(ملاك) البيت الأبيض.. وعنوان الشراسة الإعلامية

(ملاك) البيت الأبيض.. وعنوان الشراسة الإعلامية

قام الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب في سياق حملته الرئاسية الانتخابية عام 2016 بإعطاء الكثير من الوعود والتصريحات التي كانت تهدف في المحصلة إلى شرح برنامجه السياسي وتوضيحه بغية جذب ما أمكن من أصوات الناخبين.

ترامب، ومنذ تعيينه كرئيسٍ، عمل بسلوكه الفعلي وبالمحصلة على تنفيذ ما وعد به، لكن كل شيء كان مصحوباً بصخب إعلامي واستعراضي، وبسلوك متذبذب، بغية التشويش على حقيقة أن أمريكا ينخفض وزنها الفعلي على الخارطة الدولية، وتنسحب من مواقعها المعتادة، وتشهد انقسامات في مؤسساتها الحاكمة.
سوبرمان أمريكي؟
ترافقت الحملة الانتخابية الرئاسية مع الكثير من التغريدات على صفحة ترامب الرسمية على موقع تويتر ذات الصلة بمختلف القضايا الداخلية والخارجية، فمن مسألة انسحاب القوات الأمريكية من بعض نقاط تمركزها العالمية، وإغلاق القواعد العسكرية «الكثيرة» على حد وصفه ولا سيما في سورية، مروراً بتصريحات ذات طابع وُدّي تجاه القوى الدولية الصاعدة، وصولاً إلى وقف أغلب التمويلات الخارجية، وانتهاءً ببعض التصريحات التي توحي بدعوة ما للتقوقع نحو الداخل الأمريكي اقتصادياً وتجارياً.
إن ما نريد التأكيد عليه هو التالي: لا يوجد سوبرمانات سياسية أمريكية إلا في سياق تخديم البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحاكمة، وإن تعددت الأشكال والألوان والرايات، بعبارة أخرى ما تعرضه الميديا الأمريكية أو المملوكة أمريكياً، لَمْ ولا ولَنْ يكون خارج الحدود الإعلامية الموضوعة سواء كان الرئيس ترامب أم غيره.
وهنا نود أن نشير إلى شخصيات، مثل: الرئيس الأمريكي السابع أندرو جاكسون الذي قام وللمرة التاريخية الوحيدة ولمدة سنة واحدة فقط (1836- 1837) بتصفير الدين الأمريكي، وتأريض سلطة البنوك جزئياً فتم التشهير به، فيما قام جون كيندي الرئيس الخامس والثلاثين للولايات المتحدة بمحاولات جدية للتقرب من الاتحاد السوفييتي فلاقى الاغتيال، ومع ذلك كانت الشخصيات المذكورة وبطرق مختلفة تعمل في إطار البنية الحاكمة التي تطورت على مدى تاريخ الولايات المتحدة الحديث، هؤلاء يمكن اعتبارهم سوبرمانات سياسية مجازياً.
مقاربات
يستطيع أي مِنّا الولوج إلى صفحة الرئيس الأمريكي الحالي الرسمية على موقع تويتر ومراجعة تغريدياته فيما يخص روسيا أثناء الحملة الانتخابية، حيث كانت بمجموعها تسعى إلى إانتهاج موقف إيجابي منها، الأمر الذي يعتبر غير محمود في الوسط الأمريكي السياسي.
مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض وتسلمه لمنصبه، تم فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية التي بدأها سلفه أوباما على روسيا مع المزيد من التجييش العسكري في أوروبا الشرقية، استمراراً للسياسات السابقة مع عدم حدوث أيةِ تغيرات في الموقف من المسألة الأوكرانية، لكنه ورغم كل الهجوم الإعلامي عليه عقد قمة هلسنكي التاريخية مع الرئيس بوتين، وعبّر في ختامها عن توافقات كثيرة تجمع بين الرئيسين.
وبالمقارنة بين الأقوال والأفعال يمكن القول: إن الكثير من الأقوال هي نوع من تشويش الصورة، والتخبط والانقسام الأمريكي الذي يعكس التراجع.
إن السّمة العامة التي يمكن نعت توجهات ترامب المعلنة بها هي التقوقع نحو الداخل اقتصادياً وسياسياً، وهذا ما كان قد أعلنه مراراً أثناء حملته الانتخابية، الأمر الذي تمثل أيضاً بفرض رسوم جمركية مختلفة على القطاعات الصناعية الرئيسة كافة التي تتخلف فيها الولايات المتحدة عن نظيراتها الألمانية واليابانية والصينية سواء من حيث الجودة أو السعر.
بين التصريحات والوقائع
في سياق قيام ترامب بمحاولة تطبيق ما أمكن من سياساته التي كان يصرح بها خلال حملته الانتخابية، لا شك سيصدم بممثلات تلك القوى المعادية لتوجهاته، ولكن وفق مناهج «الديمقراطية الأمريكية»، والتي صيغت لضبط عمليات الخلاف بين قادة المجتمع الفعليين، وعليه يمكن التأكيد على ما يلي:
أولاً: إن أيّ رئيس أمريكي مهما بلغ من الحنكة والذكاء لا يمكن أن يتصرف خارج تلك الخطوط التي تحددها القوى الحاكمة في الولايات المتحدة، والتي هي اليوم بطبيعة الحال ليست موحدة ومستقرة على رأي واحد، ولا سيما في المسائل المتعلقة بقضايا إعادة توزيع الثروة وتوجيه السياسات الاقتصادية العالمية.
ترامب ليس استثناءً من هذه القاعدة- دون أن نعني أنه لا يوجد أي هامش متاح للرئيس لخروجه عن المعهود سياسياً- ولكن وصول شخصية جدلية مثل ترامب إلى قيادة البيت الأبيض- ونعني بالجدلية: شخصية أقل انضباطاً ودبلوماسية وأكثر شعبوية– تعني جدياً أن الأمريكيين مثل أقرانهم الأوروبيين بدأوا بالبحث عن خيارات جديدة تختلف عن تلك البنى التقليدية، والذي يعبر عن حالة سأمٍ سياسية عامة على المستوى الشعبي.
ثانياً: إن رفع شعار «اجعلوا أمريكا عظيمة من جديد» من قبل ترامب أثناء حملته الرئاسية دليل أكثر من جدي، ومؤشر حقيقي على تذكر السياسيين الأمريكيين على أن الولايات المتحدة لم تعد كالسابق من حيث القوة والوزن، ومن جهة أخرى فإن هذا الشعار شعبي وموجه إلى الشرائح الشعبية مباشرة، الأمر الذي ينم على أن الشعب الأمريكي يعي مسألة التراجع الأمريكي ولا بد للبحث عن بدائل لحلها أمريكياً.
ثالثاً: إن المؤسسة الإعلامية الأمريكية لا ترف لها العين في سياق استثمار أيةِ مسألة بالاتجاه الذي يخدمها إعلامياً وسياسياً، وشخصية الرئيس ليست استثناءً من هذه القاعدة، حيث يتم توظيف مواقف وتصريحات الرئيس في إطار التأثير على الحلفاء والأعداء، سواء كانت تلك التصريحات ممكنة التنفيذ أم لا، إذ تم استثمار تصريحات ترامب إلى الحد الأقصى إعلامياً في مسألة التجييش باتجاه ضرب سورية، والتأثير على الدول الخليجية لدفعها للقيام بصفقات مليارية، ومحاولات الضغط المستمرة على كل من روسيا والصين، علماً أن المؤسسة الإعلامية تعي جدياً أن أغلب هذه التصريحات غير واقعية.
إن إجراء أبسط أشكال المقارنات بين ما يعلنه المرشحون للرئاسة الأمريكية وبين ما يجري على أرض الواقع بعد استلامهم، يوضح الكثير من المسائل، ويساعد على التمييز بين القرارات الجدية والمواقف الحقيقية من تلك الاستعراضية، ويوضح مدى درجة التراجع الأمريكي، حيث يعكس اللجوء إلى الإعلام ورفع مستوى الاعتماد عليه عن عدم فعالية الوسائل السياسية والاقتصادية والعسكرية التقليدية.