إسبانيا: نموذج التخبط الأوروبي المستمر
جواد محمد جواد محمد

إسبانيا: نموذج التخبط الأوروبي المستمر

مما لاشك فيه أن الأزمات المتراكمة في أوروبا هنا وهناك، من اليونان إلى البرتغال مروراً بعدة دول أوروبية أخرى، أبرزها: إيطاليا وإسبانيا تطرح بشكل جدي جدوى استمرار الاتحاد الأوروبي كمؤسسة، والتي بطبيعة الحال باتت منقسمة على نفسها وغير فعّالة في الكثير من تلك الدول التي تعتبر طرفية فيها، وذلك في عصر انكماش الهيمنة الغربية عموماً والأمريكية خصوصاً.

إن حالات الاستعصاء الاقتصادية والسياسية مفهومة في تلك الدول الطرفية كاليونان والبرتغال، ولكنها تصبح مدعاة لإعادة التدقيق عندما تتجذر وتترسخ في ثالث ورابع الاقتصادات في منطقة اليورو، وهما إيطاليا وإسبانيا التي باتت تعاني من مشاكل تتمظهر في أشكال مختلفة.
إسبانيا والتخبطات الداخلية
ظهرت في الأيام القليلة الماضية مشكلة هيكلة ميزانية المملكة لعام 2019، والتي يفضل فيها رئيس الوزراء الحالي الاشتراكي، بيدرو سانشيز، رفع الحد الأدنى للأجور الأمر الذي أثار حفيظة دعاة التمسك بخطة الإنقاذ الأوروبية، في سبيل استجلاب المزيد من القروض، خصوصاً أنّ الحزب الحاكم لا يملك سوى 84 مقعداً برلمانياً من أصل 350، الأمر الذي يعتبر مشكلة دستورية جدية لرئيس الوزراء الحالي، مما يدفع البعض للاعتقاد باحتمال اللجوء إلى إجراء انتخابات مبكرة، ولا سيما في ظل وجود برلمان لا يحتوي أية أغلبية يمينية أو يسارية.
يُذكر أن الحكومة الحالية استلمت الحكم في الأشهر القليلة الماضية بعد حجب الثقة عن الحكومة السابقة، مما يعني احتمالية توارد ثلاث حكومات في أقل من سنتين، مما يعكس أيضاً حالة لا استقرار سياسية تعيشها إسبانيا.
أزمة جبل طارق
للمرة الأولى ومنذ الإعلان عن نتائج استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي في بريطانيا، وقبيل التوقيع على الاتفاق بين الجانبين الذي جرى يوم الأحد الماضي، ظهرت إلى السطح مشكلة الخلاف حول جبل طارق بين الجانبين الإسباني والبريطاني، حيث سحب رئيس الوزراء الإسباني تهديده باستخدام الفيتو ضد الاتفاق، بعد حصوله على ضمانات خطية من بريطانيا والاتحاد الأوروبي تتيح حل المشكلة التي مضى عليها أكثر من 300 عام، حيث تعتبر بريطانيا الجبل خاضعاً لسيادتها بموجب معاهدة «أوترخت» لعام 1713 الأمر الذي يثير حفيظة الجانب الإسباني، حيث يملك الإسبان ميزات فريدة موثقة دستورياً في الجبل والإشراف الإداري على بعض المسائل، لكن رغم التوصل إلى الاتفاق المبدئي حول هذه المشكلة، إلّا أن رئيس وزراء جبل طارق فابيان بيكاردو، أعلن صراحةً أن بريطانيا ستحتفظ بالسيادة على جبل طارق، ما يعني أن الوعود التي قدمها الجانب البريطاني هدفها المرحلي ضمان موافقة مدريد على اتفاق «البريكست»، وأن الخلاف سيبقى قائماً وربما ستترفع وتيرته لاحقاً.
إن هذه المشاكل الإسبانية هي في واقع الأمر انعكاس لما هو أعم وأشمل، يتربص بأوروبا كلها، ويتمثل بتراجع تلك الهمينة الغربية عموماً والأمريكية خصوصاً، والتي كانت تتيح للأوروبين التغاضي عن تلك الإشكالات، وذلك نظراً للرتم المتضطرد في النمو الاقتصادي في حقبة الهيمنة الغربية.
إن تجذُّر مثل هذه الإشكالات في رابع اقتصاد في منطقة اليورو، يشي بإمكانية تجذرها في اقتصادات الصف الأول، والتي هي بطبيعة الحال ليست مستقرة بعد الاحتجاجات الأخيرة في فرنسا وبلجيكا. إن الخروج من عباءة التبعية لتلك القوى التي تدفع الكل للاشتباك بالكل، والتوجه نحو تلك القوى الأقرب جغرافياً، بالتالي اقتصادياً، بات السبيل الوحيد للخروج من تلك الأزمات التي ولدتها التبعية للقطب المتراجع.