السودان المعركة لم تنتهِ بل تشتد

السودان المعركة لم تنتهِ بل تشتد

تطرح السودان أسئلة ولا تقبل الإجابات الجاهزة، هكذا تراكمت دروس التاريخ، تاريخنا القريب جداً، أمام الشعب السوداني، وهو اليوم بلا شك قَطَع خطوةً إضافية كانت دول المنطقة، التي شهدت ظروفاً مشابهة، قد تعثرت بها من قبل. 

سنحاول هنا إعادة بناء الأحداث من المظاهرات الأولى إلى التوقيع بالأحرف الأولى على الوثيقة الدستورية في 4 آب، علّنا نصل إلى استنتجات أولية تساعد في توضيح المشهد السوداني

لحظة الانفجار

شهدت السودان منذ 19 كانون الأول 2018 احتجاجات شملت معظم المدن السودانية، وكان ارتفاع أسعار الخبز والمحروقات المحرك المباشر لهذه الاحتجاجات، والتي أخدت شكلها الاقتصادي المطلبي في البداية لتضاف خلال فترة قصيرة، مطالب سياسية تهدف إلى تغيير النظام السوداني بشكلٍ كامل، ومحاسبة رموزه الفاسدة دون استثناء. وبالطبع لم يكن تعامل النظام السوداني مع هذه الاحتجاجات مختلفاً عن السائد وعن موروث أنظمة المنطقة، فجرى قمع هذه المظاهرات من قبل الميلشيات والأجهزة الأمنية وسقط عشرات القتلى، إلّا أن التظاهرات لم تخرج عن سلميتها وهذا ما دفع الأمور أبعد وبالاتجاه المطلوب.
في البداية، أجرى النظام مجموعة من الخطوات والمناورات، ففرض الرئيس عمر البشير حالة الطوارئ، وقام بتغييرات شكلية إدارية لم تر فيها قوى المعارضة تنازلاً بل بالعكس، اعتبرتها محاولات لإحكام السيطرة لا أكثر، هذا بالإضافة إلى أول دعوات شكلية للحوار، والتي قابلها الشارع بالرفض.

المطالب السياسية

بدا المشهد السوداني مشابهاً لنظائره في الدول العربية، إلا أن قوى المعارضة القديمة- الجديدة كانت تظهر بوضوح ضمن المشهد السياسي والإعلامي في وحدة مرحلية، وبمطالب واضحة تمثل الإطار العام لحركة الشارع، وأبرز تلك القوى «تجمع المهنيين السودانيين» وهو تجمع نقابات مستقلة، و«قوى الإجماع الوطني» وهي تحالف لـ 17 حزباً معارضاً، منها «حزب الأمة القومي»، و«الحزب الشيوعي السوداني»، و«الحركة الشعبية لتحرير السودان»، و«قوى نداء السودان»، و«التجمع الاتحادي المعارض»، و«حركة العدل والمساواة»، و«الجبهة الوطنية للتغيير». في 1 كانون الثاني من العام 2019 وقّع جزء مهم من هذه القوى على «إعلان الحرية والتغيير» والذي ضم 9 نقاط أبرزها: إبعاد البشير مع نظامه عن الحكم ، وإحلال السلام في السودان، وتحقيق تنمية اقتصادية وتحسين أوضاع المواطنين المتدهورة وتأمين الصحة والتعليم، والابتعاد عن الأحلاف في سياسة السودان الخارجية، وبناء هذه السياسة على أساس الاستقلالية والمصالح المشتركة، بالإضافة إلى إطلاق فترة انتقالية وإقامة مؤتمر دستوري.

تعلم الدروس وتجاوز الأخطاء

استخلاص العبر والتعلّم من دروس التاريخ ليس حكراً على الشعوب، بل تستفيد الأنظمة بدورها من هذه الدروس، وهكذا بدأت تحركات داخل تركيبة النظام السوداني والتي أفضت في 11 نيسان إلى انقلاب عسكري، حيث قام وزير الدفاع عوض بن عوف بتلاوة البيان الذي جاء بوصفه قراراً باسم «اللجنة الأمنية العليا وقواتها المسلحة»، وتعهد فيه بتحمّل هذه «اللجنة» كامل المسؤولية لتغيير النظام السوداني، وقال في إعلانه: «أعلن أنا وزير الدفاع رئيس اللجنة الأمنية العليا اقتلاع ذلك النظام والتحفظ على رأسه بعد اعتقاله في مكان آمن». حمل البيان 20 نقطة كان أبرزها: تشكيل مجلس عسكري انتقالي يتولى الحكم في الفترة الانتقالية، وإجراءات لحل مؤسسة الرئاسة ومجلس الوزراء والمجلس الوطني ومجلس الولايات وحل حكومات الولايات ومجالسها التشريعية، إضافة إلى إعلان حالة الطوارئ وحظر التجوال. كان رد الشارع والقوى المعارضة سريعاً ورافضاً لهذا الانقلاب، فتجارب المنطقة السابقة برهنت أن تغيير رأس النظام لا يعني تغيير النظام فعلاً، وهكذا انطلق الشارع وعلى رأسهم «الحرية والتغيير»، رافضين إعلان «اللجنة الأمنية العليا» معتبرين فيه محاولات من داخل النظام للالتفاف على الشارع، ومطالبين بتسليم الحكم لحكومة مدنيّة انتقالية. وهذا دفع الأمور إلى تصعيد، وبدأ من جديد الحديث عن حوار بوساطة أثيوبيا والاتحاد الإفريقي بين «المجلس العسكري» من جهة وقوى «إعلان الحرية والتغيير» من جهة أخرى.

«لعبة الكشاتبين»

لا نستطيع بالطبع عن طريق المعلومات المتداولة في وسائل الإعلام تكوين صورة كاملة عما يجري داخل النظام السوداني، وكيف ومن يقوم بإدارة الأمور، هذا إذا افترضنا بأن هناك من يدير الأمور أصلاً، لكن يمكننا استقصاء بعض القضايا الملفتة، والتي لا يجب إغفالها عند الحديث في المسألة السودانية اليوم.
أعلن وزير الدفاع عوض بن عوف بعد أقل من 24 ساعة من إعلان الإنقلاب استقالته، وتولى بعده الفريق الأول عبد الفتاح البرهان قيادة المجلس العسكري، وفي 13 نيسان أدى قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو الملقب بـ «حميدتي» القسم نائباً لرئيس المجلس العسكري الانتقالي، بعد أن كان أعلن في وقت سابق رفضه المشاركة في المجلس العسكري، وكانت قوات الدعم السريع (قوات أُنشِئت كميليشيا تقاتل لصالح الحكومة السودانية في دارفور، وأصبحت لاحقاً جزءاً من القوات المسلحة السودانية) مُتّهمة بالقتل والاعتداء على المتظاهرين السلميين بشكل متكرر، لكن «حميدتي» وضّح أنّ بعض الدول تعمل على «تشويه صورة قوات الدعم السريع» وأكد على محاسبة العناصر المسؤولة عن أعمال العنف، وأعلن في تصريحاته أنه رفض أوامر من البشير «بإبادة ثلث الشعب السوداني» وقال: إن دوره هو «حماية البلد والشعب» وليس النظام.
ومن أبرز وجوه النظام السابق قائد المخابرات السودانية صلاح قوش، الذي اتهمه البشير في 2012 بالتآمر وجرى اعتقاله ليطلق سراحه لاحقاً بسبب الضغوط الأمريكية المتعلقة برفع السودان عن قائمة الإرهاب، وهذا ما يؤكد الشكوك حول «قوش» بوصفه رجل الـ CIA الأول في السودان، قدم استقالته بعد إزاحة البشير– الذي لعب قوش دوراً محورياً فيه- وغاب عن الأضواء، ليوضع بعدها تحت الإقامة الجبرية، التي تبين وحسب تصريحات عبد الفتاح البرهان لاحقاً بأنها ليست «جبرية» بالحد الكافي، إذ قال البرهان «المجلس العسكري طلب من قوش البقاء في منزله لمواجهة أية اتهامات محتملة، ولكنه غادر السودان دون علمهم في المجلس العسكري، وأنهم غير راضين عن ذلك»، وكان «قوش» قال في تصريحِ لمجلة فورين بوليسي: «لو بقيت في منصبي سيرى الجميع الأمر و كأن نظام البشير لم يتغير».

توقيع على الوثيقة الدستورية

انتهت المفاوضات الشاقة بتوقيع قوى «الحرية والتغيير» و«المجلس العسكري» على الوثيقة الدستورية في 4 من الشهر الجاري، والتي تشكل بلا شك خطوة مفصلية، إلّا أن العديد من الأطراف المنضوية في «الحرية والتغيير» لديها ملاحظات كثيرة على هذه الوثيقة، تبدأ من اعتبارها خطوة ضرورية ولكنها غير كافية بذاتها، وليس وصولاً إلى اعتبارها وثيقة ضعيفة تعطي صلاحيات للمجلس العسكري تخوله للتحكم بالمرحلة الانتقالية واعتبارها لا تلبي الحد الأدنى المطلوب، وهذا دفع ببعض القوى إلى عدم التوقيع على الوثيقة أصلاً، أبرزهم الحزب الشيوعي السوداني و«الجبهة الثورية» (التي تضم 3 حركات مسلحة). وينص الاتفاق على فترة انتقالية تمتد لتسعة وثلاثين شهراً، وتتكون أجهزة الحكم الانتقالي من مجلس السيادة ومجلس الوزراء والمجلس التشريعي، ويتضمن الاتفاق أيضاً أن يشكّل مجلس السيادة من «أحد عشر عضواً، خمسة مدنيين تختارهم قوى إعلان الحرية والتغيير، وخمسة يختارهم المجلس العسكري الانتقالي، ويكون العضو الحادي عشر مدنّياً، يتم اختياره بالتوافق بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى إعلان الحرية والتغيير»، على أن يكون الواحد والعشرون شهراً الأولى برئاسة العسكريين، ويتولى المدنيون الفترة اللاحقة المتبقية.

الآفاق

تشهد الساحة في السودان هدوءاً مؤقتاً بعد توقيع الوثيقة الدستورية، ولا نستطيع استباق الأحداث، لكن المعطيات تثبت مجموعة من القضايا، أولها: المشاكل في السودان تراكمت وأصبحت بحاجة إلى الحل، وهذا يعني تراكم المشاكل في كل مجالات الحياة من الجانب الوطني إلى الاقتصادي الاجتماعي وإلى الجانب الديموقراطي السياسي. استطاع الشعب السوداني مع القوى السياسية تجاوز العديد من العقبات التي واجهته مستفيداً من تراكم الخبرات، لكنه بالمقابل يواجه أساليب النظام التي لا تنحصر بالأساليب التقليدية، فالنظام السوداني بلاشك لا زال يملك الكثير من الخيوط بيده، والعديد من رجالاته كانوا يدركون بلاشك ضرورة تغيير الرئيس عمر البشير، وهذا على ما يبدو كان الدافع الأساس لصلاح قوش للقاء جهات من المعارضة السودانية حتى قبل سنة ونصف من الاحتجاجات لمناقشة أمور تخص مرحلة ما بعد البشير. لا يعني هذا بشكل من الأشكال اعتبار ما يجري مجرد ترتيب منظّم ومعدٌّ مسبقاً للبيت الداخلي، لكنه إن كان يدل على شيء فهو يدل على أن مرحلة فرز قوى المعارضة السودانية قد بدأت مع توقيع الوثيقة الدستورية، وأن هذه العملية ليست عملية سهلة بالطبع، ولكنها عملية ضرورية لا بدَّ منها، حتى لو كان ذلك يعني شقاقات بين قوى المعارضة فهو دليل اشتداد المعركة لا أكثر، ويعني بالتأكيد نشوء القوى السياسية الصلبة التي تنتمي إلى فضاءٍ جديد جذري قادر على قيادة السودان إلى برِّ الأمان عبر نزع المسببات الحقيقية لكل أزماته.

معلومات إضافية

العدد رقم:
926
آخر تعديل على الجمعة, 23 تشرين1/أكتوير 2020 11:25