودون كاميرات تلفزيونية. وأحد تلك الأكواخ يعود للعجوز ذات الثمانين عاماً إيلينا ستيبا. ففي عام 1956 كانوا قد أعطوها مع زوجها، المحارب القديم، قطعة أرض صغيرة عند مصب نهر موسكو.. بداية أنشأ الزوجان هناك حاكورة وحديقة صغيرة، ثم شيدا بيتاً من طابق واحد لفصل الصيف.

وثمة الكثير من مثل هذه الأكواخ والبيوت على ضفة النهر، وما زال يعيش في البعض منها أولئك الذين حصلوا عليها في عام 1956، ومن بينهم 84 من المحاربين القدماء في الحرب الوطنية العظمى. أما عدد الذين عايشوا الحصار فأنا لا أعرف بصدق، لكن إيلنيا ستيبا وزوجها عاشا الحصار بكل تأكيد.

عندما كانا شابين (إيلينا كانت فتية جداً)، كانا من بين أولئك الذين راحوا يقيمون المتاريس في شوارع لينينغراد، تحسباً لاحتمال أن يتمكن الفاشيون من الدخول إلى المدينة. أما الآن فإن إيلينا وزوجها يخرجان إلى المتاريس التي أقامها أهالي البلدة في وجه المحضرين من المحكمة وضد عناصر القوات الخاصة «OMON» والبلدوزرات، ليس لحماية القرية من الفاشيين، وإنما لحمايتها من السلطات الروسية.

يمكننا فقط أن نتخيل كيف يمكن أن نظر إلى هذا الواقع المشوَّه أولئك الذين عاشوا واحدة من أكثر مآسي القرن العشرين بشاعة.

وللعلم فقط، في السابع والعشرين من كانون الثاني الفائت – أي يوم الاحتفال بذكرى رفع الحصار – توقفوا مؤقتاً عن هدم البيوت في القرية.. كنوع من التقدير للمحاربين القدماء، لكنهم عادوا واستأنفوا الهدم في اليوم التالي، دون أي حرج.

وأما في بطرسبورغ فالأمر أكثر فظاعة. فهناك كما هو معروف، يقوم كارتيل «غازبروم» ببناء ناطحة سحاب ضخمة، وقد أطلق الناس عليها على الفور لقب «بيت الذُرة»، (وقد سنحت لي الفرصة لأن أسمع تسميات لاذعة بدرجة أكبر بكثير). يجري بناء الناطحة في حي «أوختا»، الصناعي والكئيب بما فيه الكفاية، حيث كان يقوم سابقاً مصنع المدينة. وكان قد أقيم على أرض المصنع تمثال متواضع – عبارة عن مسلّة مصنوعة من حديد السفن الحربية مع لوحة رخامية مثبتة عليها- وقد حفرت على اللوحة الرخامية العبارة التالية:

«المجد للأبطال، عمال المصنع الذين ضحّوا بحياتهم في سبيل شرف وحرية واستقلال الوطن في الحرب الوطنية العظمى 1941 – 1945، خلال سنوات الحصار القاسية لمدينة لينينغراد. لتبقى ذكراهم حية في قلوبنا وفي قلوب أحفادنا».

كانت المسّلة في السنوات الأخيرة مهملة وملقاة على الأرض، لأن المصنع اشتراه في عام 2007 بعض المستثمرين الذين لم يكن من أولوياتهم الاكتراث بالتماثيل. وعندما نوت شركة «غازبروم» تشييد ناطحتها «بيت الذُرة»، قامت بتسليم اللوحة الرخامية إلى متحف المدينة للآثار (ومعها تمثال لينين الذي كان قائماً في باحة المصنع). وقد تمت الإشارة في وثيقة التسليم بوضوح لا لُبسَ فيه: «لا يوجد أي اتفاق أو وعد بإعادة نصب التماثيل المذكورة بعد الانتهاء من تشييد المركز الخدمي الاجتماعي».

ضحايا الحصار

لم يكن أحد يعلم بذلك لبعض الوقت، لأنهم قاموا بذلك بعيداً عن الأضواء وبطريقة سرية، ولكن الرأي العام عرف مؤخراً بقصة التمثال، فراح أهالي لينينغراد ممن عايشوا الحصار يطلبون مناصرة القضاء. لكن المحكمة قررت اعتبار المسلّة جزءاً من التراث الثقافي (العاديات)، وردّت طلب ضحايا الحصار. إلا أن الموضوع لاقى صدى واسعاً بعد أن وجّه النائب في مجلس المدينة عن الحزب الشيوعي الروسي سيرغي مالكوف استجواباً رسمياً إلى محافظ بطرسبورغ ماتفيينكو. ومالكوف يعتقد أنه من المحتمل أن توجد في المكان الذي كان يقوم فيه التمثال رفات العمال الذين استشهدوا أثناء قصف المدينة بالقنابل. فإذا كان هذا الأمر حقيقياً، وعلى الأرجح أنه حقيقي، لأن دفن الإنسان في لينينغراد تلك الأيام لم يكن بالأمر السهل (ففي ذلك الشتاء القاسي من عام 1941 كانت جميع المداخل إلى بوابة مقبرة سيرافيموف في المدينة مملوءة بالجثث المتجمدة)، فهذا يعني أن ناطحة السحاب «مركز أوختا» سوف ينهض على الهياكل العظمية بالمعنى الحرفي للكلمة.

لقد تعهّد المكتب الإعلامي لـ«مركز أوختا» للصحفيين بأنهم في «غازبروم» يخططون بعد الانتهاء من بناء «بيت الذرة» إقامة نصب تذكاري جامع «بقصد تخليد ذكرى أبناء لينينغراد بمن فيهم العمال، الذين قتلوا أبان الحرب الوطنية العظمى، وكذلك شهداء الدفاع عن الأراضي الروسية أثناء الحرب في بحر الشمال».

يكمن تفسير هذه الفكرة الطموحة في أن «مركز أوختا» يواجه معارضة مختلف الجهات الناشطة في هذا المجال: من مهندسين معماريين، وخبراء الآثار، واليونسكو, وأيضاً صحفيين والغالبية من سكان بطرسبورغ. لكن الواضح أن «غازبروم» سوف تحقق مبتغاها في جميع الأحوال، وسوف يرتفع «بيت الذُرة» البالغ ارتفاعه 400 متر بكل فخر واعتزاز فوق «تدمر الشمالية»، وذلك رغم صراخ المدافعين عن التراث الثقافي.

إلا أن الانتقادات المنهالة من جميع الجوانب قد أكلّت «غازبروم»، حسب الدلائل، ما جعل موظفي العلاقات العامة في الشركة يكادون يخرجون من جلودهم وهم يحاولون تحسين صورة الشركة. آه، هدموا التمثال؟ إذاً، سيقوم بدلاً منه واحد آخر جديد وأفضل! أفضل بكثير! بل مجمع متكامل من التماثيل! بشرط أن تكفوا عن الوزيز قرب الأذن.. 

الليبراليون الجدد بلا ذاكرة

أتعرفون ما هو الجانب الأكثر دناءة في هذه القضية؟

لو لم يدر أحد بموضوع تفكيك التمثال للعمال – الأبطال، لكانت «غازبروم» تفادت ببراعة صرح التماثيل. وهل هو ضروري؟ كل شيء رائع حتى من دون صرح. فشتان بين أربعمائة متر من الزجاج والفولاذ، وبين تصميم معدني بثلاثة أمتار مصنوع من صفيح السفن وبلوحة غير لائقة من الغرانيت.

ماذا تقولون؟ ضحايا الحصار؟  أي حصار؟ وأي ضحايا؟

ولكن، لنأخذ مثلاً، والد رئيس مجلس إدارة «غازبروم» الكسي ميللر. كان ميللر قد روى في إحدى المقابلات معه ما يلي: «جدّي لأمي.. أصيب بجرح خطير بالقرب من بلدة مخويا، ومات في المستشفى. كانت عائلتي تعيش كما كل البلاد: جداي حاربا، وأبي عاش الحصار».

أردتُ أن أقول إن الذين ينوون هدم الصرح وطرد المحاربين من بيوتهم لم يأتوا من كوكب آخر.

أيمكنكم أن تتصوروا حفيد أحد المعتقلين في معسكر أوسفينتسيم، الذي صار مليارديراً  ثم قام بشراء الأرض التي كان المعتقل قائماً عليها من أجل بناء مركز تسلية ولهو؟ وأنا أيضاً عاجز عن تخيّل ذلك.

علماً أن الأمر مع معسكر أوسفينتسيم، والحق يقال، أكثر تعقيداً بكثير: فالرأي العام العالمي لن يسمح بذلك. لأن كارثة أوسفينتسيم معروفة جيداً في جميع أنحاء العالم.

حتى إنه معروف أن الجيش السوفييتي هو الذي حرر المعتقل.

ولهذا نجد الصحفي في جريدة The Wall Street Journal المرموقة مارتسين سو تصباك يستشهد بمقالة «أوسفينتسيم: لا مبالاة المحرِّرين». وفيها شهادة النزيلتين في المعتقل سابقاً كازيميرا فاسياك وحنّة فارداك تعلنان أن الجنود السوفييت لم يساعدوهم بشيء: «لقد رجوناهم أن يعطونا ولو قطعة من اللحم، لكنهم قاموا فقط برمي العظام في الثلج».

من الواضح أن المقالة مأخوذة من صحيفة بولونية. إلا أنها ستصبح أيضاً في متناول يد قراء The Wall Street Journal.

لا بد أنكم تفهمون أنه من الصعب جداً نكران حقيقة أن الروس هم من حرروا أوسفينتسيم، وذلك نظراً للشهرة الدولية لـ«مصنع الموت» ذاك.

هل العالم مطلع بدرجة أقل بكثير على مأساة حصار لينينغراد؟ لا، هم كانوا يعرفون يوماً ما، إذ سبق وجاء ذكر الحصار في خطابات بعض الزعماء الغربيين، مثل ريتشارد نيكسون، كما أن المسؤولين عن الدعاية في الاتحاد السوفييتي السابق بذلوا الكثير من الجهد في سبيل نشر المعلومات بخصوص مأساة لينينغراد وبطولة المدافعين عن المدينة المحاصرة، إلا أن كل شيء انتهى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.

لقد سقطت قصة الحصار في ثقب أسود، كما هي الحال مع جزء كبير من تاريخ روسيا بشكل عام. ففي تسعينيات القرن العشرين كان الإعلاميون الليبراليون إذا ما ذكروا حصار لينينغراد، فإنما لكي يلقوا باللائمة مرة أخرى على السكرتير الأول لشعبة الحزب الشيوعي (البلشفي) في لينينغراد، الأمين والوفي لستالين الرفيق جدانوف، الذي كان أثناء الحصار «يشرب الخمر بكثرة، ويأكل كثيراً، ويلعب كرة التنس لكي يخفف من وزنه الزائد». وأيضاً لكي يتهموا ستالين ونظامه مرة أخرى بالوحشية: لو أنهم، كذا، قاموا بتسليم لينينغراد للألمان، لكان من الممكن تحاشي سقوط غير مبرر للضحايا. يا لها من سذاجة مذهلة – ما كان هتلر ليبقي على أحد حياً. ففي الوثيقة الصادرة عن قائد القوات البحرية الألمانية الموقعة بتاريخ 29 أيلول عام 1941 والمتعلقة بتدمير مدينة لينينغراد كان الكلام واضحاً: «يجب محاصرة المدينة بشكل محكم و.. ويجب تسويتها مع الأرض عن طريق القصف المدفعي ومن الطائرات، وأما محاولات تسليم المدينة فيجب رفضها بصورة قاطعة. فالهدف في هذه الحرب القائمة هو حق البقاء، لذلك لا مصلحة لنا في بقاء ولو جزء من السكان أحياء».

أهالي لينينغراد بين النازيين القدامى.. والجدد

كان الألمان يدركون مغزى ما هو حاصل عند مداخل لينينغراد بدرجة أفضل بكثير من مفكّرينا الليبراليين. الهدف هو «الحق في البقاء». وقد دافع أهالي لينيغراد عن حقهم في البقاء بفضل تضحياتهم الجسدية والروحية. أما في التسعينيات من القرن الفائت فقد صار الحديث عن بطولات المدافعين عن الوطن أمراً غير مطلوب: بل أصبحوا يتحدثون أكثر وأكثر عن سرايا العقوبات والجرائم الوحشية لعناصر وضباط قسم مكافحة الجاسوسية. 

فهل من المستغرب أن ينسى العالم بسرعة كبيرة حصار لينينغراد، طالما أننا في روسيا نادراً ما نذكره؟

كان عدد الذين قتلوا من جراء الحصار مليوناً ومائتي ألف إنسان. ماتوا من البرد والجوع والأمراض.. والصمود.

ومع أن محكمة نورنبرغ الخاصة بمجرمي الحرب كانت قد أشارت إلى أن عدد القتلى بلغ 650 ألفاً، إلا أن الأبحاث التي أجريت مؤخراً تشير إلى أنه تم تخفيض الرقم إلى النصف.. مليون ومائتي ألف شخص.

كان عدد السكان في مدينة لينينغراد قبل الحرب يبلغ حوالي ثلاثة ملايين شخص. وبعد رفع الحصار نهائياً عن المدينة لم يكن عدد السكان يتجاوز 560 ألف شخصاً. وإذا أضفنا مئات الآلاف الذين تم إجلاؤهم، فهذا يعني أن الباقين قد ماتوا بسبب الحصار.

أتذكرون دفتر يوميات تانيا سافيتشيفا؟

كان ثمة تسع صفحات دوّنت فيها التلميذة ذات الاثني عشر عاماً أسماء أقربائها الذين ماتوا وتواريخ وفاتهم. ومن بين تلك الأسماء نذكر: «ماما، 13 أيار، الساعة 7.30 صباحاً من عام 1942. مات جميع أفراد آل سافيتشيف. وحدها تانيا بقيت حية».

كان يُظَن بأن مثل ذلك الجرح لن يندمل لفترة طويلة جداً. فمن هو الذي يستطيع أن يمحو من ذاكرة الأمة مأساة بمثل هذا الحجم؟ 

وها هم يمحون

فالذاكرة التاريخية غير موجودة عند أولئك الذين يصدرون القرارات بهدم القرية في موسكو أو بإزالة التمثال في بطرسبورغ (لينينغراد). فكل ما له معنى بالنسبة لهم هو الربح الاقتصادي ودورة رأس المال والاستثمارات.

وأما مَن يقوم بتنفيذ تلك القرارات: مهندسون وعمال بناء، ورجال أمن – إنما تحرّكهم اعتبارات أخرى: الانضباط والتراتبية، وعدم الرغبة بمعارضة القيادة. لكن ذاكرتهم أيضاً ممسوحة.

ينشأ انطباع كما لو أن البلاد بأكملها خضعت لعملية استئصال الفص الجبهي.

فمدينة لينينغراد صمدت بالدرجة الأولى لأنها ظلّت في أحلك وأقسى الظروف مدينة حاملة للتراث والتقاليد الوطنية التاريخية. ففي شهر كانون الأول الرهيب من عام 1941 قام مدير متحف إرميتاج الأكاديمي أوربيلي بتنظيم لقاء احتفالي بمناسبة ذكرى مرور خمسمائة سنة على ميلاد الشاعر والعالم أليشير نافوي. وقد قام المستشرق نيكولاي ليبيديف بقراءة ترجماته لأشعار نافوي. وقد اضطر أصدقاء ليبيديف لحمله على أيديهم إلى القاعة.. كانت لديه أقسى درجة من درجات الهزال. وقد تعرضت المدينة والمتحف أثناء الاحتفال للقصف، إلا أن أحداً من الحاضرين لم يغادر القاعة. 

آخر.. وأعمق الكلام

قد يستطيع الإنسان أن يحيا بلا ذاكرة. لكنها ستكون عندئذ مجرد حياة عادية وبسيطة، إذ سيكون بمقدوره أن يأكل وأن يشرب، وربما أن يتكاثر، لكن بلاداً دون ذاكرة يكون مصيرها الزوال.

لذلك إذا ما ظهر على الخارطة بدلاً من روسيا بعد مرور عشرين سنة «إقليم غازبروم» أو «إقليم روسنفط» وغيرها من التشكيلات الاحتكارية، فالمذنب في ذلك سوف نكون نحن الذين نسينا تاريخنا. نسينا الحصار.

الموقع الرسمي لحزب الإرادة الشعبية.

جميع الحقوق محفوظة، kassioun.org @ 2017