هل أدركت تركيا مصلحتها أخيراً؟

هل أدركت تركيا مصلحتها أخيراً؟

لم تهدأ الأحداث في الساحة التركية منذُ محاولة الانقلاب العسكري التي جرت في مثل هذه الأيام قبل حوالي ثلاث سنوات، فهذا البلد الإقليمي الذي بقيَ لمدةٍ طويلة يسير بمشيئة الولايات المتحدة الأمريكية، ينفضُ عن نفسه اليوم غبارَ سنواتٍ من التبعية، ويتمردُ في وجه من كان في زمنٍ ما شرطيّ العالم الأوحد.

فالساحة التركية اليوم تعيشُ مجموعة من الأحداث المركَّبة التي تتسارع وتيرتها بشكلٍ ملحوظ يوماً بعد يوم، فمن صفقة الـ«S400» إلى المشاكل العالقة بين تركيا وجزيرة قبرص، إلى حادثة اغتيال نائب القنصل التركي في شمال العراق، وغيرها من الأحداث والتبعات التي تشعل الملف التركي اليوم، وتجعله على قائمة الملفات الأكثر سخونةً، فما الذي يحصل في تركيا؟

«S400» أم ««F-35؟

كان على تركيا في وقتٍ من الأوقات أن تختار بين أحد هذين الخيارين، فإما منظومة الـ «S400» الروسية أو طائرات الـ««F-35 الأمريكية، وقد اختارت تركيا الأولى على الرغم من التهديدات الكثيرة التي طالتها من الولايات المتحدة الأمريكية جرّاء هذا القرار، واليوم وبعدَ وصول أجزاء من منظومة الـ«S400» إلى الأراضي التركية، بدأت الولايات المتحدة بالفعل بتنفيذ وعودها، حيثُ قامت بتجميد المساهمة التركية في صناعة المقاتلة ««F-35 ساعيةً إلى إلغاء الدور التركي كليّاً بحلول شهر آذار المقبل.
الحُجّة التي تلطّت الولايات المتحدة خلفها في سلوكها هذا، هي: أنّ وجود منظومة الـ«S400» قد يمكّن الطرف الروسي من سرقة معلومات عن المقاتلة ««F-35 وكشف أسرارها، علماً أنّ تركيا كانت قد طلبت من الولايات المتحدة إرسال فريق فنّي من حلف الأطلسي لإثبات هذه الحجة، إلّا أنّ واشنطن رفضت ذلك، فما كان من الطرف التركي إلّا أن يستنكر هذا التصرّف وحيد الجانب، والذي سيلحق ضرراً كبيراً بين البلدين وفقَ ما عبّر عنه أحد المسؤولين الأتراك.
ولعلّ أكثر ما يقضّ مضجع الولايات المتحدة في قصة الـ«S400» هو قدرة تركيا على الاستقلال العسكري عن حلف الناتو، عِبر التصنيع المحلّي من جهة وعدم الاعتماد على الغرب من جهة ثانية، وهو ما يعني فقدان الولايات المتحدة واحدة من أكثر آليات التبعية لديها، وهي: القدرة على احتكار التكنولوجيا وخاصةً العسكرية، فقد تعدّدت المصادر وتأمنت البدائل، ولم تعد هي وحدها المعنية بإنتاج أسلحة بتقنيات عالية، بل أصبحت في تنافسٍ عالٍ مع واحدة من أكثر الدول الصاعدة تقدماً بالمعنى العسكري والسياسي.

قبرص والعقوبات الأوروبية

تعاني الجزيرة القبرصية منذ العام 1974 من الانقسام بين شطرين، وهما ما يسمى بـ«جمهورية شمال قبرص» التي تقطنها أغلبية تركية، و«جمهورية قبرص» المعترف بها دولياً والتي تقطنها أغلبية يونانية. المشكلة بين تركيا وقبرص بدأت عندما أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن نية بلاده الاستمرار في أعمال التنقيب عن الغاز في شرقي المتوسط، معتبراً أنّ أبناء جلدته في شمال قبرص لهم حقوقهم ولا يمكن السماح لأحد بسلبها.
ردّ الفعل الأوروبي جاء على شكل حزمة من العقوبات، حيث نشر المجلس الأوروبي نص قرار يهدف إلى خفض التعاون مع تركيا على خلفية تنقيبها عن الغاز في المنطقة الاقتصادية الخاصة بقبرص، تضمّن النص: اقتطاع جزء من الأموال التي يقدمها الاتحاد لتركيا قبل انضمامها للكيان الأوروبي، ومراجعة أنشطة البنك الاستثماري الأوروبي للإقراض في تركيا، وتعليق المحادثات الجارية بين تركيا والاتحاد بخصوص اتفاقية الطيران، وعدم عقد مجلس الشراكة، واجتماعات أخرى تجري في إطار الحوار بين الاتحاد وتركيا.
ولكن ووفق ما عبّر عنه عضو لجنة مجلس الاتحاد الروسي للشؤون الدولية «أوليغ موروزوف» فإنّ هذه العقوبات تحمل طابعاً رمزياً ليس أكثر للدلالة على عدم رضى الاتحاد الأوروبي من السلوك التركي في قبرص. وبحسب خبراء روس فإنّ جملة هذه العقوبات لن تؤثر كثيراً على تركيا، فالمساعدات المالية المقدّمة لتركيا من الاتحاد الأوروبي لا تتجاوز 176 مليار دولار، إضافةً إلى أنّ فكرة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لم تعد هاجساً لدى الأتراك كما في السابق.

اغتيال نائب القنصل التركي

أعلنت وزارة الخارجية التركية، عن مقتل أحد موظفي قنصليتها في مدينة أربيل العراقية، جرّاء هجوم مسلح أثناء تواجده خارج مبنى القنصلية، وكان حزب العمال الكردستاني قد نفى مسؤوليته عن العملية، وما زالت التحقيقات جارية. ولكن بالنظر إلى عمق القضية يمكن التنبؤ بأنّ المستفيد الوحيد من هذه العملية هي الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يمكن استخدام مثل هذه العمليات من أجل تفجير الصراع التركي الكردي، واستنزاف الطرف التركي للحد الأقصى الممكن عبر اللعب على كافة المستويات سواء الاقتصادية أو العسكرية أو حتى السياسية الدبلوماسية.

حصار خانق... فما هو المتنفّس؟

القاسم المشترك بين كلّ ما ذُكر آنفاً هو: سياسة العقوبات والحصار الشديد الذي تطوّق به الولايات المتحدة الأمريكية بشكل أساس، حليفها التقليدي تركيا، فالاستدارة التركية باتجاه الشرق- والتي بدأت فعلياً منذُ الانقلاب العسكري التركي واستمرت صعوداً حتى اللحظة- تضرب على العصب الأمريكي، وتجعله يسير في طريق العقوبات والضغوط، سواء عن طريقها مباشرةً أو بالوساطة الأوروبية أو غيرها، أملاً في أن يستعيد التركي رُشده (بالنسبة إليهم) ويتخلّى عن تعاونه مع دول الشرق خصوصاً روسيا.
ولكن رغم كل ذلك، فكما تعودّنا دائماً ما تجد الدول التي تطالها سياط الولايات المتحدة الأمريكية بدائلاً جديّة تمثّل متنفّساً حقيقياً بالنسبة لها، ذلك المتنفس بالنسبة لتركيا اليوم هو الاستمرار في الاستدارة نحو الشرق، ورغمّ كل ما يمكن أن تدفعه تركيا ثمناً لهذه الاستدارة– وهذا طبيعيّ، باعتبار أنّ هذا البلد كان حتى وقتٍ قريب مرتبطاً للحد الأقصى بالأمريكان- فإنّ كلّ المؤشرات تدلّ على أنّ هذا السلوك يصبّ في مصلحة الأتراك ذاتهم قبل أي بلدٍ آخر، وهذا ما قد يشكّل بُشرى خير بالنسبة لسورية، كون استقرار المنطقة ضروري من أجل استقرار أي بلدٍ فيها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
923
آخر تعديل على الإثنين, 22 تموز/يوليو 2019 12:48