«السّيل الشمالي 2»  سياسة الطاقة الأوروبية تحدد في أوروبا
يزن بوظو يزن بوظو

«السّيل الشمالي 2» سياسة الطاقة الأوروبية تحدد في أوروبا

بينما تتذرع الولايات المتحدة بأمن الطاقة لأوروبا، تراه روسيا «منافسة غير عادلة»، أما ألمانيا وعموم الاتحاد الأوروبي فيعتبرون العقوبات الأمريكية على مشروع نقل الغاز الروسي المسال إلى أوروبا هيمنة وتدخلاً غير مرغوب فيه بالشؤون الداخلية، فما قصة «السّيل الشمالي 2»، وأبعاده السياسية؟

تمتلك روسيا أكبر احتياطي من الغاز الطبيعي المسال، وتعتبر المورّد الأساس لعدد من الدول الأوروبية منه، وتأتي الولايات المتحدة الأمريكية بعدها. في 2011، تمت الموافقة على إقامة «السّيل الشمالي 2» بين روسيا وألمانيا، الأمر الذي يعني تقليص الاستيراد من واشنطن لصالح موسكو، ويُعزى السبب الأساس فيه بالنسبة لألمانيا هو فرق التكلفة بين البلدين، حيث يعتبر الغاز الأمريكي باهظ الثمن بالمقارنة مع الروسي، فضلاً عمّا يتبعه من شروط وإملاءات، أكانت اقتصادية أم سياسية، تُفضي إلى تعزيز الهيمنة الأمريكية والتحكم بالسوق الأوروبية. مع تراجع الولايات المتحدة دولياً خلال السنين الماضية، وبروز الخلافات الأوروبية- الأمريكية على مختلف القضايا، باتت مسألة «المنافسة» تلك جزءاً من بعدٍ سياسيٍ وإستراتيجيٍ بالنسبة لكل من أمريكا وأوروبا وروسيا، كُلٌّ حسب مصالحه وخططه.

بلطجة أمريكية

ترى واشنطن اليوم أوروبا كساحة منافسة بينها وبين روسيا، ومع عجزها عن المنافسة بشكل «نزيه»، كأن تُخفض تكلفة سعر الغاز الأمريكي مثلاً، باتت تنتهج «البلطجة» كسمة عامة لسلوكها الدولي، فتقوم الولايات المتحدة اليوم باستخدام العقوبات عبر استغلال سلاحها الأساس، الدولار، لتعلن مع نهاية العام المنصرم فرض عقوبات على الشركات والشخصيات القائمة على عمل «السّيل الشمالي 2»، بعد أن شارف على الانتهاء ونفذت هذه الشركات ما يقارب 90% منه، بذريعة مساسه بأمن الطاقة لأوروبا، مما دفع بشركة «Allseas» السويسرية إلى تعليق أعمالها وسحب سفنها، وبمعنى آخر، عرقلة إتمام المشروع مؤقتاً.
تحدث الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي: «إنها ليست مجرد مسألة أمن طاقة، إنها مسألة جيوسياسية، إن الأمر يقوّي روسيا ويُضعف أوروبا»، لكن في الحقيقة، ما يعنيه زيلينسكي هو أنه يُضعف أمريكا، فأوروبا ورغم وزنها، إلا أنها بدولها لم تكن بالعقود الماضية سوى تابعٍ بالنسبة لواشنطن خلف مسمى «حلفائها»، فلا توجد مساواة بين أوروبا وأمريكا. ما يقصده زيلينسكي حقاً هو أن الأمر يقوّي روسيا وأوروبا ويُضعف أمريكا، فهو على الأقل يضمن علاقات اقتصادية بين روسيا وأوروبا من شأنها أن تزيد الترابط بينهما، وهذا ما يصب في مصلحة الطرفين، فهو يؤمن لروسيا علاقات تقوم على الثقة مع أوروبا، ويؤمن لأوروبا موارد أرخص للطاقة واستقلالية أكبر في اتخاذ قرارتها الاقتصادية.

المصالح الروسية؟

تختلف رؤية هذه المصالح والأبعاد حسب موقع الناظر إليها، فمن لا يزال يُفكر بفلك عقلية الفضاء السياسي القديم الذي صنعته واشنطن خلال فترة تفرّدها عرش العالم، يرى روسيا من منظور أحادي مُساوٍ لأمريكا ومصالحها بـ«الهيمنة» الدولية، مُتناسياً بذلك أن روسيا نفسها وبمصالحها التي تدفعها موضوعياً، تسعى إلى «كسر الهيمنة» الغربية عموماً والأمريكية خاصةً، وما يصاحبها من تهديدات أمنية ووطنية، عن نفسها أولاً- وبذلك ومع حلفائها- وعن باقي دول العالم، بما فيه أوروبا، وكان قد قال المتحدث باسم الرئاسة الروسية، ديميتري بيسكوف، رداً على العقوبات الأخيرة: « إن هذه التصرفات تمثل انتهاكاً مباشراً للقانون الدولي، ومثالاً صارخاً على منافسة غير نزيهة وبسط هيمنة مصطنعة على الأسواق الأوروبية، عبر إجبار المستهلكين الأوروبيين على شراء منتوج أغلى وغير قادر على المنافسة، هو غاز طبيعي أكثر غلاء»، وحول سلوك «البلطجة» الأمريكية هذا، قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف «لم أكن أتصور قط أن السياسيين يمكن أن يصلوا إلى مستوى مثل هذه القرارات غير المشرفة»، فهذان تصريحان يعبران عن الموقف الروسي ومصالحه الجيوسياسية خلف «السّيل الشمالي-2»، والذي يمكن اختصاره بأنه كسرٌ للهيمنة الأمريكية الأحادية على أوروبا.

الرغبة الأوروبية

تتلاقى تلك المصالح الروسية مع الأوروبية نفسها، حيث إن تراجع واشنطن دولياً يعطي أوروبا الفرصة لنزع الهيمنة الأمريكية، ويمكنها من نيل استقلالها. وما مشروع الغاز هنا إلا أحد المفاتيح والمؤشرات لهذه النزعة الأوروبية، وهو ما يدفع الولايات المتحدة للصراع معهم، فقد أكدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل معارضة بلادها للعقوبات قائلة «إننا نعتبر مثل هذه الممارسة لفرض عقوبات عابرة للحدود غير مقبولة»، وقال وزير الخارجية الألماني «إن سياسة الطاقة الأوروبية يتم تحديدها في أوروبا، وليس في الولايات المتحدة. ونرفض من حيث المبدأ الهجمات الخارجية والعقوبات من خارج الحدود»، لتعبّر تصريحات ألمانيا تلك عن هذه الرغبة، وما تقدمه روسيا من تعاونٍ في هذا الإطار.

فشل واشنطن

على الرغم من كل هذا الضجيج الآتي من العقوبات الأخيرة، إلا أنها لا تعني سوى «إعطاء دفعة للغاز الطبيعي المسال القادم من الولايات المتحدة إلى أوروبا» كما قال لافروف، أيّ كسبها لبعض الوقت. فعملياً لم يحدث تأثير لها إلا على شركة Allseas بسحبها لسفنها، وقال وزير الطاقة الروسي على إثر ذلك «لدينا إمكانية استكماله اعتماداً على وسائلنا الذاتية» وكان الرئيس فلاديمير بوتين قد أكد أيضاً أن «لدى روسيا سفناً متخصصة في مد الأنابيب، بمقدورها استكمال مدِّ أنبوب السّيل الشمالي 2»، أما على المستوى السياسي فقد قال وزير التنمية الاقتصادية الروسي، مكسيم أوريشكين، إن الضغوطات الأمريكية تعطي زخماً للتقارب ولتطوير العلاقات بين روسيا وأوروبا، مضيفاً: « كما تلاحظون هذا العام لدينا اتصالات أوسع مع أوروبا، ليس فقط من جانب قطاع الأعمال، لكن على المستوى السياسي أيضاً».
وأما من الداخل الأمريكي نفسه، فقد نشرت صحيفة «بلومبرغ» مقالاً يتحدث عن فشل الأمريكيين في منع إتمام مشروع «السّيل الشمالي 2»، ذاكرةً فيه أن العقوبات الجديدة- التي تم تبنيها في إطار مشروع قانون الدفاع الأمريكي- تأتي متأخرة على نحو ملحوظ، ولن تؤثر على بناء خط الأنابيب، و أن الولايات المتحدة الأمريكية الآن لا تملك الوسائل المناسبة لمنع استكمال خط الأنابيب بين روسيا وألمانيا، وبالتالي فقد ضاعت سنوات من الجهود المبذولة لمنع إقامة هذا المشروع.

معلومات إضافية

العدد رقم:
947
آخر تعديل على الإثنين, 06 كانون2/يناير 2020 11:59