الفوضى الأمريكية... والثالوث العراقي غير المقدس!

الفوضى الأمريكية... والثالوث العراقي غير المقدس!

«قلنا بأننا غير مهتمين بالحديث عن الانسحاب (من العراق)، لأننا لا نعتقد أنه ينبغي أن ننسحب»... هكذا يلخص جيمس جيفري، بالعنجهية الأمريكية المعهودة، مسألة الوجود الأمريكي في العراق.

يضيف جيفري، وهو المبعوث الأمريكي الخاص لسورية وكذلك المبعوث الخاص للتحالف الدولي لمحاربة داعش، في حديث أدلى به للصحفيين يوم الخميس، 23 كانون الثاني: «إن قرار البرلمان العراقي بإخراج القوات الأمريكية من البلاد غير ملزم، والاتفاق على الوجود الأمريكي في العراق جرى مع حكومة بغداد». كما أشار إلى أن بلاده لا ترغب حالياً في «الجلوس لمجرد الحديث عن الانسحاب من العراق»، وتابع موضحاً أنه إنْ كان أي حديثٍ سيجري بهذا الخصوص فإنه ينبغي أن يكون «شاملاً لكل جوانب العلاقة بين البلدين، بما في ذلك الدعم الدبلوماسي والمعونات الاقتصادية والمالية التي نقدمها للعراق، وكذلك الأجندة الإقليمية للعراق». أي إنّ جيفري لا يكتفي بالقول إن بلاده لا تريد الحديث في مسألة الانسحاب، بل ويهدد ويبتز بشكل واضح بأنّ أي حديث عن هذه المسألة سيتم التعامل معه من جانب واشنطن بعدائية مطلقة وشاملة، وهو الأمر الذي عبّر عنه ترامب صراحة حين هدد العراق في السادس من الجاري، بعد يوم واحد من قرار البرلمان العراقي إخراج القوات الأجنبية من العراق وعلى رأسها الأمريكية، بعقوبات اقتصادية «لم يسبق له أن شهد مثلها مطلقاً، عقوبات ستبدو معها العقوبات المطبقة على إيران، عقوبات لطيفة»، وهو التهديد الذي عاد ترامب إلى التلويح به من جديد يوم 22 من الجاري في دافوس، حيث أكّد أنه «لا يستبعد فرض عقوبات على العراق».
في السياق ذاته، أيّد نيجرفان برزاني رئيس إقليم كردستان الطروحات الأمريكية يوم الخميس الماضي خلال اشتراكه في مؤتمر دافوس، حيث قال: «إنّ قرار البرلمان العراقي غير الملزم بإخراج القوات الأجنبية من البلاد، لم يكن مدعوماً من النواب السنة والكرد». وأضاف: «نثق أنّ تحقيق هذا الهدف (محاربة الإرهاب) لن يتم دون دعم من المجتمع الدولي، والولايات المتحدة بشكل خاص. لذلك، فإنّ على الجنود الأمريكيين البقاء».
الرئيس العراقي برهم صالح، والمعروف بقربه من واشنطن، حافظ على مواقف تبدو من حيث الشكل وسطية بين من يقولون بالانسحاب، ومن يقولون بالبقاء، ولكنّ السلوك العملي له يصب بشكل واضح في سلة أنصار استمرار الاحتلال الأمريكي؛ ظهر ذلك في لقائه مؤخراً مع ترامب، والتصريحات التي أطلقها خلاله، وبشكل أكثر وضوحاً في تصريح مكتبه الإعلامي الذي أعلن يوم الخميس الماضي أنّه التقى الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولنبيرغ، الذي «جدد التزام بعثة حلف الناتو في العراق بواجباتها في مجالات التدريب وتوفير الدعم العسكري الذي تحتاجه القوات المسلحة العراقية»، أي ضمناً الالتزام ببقاء القوات الأجنبية والأمريكية خاصة.
على ضفة موازية، ظهرت دعوات متناقضة من زعماء عشائرَ في المناطق الغربية من العراق، ومن زعماءَ في الأنبار بوجه خاص، بعضها يطالب بخروج الأمريكي، وبعضها يطالب ببقائه، ومن هؤلاء الأخيرين رئيس مجلس النواب العراقي ومحافظ الأنبار السابق محمد الحلبوسي، ويجري ذلك كله بالتزامن مع تجدد نشاط داعش في المناطق الغربية من العراق بوجه خاص.

ما الذي تريده واشنطن؟

تعاني التركيبة السياسية السائدة في العراق، بما في ذلك تركيبة السلطات الثلاث التي أسس لها دستور بريمر، من قدرٍ هائل من التشوه القائم على تحاصص طائفي وقومي بين ثلاثة مكونات (الشيعة، السنة، الكرد). ضمن هذا التحاصص جرى توزيع رئاسات ثلاث على غرار النموذج اللبناني المسخ؛ في العراق، نظامٌ برلماني يكون الرئيس فيه كردياً بصلاحيات محدودة (بمقابل ما يشبه حكماً ذاتياً في إقليم كردستان)، ويكون رئيس مجلس النواب سنياً، ورئيس الحكومة شيعياً. وعلى غرار لبنان أيضاً، ورغم الوجود الشكلي لمؤسسات الدولة، وربما الوجود المبالغ به، فإنّ واقع الأمور أنه ليست هنالك دولة بالمعنى الفعلي، بل إنّ الأمر أقرب إلى مجموعة مافيات تحكم باسم الطوائف والقوميات، وتتحاصص فيما بينها نهب البلاد وشعبها وثرواتها، النهب الذي تلعب فيه هذه المافيات دور الوسيط للناهب الخارجي أكثر منه دور ناهبٍ «أصيل».
وإذا كان مما لا شك فيه بالمعنى الإستراتيجي أنّ واشنطن تحضر نفسها لمغادرة المنطقة بأسرها، كنتيجة للاختلال العميق في موازين القوى الدولية من جهة، وللأزمات الاقتصادية العميقة التي لم يظهر منها بعد سوى رأس جبل الجليد من جهة أخرى، فإنّ عملية الانسحاب هذه تمر في خطوتها الأولى عبر عملية إعادة تموضع يجري وفقها تقليص العدد المطلق للقوات الأمريكية في المنطقة، ولكن زيادة تواجدها النسبي في أماكن بعينها.
بما يتعلق بالعراق وسورية، وبالعراق بشكل خاص، فإنّ تكريس الانقسام العراقي الداخلي في الموقف من بقاء الأمريكان أو رحيلهم، يسعى إلى تكريس الثالوث العراقي غير المقدس ذاته (شيعة، سنة، كرد)، بوصفها مكونات لا يمكن التوفيق بين مصالحها، وصولاً إلى الدفع نحو أشكالٍ أكثر وضوحاً من التقسيم، ربما عبر اختراع إقليم جديد غرب العراق، وتنمية وتعزيز الطموحات الانفصالية التي لدى البعض في كردستان العراق.
انقسام حاد من هذا النوع، حتى وإنْ كان واضحاً لكل ذي بصر أنه لن يصل إلى النهايات المزعومة، (أي إنه لا يمكن أن يصل إلى تقسيم حقيقي للعراق بأية حال من الأحوال، لأنّ التوازن الدولي نفسه، والذي لم يعد الأمريكان حلقته الأقوى بأي شكل من الأشكال، سيمنع ذلك) ولكن رغم هذا التوازن، فإنّ انقساماً بهذه الحدة، سيفتح الباب مجدداً– من وجهة نظر من يخططون له على الأقل- لفوضى شاملة يعاد خلالها إحياء داعش وتسمح بمزيد من استنزاف خصوم الولايات المتحدة، ناهيك عن تعظيم جراح المنطقة ومعاناة أهلها التي يريد لها الأمريكي أن تكون بلا نهاية.

الصراع مع الإيراني

لعل أهم الأدوات السياسية التي يستخدمها الأمريكي في التأسيس للفوضى التي يريدها، هي تصوير الأمور بوصفها صراعاً على العراق بالوكالة أو بشكل مباشر بين الولايات المتحدة من جهة، وإيران من الجهة الأخرى. هذه الأداة تسمح لأتباع واشنطن أن يتشدقوا بالسيادة الوطنية بوصفها قضية ينبغي النضال لأجلها ضد عدوين يقفان على قدم المساواة في عدائهما للعراق، الولايات المتحدة وإيران!
واشنطن تعلم علم اليقين أنّه ليس من شعب ضمن شعوب المنطقة، ولا حتى أي جزء من شعب، يمكنه أن يتعامل مع الأمريكي بغير صفته التاريخية التي رسمها بدماء هذه الشعوب، دوره الحقيقي كعدو مبين لها جميعها، ولذا فإنّ الأسهل بالنسبة للأمريكي هو اختراع أعداء إقليميين يبدو بالمقارنة معهم، أحد أعداء المنطقة وشعوبها، وليس العدو الأساس.

«يسار» مشبوه

من الملفت في هذا السياق، ما يصدر عن بعض «القوى» التي تسمي نفسها يسارية، ونضع القوى بين قوسين لأنّ ما نعرفه عن كثير منها، وبحكم الاحتكاك المباشر، أن وزنها السياسي الحقيقي شديد التواضع، وإنْ كانت هي نفسها تفتقر إلى خصلة التواضع!
تتبع هذه القوى التسلسل المبسط التالي: نقطة الانطلاق التي لا مفر منها هي إعلان تأييد الحركة الشعبية، ومن ثم الدفاع عن استقلاليتها ضد الأمريكي والإيراني على حد سواء، وفي العتبة الثالثة إعلان الولاء لبعض ممثلي الثالوث غير المقدس، بذريعة أنّ هذا البعض يتخذ «موقفاً وطنياً ضد التدخلات الخارجية»، وبشكل خاص البعض المقرب من الأمريكان!
من ذلك ما جاء مؤخراً في بيان لإحدى تلك القوى (اليسارية) والذي تكيل فيه المديح للرئيس العراقي برهم صالح، لأنه وطني يرفض التدخلات الخارجية، ولأنه نصير حقيقي للحركة الشعبية، وهما صفتان لا نعلم على أي أساس جرى اختراعهما. في البيان نفسه، يمر سيل من السباب ضد عبد المهدي وحكومته وضد إيران والمليشيات الإيرانية، ولم يفت كاتب البيان أن يدين الاحتلال الأمريكي بشكل عابر... أي إنه يعمل وفقاً للوصفة الأمريكية في الهجوم على أمريكا وإيران بوصفهما عدوين متساويين للعراق، بل ولا يمنع نفسه من إظهار العداء لإيران بشكل خاص بوصفها عدواً أكثر خطراً من الولايات المتحدة...

إيران- واشنطن مرة أخرى

إنّ رفض التدخلات الخارجية في العراق بما فيها التدخلات الإيرانية، هو مطلب وطني حق، ولا غنى عنه إطلاقاً، ولكن الاتكاء على ذلك لتضليل الحركة الشعبية وقَسْمها والتعمية على عدوها الأساس أي الأمريكي، هو فعل خياني موصوف؛ إذ أياً تكن حجم المشكلات القائمة بين الجارين الإيراني والعراقي، فإنّ الحل هو حكماً بالحوار وبالوصول إلى تفاهمات وصيغ معقولة تخدم مصالحهما كليهما، وليس عبر افتعال عداء وحروب لا شفاء منها بين البلدين والشعبين (وهي تجربة مُرّة سبق أن عاشاها)، ذلك أنّ ما يجمع هذين الشعبين أكبر بكثير مما يفرقهما، ولعل أهم جامع بينهما هو عداؤهما المشترك لواشنطن، بل قل عداء واشنطن لهما، والذي لا يمكن الرد عليه بشكل تام وفعّال دون أكبر قدر ممكن من التفاهم فيما بينهما، لأنّ الأمريكي كان ولا يزال يستثمر في التقسيم وفي خلق العداوات بين الشعوب وضمن كل شعب على حدة، وعلى أسس طائفية وقومية ودينية وغيرها...
إنّ موقفاً سليماً ووطنياً وثورياً، لا يمكن أن يتأسس إلا على قاعدة تحديد واضح للعدو الأساس، وكل من يراوغ في هذه المسألة، وأياً تكن الأكاذيب التي يطلقها، وأياً تكن اللافتات والعناوين التي يتلطى تحتها، هو في النهاية عدو للحركة الشعبية، عدوٌ في لبوس صديق..

معلومات إضافية

العدد رقم:
950
آخر تعديل على الإثنين, 27 كانون2/يناير 2020 13:09