تطوّر الانتفاضة في لبنان  تمرحلها وخلاصات أوّلية
محمد المعوش محمد المعوش

تطوّر الانتفاضة في لبنان تمرحلها وخلاصات أوّلية

يمكن القول بدايةً إن الحركة الشعبية التي شهدها لبنان طوال الأسبوعين الماضيين دخلت خلال الأيام الثلاثة الماضية في مرحلة جديدة، وتحديداً بعد استقالة رئيس الوزراء. فالحركة الشعبية المتصاعدة التي تمظهرت في الانتفاضة التي شملت أغلب المناطق اللبنانية بدأت تواجه تحديات جدية. وأهم هذه التحديات هو: دفع الحركة إلى التطييف والفتنة، والتشويش على ما بدأ يتبلور من شعارات وأهداف حملها الشارع، كمعارضة السياسات الاقتصادية الليبرالية المتّبعة منذ التسعينات عبر الإرتهان للمصارف وإملاءات البنك الدولي التقشفية المضادة لمصالح الأغلبية الشعبية، وتحديداً هدف استعادة الأموال المنهوبة. هذه التحديات من شأنها العودة إلى ما قبل الإنتفاضة، أي إعادة إنتاج إحداثيات الصراع السياسي بين أطراف السلطة، والانقسام العمودي بين مكونات المجتمع، في شكله الطائفي والمناطقي، بعد أن تبلورت ملامح انقسام أفقي طبقي واضح خلال الأيام الأولى من الإنتفاضة، ولكن في ظل الأزمة المنفجرة للنظام الاقتصادي والسياسة المالية.

الاتجاهات الفاعلة في الإنتفاضة

تميزت الانتفاضة بداية بطابعها العفوي العام، بالرغم من حضور ومشاركة مكونات لها تنظيمها وطروحاتها. وفي ذروة الانتفاضة نزل مئات الآلاف إلى الشوارع، وأغلقوا الطرقات الرئيسة وتمركزوا في ساحات المدن الأساسية كـ (بيروت، وطرابلس، وصيدا، وصور، والنبطية)، رافعين شعارات سياسية كرحيل السلطة وإسقاط النظام. هذه الشعارات ليست بجديدة على الحركة الشعبية في لبنان (حركة إسقاط النظام الطائفي مثالاً-2011)، ولكن الجديد هو بروز طروحات سياسية وجدت طريقها إلى وعي المنتفضين، تتجاوز (أو تتجاور إلى جانب) سلبية الشعار المتمثل بـ«إسقاط النظام»، نحو هدف إيجابي سياسياً، وهو تغيير السلطة والنظام الاقتصادي، والذي تمثل في الحكومة الإنقاذية التي تدير المرحلة الإنتقالية نحو الدولة القادرة والعادلة والمستقلة اقتصادياً، على الرغم من الاختلاف حول مكونات هذه الحكومة، التي اعتبرها البعض مثلاً حكومة «تكنوقراط» مكونة من خبراء واختصاصيين، واعتبرها البعض الآخر حكومة من خارج قوى السلطة، ومعبرة عن الخيارات الشعبية بالتغيير، من دون تبلور واضح لمكوناتها.
إذاً، هناك اتجاهان بقيا جنباً إلى جنب خلال تطور الإنتفاضة. الإتجاه العفوي من جهة، ومن جهة أخرى، الإتجاه نحو تنظيم الحركة الشعبية وتطوير مشروعها المستقبلي والمرحلي، وكيفية تحقيقهما عبر أطر سياسية واضحة تتكون من قوى سياسية محددة. ونقول بأن التناقض بين الاتجاهين هو الذي حكم تطور الانتفاضة وصولاً إلى مرحلتها الحالية.

عوامل قوة الاتجاه العفوي

العنصر الأول هو تاريخي- طبقي وموضوعي بامتياز، أي: مكونات القوى المنتفضة. فبنية الطبقة العاملة في لبنان تتميز في الغالب بالعمل الريعي والخدماتي، وتشتتها على مئات من المؤسسات. أمّا البقية هي إما من فئة المعطلين عن العمل، و«البطالة المقنعة»، وإما من الطلاب. هذا ما أفقد العامل التنظيمي الأوّلي للقوى المنتفضة (الذي تعززه تقليدياً الأطر النقابية، والانضباط الموضوعي للطبقة العاملة الصناعية مثلاً)، وملموسية طرحها، مما رفع من العفوية.
والعامل الثاني هو العامل الذاتي، أي: دور القوى السياسية الطليعية والتغييرية وكيفية رؤيتها هي لدورها هذا، ودرجة تأثيرها على مجرى تطور الانتفاضة. وباعتماد التوصيف المباشر، لم يظهر على الساحة السياسية مشروع ملموس ومكتوب يطرح الأهداف والخطوات الملموسة القادرة على تحقيق عملية التغيير، وضمناً مواجهة الأزمة التي يعيشها الاقتصاد اللبناني وبينته السياسية المأزومة والمتفككة. وليس المقصود المشروع العام فقط، بل كيفية تحقيقه عملياً. لاحقاً بدأت تظهر معالم خطوات عملية، متمثلة بالطرح الأنضج وهو الحكومة الانتقالية الإنقاذية ذات الصلاحيات الاستثنائية التي تهدف إلى التصدي للأزمة المالية والاقتصادية، وخصوصاً استعادة المال المنهوب، وعلاج قضية الدَّين العام (البعض اقترح إسقاط كلي لِدَين الدولة لصالح المصارف، والبعض الآخر طرح إعادة هيكلته، أو تخفيض فائدة الدَّين إلى حدٍّ إلغائها الكلي).
على الرغم من هذا التقدم (البطيء نسبياً) إلّا أن مكونات الشارع سادتها حالة من التشويش بخصوص الطرح، فبعضها بقي على شعار إسقاط السلطة (الرئاسة، الحكومة، ومجلس النواب)، والبعض الآخر اعتبر الحكومة الانتقالية هي حكومة تكنوقراط من اختصاصيين.
هذا التشويش والتخبط نابع من الموقع الذي تعاطت معه القوى الطليعية التي ساهمت في صياغة الطرح الأنضج، والتفاوت الذي شاب مواقفها وتكتيكها.
وأساس هذا الموقع: السياسة الانتظارية، حيث بقيت هذه القوى في موقع رد الفعل على خطوات السلطة، وتحديداً انتظار إسقاط الحكومة، ومن ثم لتبني عليها الخطوة اللاحقة. وعلى الرغم من أنَّ هذه القوى قدَّمت خطوطاً عامة لمبادرة انتقال السلطة بشكل سلمي، إلّا أن هذه المبادرات بقيت على الورق. إذ ظهر موقف متناقض في أداء قوى التغيير، فمن جهة تَمّ تقديم مبادرات (على الورق) لتغيير السلطة وتحقيق أهداف التغيير ومواجهة الأزمة، إلّا أنها بقيت في الحقيقة تمارِس الدور الانتظاري. ومن جهة أخرى، قامت هذه القوى بمجهود مباشر في الشارع من أجل تطوير شعارات التمركزات الشعبية والاعتصامات، ومحاولة تنظيمها من تحت، إلّا أن الدور السياسي المباشر «الفوقي» بقي مكبوحاً.

تبعات الموقف الانتظاري على تمرحل الانتفاضة

إن تجاهل تشكيل إطار سياسي معلنٍ وجامعٍ بين مكونات قوى سياسية وشعبية على مشروع الحد الأدنى القادر على التصدي لمهام المرحلة الراهنة، ويفتح الأفق نحو التغيير الشامل، كان من شأنه، أولاً أن يفقد الحركة الشعبية مبادرتها ويكبح هجومها السياسي، مع أنَّ الشارع أبدى استعداداً متقدّماً للهجوم. إن انكفاء الهجوم السياسي أبقى على وزن الشارع عالياً في الحركة الشعبية، مما سمح للسلطة في المرحلة الأولى بممارسة العنف لقمع الانتفاضة، ومن ثم الانتقال إلى التخوين والتضليل والتشويش، بعدما تحوّل العنف في الأيام الثلاثة الأولى إلى عامل رفع من زخم الانتفاضة. وتعاظم وزن الشارع، أدخل الحركة في حالة استنزاف.
كان لبقاء وزن الشارع مرتفعاً كمساحة التفاعل والأداة الأساسية لتحقيق الأهداف، معززاً لمخاطر استخدام السلطة لأدوات جديدة، كالدخول على خط الشارع نفسه من خلال الدفع بقوى بشرية مؤيدة لبعض أطراف السلطة، وهو ما قام به «الحزب التقدمي الاشتراكي» و«القوات اللبنانية» تحديداً. هذا التكتيك السلطوي هَدَف إلى ضربٍ الشارع بالشارع، ونقل التوتر بين المنتفضين والسلطة إلى توتر بين الناس أنفسهم. في ظل غياب الرؤية الجامعة والموحدة.
إضافة إلى ذلك، إن ترك المبادرة في يد السلطة، حوّل استقالة الحكومة إلى ورقة في يد السلطة (أو بعض مكوناتها)، فجاءت الاستقالة لتخلط الأوراق، وتشد عصب شارع تيار رئيس الحكومة هذه المرة، أي «تيار المستقبل». فنزل بعض مؤيديه إلى الشارع في عدة مناطق لكي يقطعوا الطرقات ويسيّروا التظاهرات، مما أضاف تشويشاً جديداً إلى المشهد. وتم الدفع من قبل هذا القسم من السلطة لكي يحرف النظر عن أهداف الانتفاضة، ويحولها إلى مواجهة بين مكونات السلطة وأحزابها. وتم الدفع بشعارات «إسقاط الرئيس» و«رئيس مجلس النواب». مما أعاد الشارع إلى إحداثيات ما قبل الانتفاضة، وتحديداً الطائفية منها، في ظل الضخ الإعلامي الذي لا يمكن مجاراته من قبل قوى التغيير. وبدأ الشارع خلال الأيام الماضية ينقلب إلى نقيضه لغير صالح الحركة الشعبية.

مهمات لا بدَّ منها

بالرغم من التأخر في المبادرة السياسية لقوى التغيير، إلا أن المخاطر المحدقة بالمجتمع ككل تتطلب تسريع الخطى ومراجعة القصور، وطرح الإطار السياسي التمثيلي ومشروعه، وتجاوز الاتجاه العفوي، وتجاوز عمل هذه القوى غير المنسق، والمستقل.

معلومات إضافية

العدد رقم:
938
آخر تعديل على الإثنين, 04 تشرين2/نوفمبر 2019 12:14