قزوين: في منحى التكامل الإقليمي
جواد محمد جواد محمد

قزوين: في منحى التكامل الإقليمي

في منتصف شهر آب الجاري، جرى الاجتماع الخامس لمجموعة الدول الخمس المطلة على بحر قزوين في كازاخستان، لينتج عنه اتفاق خطي مُوقّع بين تلك الدول هو الأول من نوعه في هذا السياق.

ظهرت المشكلة بين الدول القزوينية وهي: تركمانستان، إيران، أذربيجان روسيا، وكازاخستان منذ تفكك الاتحاد السوفييتي، والتي كانت كل الدول المذكورة باستثناء إيران جزءاً منه، حيث وُضعت اتفاقية بين الاتحاد السوفييتي وإيران لترتيب العلاقة بينهما فيما يخص بحر قزوين، وبعد تفكك الدولة السوفييتية أُلغيت الاتفاقية القديمة نظراً لظهور دول جديدة على شواطئ البحر المذكور وهي تركمانستان وأذربيجان وكازاخستان.

مقدمات التوافق
وباعتبار روسيا خلفاً للدولة السوفييتية المنهارة من الناحية القانونية، فقد منع ذلك الجميع من البدء في إنشاء مشاريع اقتصادية جدية وضخمة على شواطئ البحر المذكور، مع التقنين في عمليات الاستثمار في صيد السمك والكافيار والاستخراج والملاحة وبناء خطوط نقل النفط.
عُقدت فيما مضى 4 اجتماعات بين الدول القزوينية كان أولها عام 2002 في عشق آباد التركمانستانية، ثم سنة 2007 في إيران، في حين عُقد الاجتماع الثالث في باكو عاصمة أذربيجان عام 2010، بينما كان الرابع في روسيا عام 2014، لتكون بمجموعها دون نتائج ملموسة وجدية يمكن الاعتماد عليها، إلا أنّها كانت تساهم في أمرين مهمين وأساسيين هما أولاً: النمو المضطرد في التجربة السياسية للدول المنخرطة في هذه الاجتماعات فيما يخص بحر قزوين، وثانياً: انتظار اللحظة التاريخية التي تسمح بتوقيع اتفاقٍ جدي بين الدول الخمس، وعزل تلك التدخلات المضرة التي كانت تحاول جاهدة منع حصول أية اتفاقيات إقليمية كبيرة في أي إقليم كان بمعزل عن وجودها.

فحوى الاتفاق الجديد
إن ما يدفعنا للقول عن الاتفاق الحالي بأنه مهم وجدي وغير مسبوق في هذا الإطار هو وضعه لتلك الأطر القانونية اللّازمة لحل تلك المشاكل الكامنة بين هذه الدول دول حل المشاكل بنفسها، أي: أنه تعدى تلك النواحي التقنية التي تُحل على مستوى الاختصاصيين، وبالرغم من أن الاتفاقات الموقعة بين الأطراف لم تُعلن بشكل رسمي إلّا أنه يمكن التأكيد على ما يلي:
أولاً: الاتفاق الحالي هو أول وثيقة خطية موقعة عامة بين الدول كافة المطلة على بحر قزوين تقوم برسم الأطر القانونية اللازمة لحل القضايا العالقة ووضع الاتفاقات المستقبلية وتقاسم الثروات الكامنة في البحر المذكور بغية تنظيم عملية استثمار مستديمة.
ثانياً: يتم التداول في وسائل الإعلام العالمية أن إيران وروسيا خاسرتان في الاتفاق، وهما كذلك بالمقارنة مع الأوزان السياسية والعسكرية إذا ما أخذنا القضايا الجغرافية البحتة فقط بعين الاعتبار، إلا أنهما في السياقات الجيوسياسية والاستراتيجية البعيدة رابحتان من حيث عزل الدول الثلاث الأخرى عن تلك المحاولات التي تهدف إلى استهدافهما من قبل الولايات المتحدة بالتحديد، بالإضافة إلى تشريع الأطر اللازمة للبدء بعمليات الاستثمار المديدة التي كانت غائبة نظراً لغياب البيئة القانونية التي تسمح بذلك.
ثالثاً: تضمن الاتفاق بنداً يمنع تواجد أية قوات عسكرية خارجية في بحر قزوين، أو على شواطئه، لا تعود لأية من الدول المطلة عليه، بمعنى آخر يسمح فقط للدول المطلة عليه بامتلاك أساطيل بحرية في البحر المذكور وبناء القواعد العسكرية بالقرب منه.

في الإطار الدولي
من الواضح أن الاتفاق سيعود بمنافع اقتصادية جيدة للدول الخمس مع توفير المزيد من فرص العمل في المدن الشاطئية لهذه الدول، بالإضافة إلى اطمئنان إيراني روسي فيما يخص المسائل العسكرية، كما أنه ذو دلالات مهمة جداً على الصعيد الإقليمي والدولي، وفي هذا المنحى يمكن التأكيد على نقطتين أساسيتين:
أولاً: إن هذا الاتفاق لا يرسخ التقدم الروسي الصيني والتراجع الأمريكي الذي بات مؤكداً على الصعيد الدولي فقط– إلا بالنسبة للمرتبطين مشيمياً بالسطوة الدولية الأمريكية اللقيطة– بل ينم أيضاً على إن الدول الصاعدة بدأت جدياً بالتحول نحو الهجوم من خلال تأريض تلك المشاكل القديمة قبل أن تشتعل، وإن التراجع في الوزن الاقتصادي الأمريكي بدأ يظهر جلياً في المناحي السياسية المباشرة، الأمر الذي تبدّى في عدم تجرؤ الولايات المتحدة على محاولة التدخل في الاتفاق أو التفكير في منعه.
ثانياً: يمكن اعتبار الاتفاق نموذجاً أولياً عن شكل وآلية تعاطي القوى الدولية العظمى والإقليمية ذات الوزن العالي مع تلك الدول الأقل وزناً اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، حيث كانت حصة روسيا وإيران جغرافياً من حيث المساحة المائية التابعة لهما هي الأقل مقارنةً بالأوزان والمساحة وطول الشاطئ، ولم تجرِ أية محاولات للتعدي على الثروات الكامنة في المياه الإقليمية التابعة لبقية الدول، وبدون أيةِ شروط أو قيود أو قروض ومنحٍ، على شاكلة تلك التي كان يقدمها صندوق النقد الدولي.
إن ما يعطي الاتفاق مزيداً من الأهمية والوزن، يتمثل بوجود أطراف كإيران وروسيا فاعلة ووازنة دولياً وإقليمياً، مما يجعله ذا تأثير مباشر على مجمل المسائل المرتبطة بإيران وروسيا بشكل غير مباشر، كما أنه يأتي في سياق تلك الاتفاقات التي تحصل في مختلف أنحاء العالم بمعزلٍ عن القوى الدولية الغربية التقليدية، بدايةً باتفاقيات «البريكس» والمبادرة الكورية الكورية التي دفعت الولايات المتحدة للخوض في تفاهمات أولية مع كوريا الشمالية مضطرةً إلى ذلك بعد أن صاغت كلتا الكوريتين ما يمكن اعتباره الخطوط العامة لأي اتفاق مستقبلي تالٍ بين الجانبين، مروراً بالاتفاقيات الجارية في جنوب شرق آسيا بقيادة الصين، ووصولاً إلى أمريكا اللاتينية، وانتهاءً بالاتفاق الأولي بين الدول المطلة على شواطئ بحر قزوين.