«ديب سيك» الصيني يحرز خطوة جديدة نحو الاستقلال التكنولوجي
تستمر ثورة نموذج الذكاء الاصطناعي «ديب سيك»، في معامل البحث والتطوير بمدينة هانغتشو الصينية، حيث أطلق إصداره الجديد V3.1 وسط سباق تكنولوجي عالمي محتدم. وفي قلب هذه القصّة تقنية جديدة تسمى «UE8M0 FP8» وهي معادلة رياضية معقَّدة، لكن فكرتها بسيطة؛ جعل البرامج أكثر كفاءة في استخدام الموارد. هذه الترقية الجديدة انطلقت من اعتبار وطني صينيّ واضح، حيث إنّها مُحسّنة ومُعدّلة خصّيصاً للعمل بكفاءة قصوى على الرقائق الإلكترونية الصينية الصنع بالذات، مما يضعها في طليعة جهود بكّين لتعزيز نماذج الذكاء الاصطناعي المحلية وتعزيز السيادة والاستقلال التكنولوجي.
تعتمد معظم النماذج العالمية الكبرى على رقائق (GPUs) أمريكية مثل «إنفيديا»، بينما تسعى «DeepSeek» لتطوير نماذج تستفيد بالكامل من بنية الرقائق المحلية. كما يوفر النموذج وضعين للتشغيل، أحدهما يركز على الاستدلال، والآخر يركز على المهام غير الاستدلالية، مما يوفر مرونة أكبر للمطورين والمستخدمين. ويوفر قدرات معالجة ولغوية متقدمة للغة الماندرين الصينية، مما يجعله أداة قوية للشركات والباحثين داخل السوق الصيني.
وتضع ديب سيك نفسها كلاعب رئيسي في مواجهة نماذج عالمية مثل GPT وClaude، مع ميزة تنافسية تتمثل في التخصص العميق للسوق الصيني وتوفير حلول تتناسب مع بنيته التحتية المتاحة. ويسهم النموذج الجديد في تحفيز الشركات الصينية الأخرى لتسريع تطوير رقائقها وبنيتها التحتية الخاصة لدعم متطلبات الذكاء الاصطناعي المستقبلية.
هذا التطوير في الكفاءة يعني أن الشرائح الإلكترونية الصينية صار يمكنها أكثر فأكثر منافسة نظيراتها الغربية باستخدام طاقة حوسَبية أقل، وذاكرة محدودة، وحتى مع اعتمادٍ أقل على المعادن النادرة باهظة الثمن، رغم أنّ الصّين متفوّقة فيها أيضاً وتتمتع بوضع شبه احتكاري فيها.
ولإعطاء فكرة تقريبية عن القفزة، شبهها البعض بأنك تستطيع تشغيل فيلماً عالي الجودة على هاتف قديم كان بالكاد يعرض الصور! هذا تصوُّرٌ تقريبي مبسَّط لما تفعله هذه التقنية مع الذكاء الاصطناعي.
الصين تستخدم سلاح الكفاءة
هنا تكمن البراعة الاستراتيجية الصينية؛ فهي لا تعتمد فقط على زيادة إنتاج المعادن النادرة ووضع سياسات وطنية ناجحة ومؤثرة وموجعة في الردّ على العنجهيّة الأمريكية التي ليس لديها سوى سلاح العقوبات الذي لم يعد يجدِ نفعاً مع العملاق الصيني وصار يضرّ أمريكا نفسها أكثر مما ينفعها. وتعمل الصين على التوفير حتى في استعمال معادنها النادرة في مجال البرمجيات من خلال رفع كفاءة البرامج.
النموذج الجديد V3.1 يحتاج ذاكرة أقل بنسبة 75%
هذا يترجم مباشرة إلى: شرائح إلكترونية أصغر حجماً، واستهلاك أقل للطاقة، حاجة إلى كمية أقل من المعادن النادرة في التصنيع، وإمكانية تطوير ذكاء اصطناعي «أخضر» أقل استهلاكاً للموارد، وخلق نموذج تنموي مستدام يمكن تصديره لدول العالم.
وهذا التحول يحمل تداعيات استراتيجية عميقة على الغرب وخاصة الولايات المتحدة، التي تواجه مفارقة صعبة: فمطاردة الصين في سباق الذكاء الاصطناعي تتطلب استثمارات ضخمة في شرائح قوية تستهلك معادن نادرة بكميات كبيرة، إضافة لتكاليف مادية وبيئية متصاعدة لتأمين سلسلة توريد المعادن النادرة. بالمقابل تحوّل الصين المعادن النادرة إلى قوة تفاوضية. الصين
تقول للعالم: «يمكننا ليس فقط تزويدكم بالمعادن، ولكن أيضاً تعليمكم كيفية استخدامها بكفاءة أكبر».
المستقبل: نحو حوسبة مسؤولة
التقنيات مثل UE8M0 FP8 تمثل بداية اتجاه أوسع نحو «الحوسبة المسؤولة»، حيث يصبح تطوير البرامج جزءاً من الحل للتحديات البيئية والموارد الطبيعية. السباق التكنولوجي بين الصين والغرب لم يعد مجرد معركة على من ينتج أقوى الشرائح، بل تحول إلى من يطور أكثر البرامج كفاءة في استخدام الموارد الشحيحة.
التطبيقات الصناعية لنموذج «ديب سيك»
نظراً للانتشار المتزايد لدردشات المحادثة بالذكاء الصناعي (تشات بوتس) قد لا ينتبه بعض الناس إلى أنّ هذه هي مجرد واحدة فقط من التطبيقات الواسعة للذكاء الاصطناعي، بل وقد لا تكون أهمّها. فالذكاء الاصطناعي يدخل في تشغيل الروبوتات الصناعية الذكية ومعالجة بيانات ضخمة لاتخاذ قرارات صناعية واقتصادية هامّة. وتعمل الصين على
إدماجه في صناعتها لتصبح أكثر ذكاءً وأعلى إنتاجيةً.
فهناك العديد من الأمثلة العملية لتطبيق الذكاء الصناعي وخاصة نموذج ديب سيك الصيني في قطاعات الرعاية الصحية والدفاع والتمويل، مما يسلط الضوء على كيفية تحويل هذه التقنية للمشهد الصناعي الصيني.
الرعاية الصحية: تشخيص أدقّ وخدمات عن بُعد
أحدث نموذج «ديب سيك» ثورة في القطاع الصحي الصيني من خلال دمجه في البنية التحتية الطبية، حيث تم تطوير نموذج لغة طبية مفتوح المصدر مُدمج في الشبكات الداخلية لأكثر من 260 مستشفى في 93.5% من مقاطعات الصين.
أدى ذلك إلى دعم تشخيصي متقدم؛ حيث يساعد النموذج الأطباء في تحليل الأمراض وفحص الأمراض النادرة، مما يعزز من دقة التشخيص. لقد مكنت هذه القدرات «أطباء الذكاء الاصطناعي الافتراضيين» من تحقيق دقة تشخيصية تصل إلى 93%، وهي نسبة تطابق دقة الأطباء البشريين بل وتتفوق عليهم في بعض الحالات.
وفي قفزة جريئة، كشفت جامعة تسينغهوا الصينية عن مفهوم «مستشفى وكيل الذكاء الاصطناعي»، وهو يضم 42 طبيباً افتراضياً يغطّون 21 تخصصاً طبياً وأكثر من 300 نوعاً من الأمراض. ويعمل هذا النظام على تبسيط سير العمل السريري وتقديم توصيات آنيّة، مما يخفف من حدة نقص الأطباء ويحسن إمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية، وخاصة في المناطق النائية والريفية.
ووسّع «ديب سيك» نطاق الخدمات الطبية من خلال التطبيب عن بُعد والتوثيق الطبي. كما ساهم في أتمتة إنشاء التوثيق الطبي المُولَّد بواسطة الذكاء الاصطناعي، مما يحرّر وقت الأطباء للتركيز على الرعاية المباشرة للمرضى.
الدفاع والأمن: نحو سيادة «خوارزميّة»
تكشف الوثائق والمناقصات أن بكّين تسارع لدمج «ديب سيك» في منظوماتها الدفاعية، كجزء من استراتيجية لتحقيق «السيادة الخوارزمية» وتقليل الاعتماد على التقنيات الغربية.
أعلنت شركة «نورينكو» الصينية في شباط عن مركبة قتالية مسلحة (P60) ذاتية القيادة قادرة على تنفيذ مهام دعم قتالي باستخدام نظام «ديب سيك».
وتشير براءات الاختراع إلى تطور قدرات الطائرات المسيرة الذكية على التعرف على الأهداف والتعاون ضمن تشكيلات (سوارم) واتخاذ قرارات تشغيلية ذات تدخل بشري محدود.
كذلك تُستخدم النماذج المدعومة بـ «ديب سيك» لتحليل مئات السيناريوهات القتالية في ثوانٍ، ممّا يقلص الزمن اللازم لصنع القرار من أيام إلى دقائق، وهو تحوُّل يغيّر ديناميكيات التخطيط العمليّاتي العسكري بشكل جذري.
التأثير على الأسواق المالية
أثبت «ديب سيك» أنه ليس مجرد ظاهرة تقنية فحسب، بل لاعب اقتصادي قادر على إثارة اضطرابات في الأسواق العالمية، متحدياً الافتراض القائل بأن التطور في الذكاء الاصطناعي يتطلب بالضرورة إنفاقاً رأسمالياً ضخماً. فلقد أحدث تأثيراً مدويّاً على ثروات عمالقة التكنولوجيا، فتسبب ظهور «ديب سيك» في خسائر فادحة لكبار مليارديرات التكنولوجيا في العالم، حيث خسر أثرى 500 شخص ما مجموعه 108 مليارات دولار في يوم واحد. وكان الخاسر الأكبر جينسن هوانغ، المؤسِّس المشارك لشركة «إنفيديا» (عملاق الشرائح الأمريكية)، الذي انخفضت ثروته بأكثر من 20 مليار دولار.
وشهدت أسواق التكنولوجيا تراجعاً حاداً، حيث خسرت أسهم «إنفيديا» 17% من قيمتها (أكثر من 600 مليار دولار) متخلية عن مكانتها كأغلى شركة في العالم. وامتد هذا التأثير ليشمل شركات رقائق آسيوية مثل «كيسكو كورب» و«أدفانتست» في اليابان.
يكمن السبب الجذري لهذه الصدمة في حقيقة أن «ديب سيك» تحدّى نموذج الإنفاق الغربي بتطوير نموذج مجاني ينافس كبار اللاعبين بكلفة تطوير بلغت 5.5 ملايين دولار فقط، مقارنة بمئات الملايين أو حتى المليارات التي تنفقها الشركات الأمريكية. هذا الإنجاز دفع المستثمرين إلى التشكيك في المنطق وراء اعتماد وادي السيليكون على الإنفاق الرأسمالي الهائل.
وعود مستقبلية
تُظهر هذه التطبيقات أن «ديب سيك» ليس مجرد أداة محادَثة ودردشة مع الآلة، فلقد أصبح أساساً تكنولوجياً يدعم قطاعات صناعية حيوية في الصين؛ من تعزيز الكفاءة الطبية إلى إعادة تعريف القدرات الدفاعية وإثارة اضطراب في المعادلات الاقتصادية العالمية، يثبت هذا النموذج أن الابتكار يمكن أن يزدهر حتى في ظل القيود والعقوبات الغربية، ممّا يعزز طموحات الصين في تحقيق الاكتفاء التكنولوجي، وبناء نظام بيئي صناعي ذكي ومترابط، مما يضع الصين في موقع تنافسي قوي على خريطة القوى التكنولوجية العالمية المستقبلية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1250