من عمّان إلى باريس... عودة الجماهير

من عمّان إلى باريس... عودة الجماهير

صباح الخير أيها الكوكب... آلاف الشباب المجردين من بيوتهم ووظائفهم احتلوا ساحات وشوارع عدة، وقد اجتازت أصوات الساخطين الحدود المرسومة فوق الخرائط. هكذا، دوت تلك الأصوات في العالم بأسره: «قالوا لنا: اذهبوا إلى لعنة الشارع! وها نحن فيه»، «أطفئ التلفزيون وشغِّل الشارع»، «لا نقص في الأموال، بل زيادة في اللصوص»، «الأسواق تحكم. نحن لم نصوِّت لها»، «إذا لم يتركونا نحلم، فلن نتركهم ينامون».

 

طالما أن الفقر والاستغلال واللامساواة والحروب والتلوث المناخي قد اجتاحت هذا العالم، بفعل المنظومة الاقتصادية القائمة، وعلاقاتها القائمة على الاستغلال والنهب، نهب دول المركز الرأسمالي لدول الأطراف، ونهب الحكومات البرجوازية لشعوبها. وطالما أن الشعوب بأسرها هي المتضررة والمقيّدة والخاسرة لحقوقها، ومع اشتداد هذا الوضع وتأزمه، فإن الوقت قد حان لعودة الجماهير إلى الشارع في سبيل التغيير. هذا ما نراه اليوم في العالم بأسره مع تصاعد الاحتجاجات في دول عدة، ورغم اختلاف درجة تعقّد ومستوى نضوج الأزمات بين دولة وأخرى بحكم موقعها في المنظومة إلّا أن جميع الشعوب متضررة، ونضالها هو السبيل الوحيد للتغيير الجذري لتلك السياسات التي لم يعد من الممكن تجميلها أو استمرارها أكثر.
فرنسا...رحيل ماكرون وسياساته
للأسبوع الخامس على التوالي في فرنسا، خرجت السترات الصفراء في مظاهرات احتجاجية، شارك فيها السبت الماضي حوالي 2،2 ألف شخص، انتقلت بمطالبها إلى مستوى سياسي أعلى من خلال المطالبة برحيل الرئيس إيمانويل ماكرون وتغيير سياساته تغييراً جذرياً، ذلك رغم عمليات القمع والاعتقالات التي تواجهها هذه الاحتجاجات.
ولم ينجح خطاب ماكرون الأسبوع الماضي، في لجم الاحتجاجات ومطالبها، رغم وعوده بتخفيف الضرائب عن العمال من ذوي الدخل المحدود، وإلغاء الزيادة الضريبية على معاشات المتقاعدين، ورفع الحد الأدنى للأجور، وإلغاء الضريبة عن ساعات العمل الإضافية ابتداءً من يناير 2019. فقد حاول ماكرون بذلك تحجيم الحركة الشعبية بمطالب محددة، رغم أنه بخطابه هذا اعترف ضمناً بشرعية الحركة التي يشكك فيها الكثيرون معتبرينها مؤامرة على شخص ماكرون من قبل حركات «اليمين»، أو من قبل واشنطن بسبب دعوته إلى إنشاء جيش أوروبي موحد.
الاحتجاجات الفرنسية ليست جديدة، لكنها اليوم تصبح أكثر تنظيماً مستفيدة من التجارب النضالية الماضية في فرنسا وفي دول أخرى، لذلك يبدو أن القائمين عليها لديهم رؤية محددة، ومن المرجح أنها لن تنتهي حتى الوصول إلى أهدافها. وانتقال هذه الحركة إلى دول أوروبية أخرى مثل: بلجيكا وهولندا وألمانيا هو نتيجة لوجود تناقضات مشتركة داخل جميع الدول الأوروبية، ناتجة عن نهب الحكومات البرجوازية الأوروبية لشعوبها، إن هذه الاحتجاجات تثبت بشكل واضح فشل ما يسمى الديمقراطيات البرجوازية في حكم شعوبها، وقد تتوسع هذه الحركات ضمن أوروبا كلها ويرتفع مستوى التنسيق فيما بينها بحيث تفضي في النهاية إلى تغيير جذري على مساحة القارة.
الأردن... مش ساكتين
استأنف الأردنيون احتجاجاتهم، إذ توافد يوم الخميس الماضي أكثر من ألف محتج إلى جوار مبنى رئاسة الوزراء في منطقة الدوار الرابع لتنفيذ وقفة احتجاجية، يطالبون فيها بإسقاط مجلس الأمة وحكومة عمر الرزاز التي جاءت قبل أشهر خلفاً لحكومة هاني الملقي، التي أسقطتها احتجاجات عارمة استمرت عدة أيام في منطقة الدوار الرابع نفسها. وذلك بعد أن تمت المصادقة على مشروع قانون ضريبة الدخل المثير للجدل، ليبدأ سريانه مطلع العام المقبل، وهو القانون ذاته الذي أثار في أيار الماضي موجة احتجاجات عارمة في البلاد انتهت بإسقاط الحكومة.
ورغم أن القانون بصورته الحالية رفع الحد الأقصى للدخل السنوي المعفي من ضريبة الدخل مقارنةً بالنسخة الأولى التي أثارت الاحتجاجات، إلّا أنه لا يزال يثير استياء شرائح عديدة في الأردن نظراً لارتفاع الأسعار والظروف الاقتصادية الصعبة التي عزتها الشعارات التي رفعت في الاحتجاجات إلى الفساد والنهج الاقتصادي.
وعلى غرار السترات الصفراء الفرنسية تسعى حركة الشماغات الحمراء الأردنية إلى تغيير النهج الاقتصادي في البلاد تغييراً جذرياً، وهو النهج المرتهن لصندوق النقد الدولي وشروطه، والقائم على نهب الشعب الأردني، الذي يبدو أن عملية ترقيع السياسات والتغيير الشكلي للحكومة لم تعد ترده عن تحصيل حقوقه.
لبنان... إلى الشارع
في بيروت، وفي ظل استمرار أزمة تشكيل الحكومة بعد سبعة أشهر على تكليف سعد الحريري برئاسة الوزراء، كانعكاس لأزمة نظام المحاصصة الطائفية، وكذلك المشاكل الاقتصادية والخدمية التي تمر بها البلاد، مثل: أزمة الكهرباء، والعجوزات في الحسابات الخارجية، شارك آلاف المواطنين بالإضافة إلى ممثلين عن عدة قوى سياسية ونقابية في تظاهرة نظمها الحزب الشيوعي اللبناني يوم الأحد 16/12/2018، انطلقت من أمام مصرف لبنان في الحمرا باتجاه ساحة رياض الصلح، في إشارة إلى أن الخطر على الاستقرار اللبناني مصدره الظروف الاقتصادية والمالية.
الشعار الذي اختاره المنظمون لهذا الحراك هو «إلى الشارع للإنقاذ... في مواجهة سياسة الانهيار»، في مسعى لأن يكون تدريجياً ومتصاعداً للوصول إلى تغيير السياسات الاقتصادية والاجتماعية.
يقول، حنا غريب، الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني: «إن البلاد أمام خطر كبير لم تشهده بتاريخها. تتعقّد جوانب الأزمة، في الوقت نفسه، أي: الخطر الإسرائيلي والخطر الاقتصادي»، وأن طيف تظاهرات السترات الصفر الفرنسية، حاضر في الدعوة إلى تظاهرة الأحد: «طبعاً شكّل ذلك دفعاً معنوياً، لأنّ المطالب كمجانية التعليم وتصحيح الأجور ورفض زيادة الضرائب... مطالب نرفعها منذ 30 سنة. حالياً في كلّ بلد ترتفع مطالب مُشابهة، وكأننا أمام حراك له طابع أممي».
نبض الضفة لا يهدأ
في فلسطين، ورغم كل محاولات تطويع الضفة الغربية، من خلال الأدوات «الناعمة» مثل: التنسيق الأمني، والمنظمات غير الحكومية المتكاثرة في مدن الضفة، أو من خلال الأدوات «القاسية» التي تمارسها دولة الاحتلال من خلال الاعتقالات، وهدم البيوت، وإغلاق المؤسسات، ومصادرة الأراضي، فإن نهج المقاومة وإرادة الشعب بالتحرر من الاحتلال عصية على الكسر، إذ شهدت مدن الضفة الغربية في الأيام الماضية تصعيداً ضد الاحتلال، لتتناغم مع أعمال المقاومة الجارية في غزة.
عمليات عدة نفذها الفلسطينيون مؤخراً في الضفة، أكدت للعدو أن المقاومة ستظل حاضرة على امتداد خارطة الوطن، وعلى عدم وجود ضمان لهدوء مستمر، وفشل الإجراءات الأمنية للاحتلال. ستة مستوطنين أصيبوا في إطلاق نار قرب مستوطنة عوفرا شمال شرق رام الله، دفعت الاحتلال إلى اغتيال الشهيد صالح البرغوثي، ومن ثم الشهيد أشرف نعالوة الذي كان قد نفذ عملية إطلاق نار قبل أكثر من شهرين، في المنطقة الصناعية «باركان» جنوب نابلس، أسفرت عن مقتل مستوطن ومستوطنة، وإصابة ثالثة. ومن ثم في عملية أخرى قتل جنديان «إسرائيليان»، وأصيب اثنان آخران، خلال عملية إطلاق نار قرب سلواد في رام الله.
هذه العمليات دفعت دولة الاحتلال إلى فرض طوق أمني شامل على مدينة رام الله والبيرة، وتشديد الإجراءات في القدس، بينما دعت منظمة التحرير وحركة «فتح» للتصدي للقوات «الإسرائيلية»، ودعت «حماس» للنفير العام، من جهتها ردت «كتائب القسام» التي تبنّت العمليات الأخيرة في بيان لها: «لا يزال في جعبتنا الكثير مما يسوء العدو ويربك كل حساباته»