العراقيون سائرون على طريق التغيير

العراقيون سائرون على طريق التغيير

يعيش العراق منذ أكثر من عشرة أيام على وقع احتجاجات بدأت من جنوب البلاد وامتدت إلى العاصمة بغداد، احتجاجات طالبت بتوفير الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وفرص عمل ومكافحة الفساد، فما وراء هذه الاحتجاجات وما هي مآلاتها؟

كما كل الاحتجاجات الشعبية في دول المنطقة، تنقسم التحليلات حولها بين الرأي القائل بأنها احتجاجات شعبية عفوية محقة، وبين الرأي الذي يعزف على وتر المندسين والأجندات الخارجية، لكن ببساطة وكما علمتنا التجربة فإن للاحتجاجات أسبابها الموضوعية التي تدفع الشعوب حد الانفجار، أما مسؤولية تحييد المجتمع عن التدخلات الخارجية فهو يقع على عاتق الحكومة والقوى السياسية من خلال تلبية المطالب الشعبية، وصون مصالح الأغلبية من الأساس، وبناء نموذج وطني مستقل.

أسباب موضوعية محقة
في الحالة العراقية يبدو الأمر مكثفّاً فلا يمكن لأحد أن يلوم العراقيين إن احتجوا على سوء الخدمات والفقر والفساد ونظام «المحاصصة الطائفي»، الذي خلفه الاحتلال الأمريكي، ومن بعده الحكومات والقوى التي أعقبته والمرتبطة وضوحاً بسياسات وإملاءات خارجية. ولانطلاق الاحتجاجات من الجنوب وتحديداً من البصرة دلالات واضحة في هذا السياق.
يتركز الجزء الأعظم من احتياطات النفط العراقي في محافظة البصرة حيث يوجد 15 حقلاً تحتوي على احتياطي نفطي يقدر بأكثر من 65 مليار برميل، أي: نسبة 59% تقريباً من إجمالي الاحتياطي النفطي العراقي، وفي محافظات البصرة وذي قار وميسان مجتمعة يشكل الاحتياطي النفطي ما نسبته 71% من الاحتياطي العراقي. إنما غنى هذه المنطقة، فلم ينعكس إيجاباً على شعبها، حيث تعتمد الشركات النفطية هناك على العمالة الأجنبية بشكل رئيس، بينما ترتفع معدلات البطالة بين السكان، ليضاف إليها مشاكل التلوث البيئي وانقطاع الكهرباء.
غضب الشعب على الشركات النفطية وعلى ثرواتهم المنهوبة دفع المحتجين إلى التوجه نحو مقرات تلك الشركات العاملة في حقول الرميلة في محافظة البصرة والتنديد بانعدام فرص عمل لهم بهذه الشركات. ولأن للاحتجاجات أساساً موضوعياً وجامعاً للعراقيين بشكل عابر للانقسامات الطائفية والسياسية الوهمية فقد امتدت إلى محافظات أخرى وصولاً إلى النجف وكربلاء وبغداد.

الاحتجاجات والمشهد السياسي
ترافقت الاحتجاجات مع حالة سياسية عراقية حملت الكثير من الخصوصية بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة، حيث أثبتت نتائج الانتخابات وصول نظام «المحاصصة الطائفي» إلى طريقٍ مسدودٍ، وكانت مؤشراً واضحاً على عدم الثقة الشعبية بالحركة السياسية التقليدية، كما أفرزت توازنات جديدة في الخارطة السياسية.
لذلك فإن المشهد العراقي اليوم لا يمكن فصله عن التسلسل المنطقي لتطور الأحداث، والمزاج الشعبي العام الذي يجد تعبيراته في أشكال عديدة. وبطبيعة الحال فإنه ثمة قوى معطلة لاستكمال العملية، حيث بقاؤها مرتبط باستمرار النهب والفساد، وهو ما يدفعها إلى التشكيك في نتائج الانتخابات وحرق مقارِّ حفظ الأوراق الانتخابية واستصدار قرار بإعادة فرز النتائج. وهو ما قد يدفعها إلى استثمار الاحتجاجات الحالية ووضعها في إطار التجاذبات السياسية الحاصلة، والتشكيك في موضوعيتها، وصولاً إلى إشاعة الفوضى، واللجوء إلى سيناريوهات بعكس أهداف الحركة الاحتجاجية، بغية تأريض الوعي الشعبي المتصاعد.
وفيما يخص الحكومة، فإن مشروعية الاحتجاجات ومطالبها قد أجبرتها على الاعتراف بها رغم التلميحات التي صدرت عن مسؤولين عدة حول وجود مندسين وأيدٍ خارجية، ورغم القمع الأمني الذي رافق الاحتجاجات وأدى إلى سقوط ضحايا.
حيث أكد رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي أن حكومته تقف مع المطالب المحقة للمتظاهرين، معلناً تشكيل خلية أزمة لتلبيتها، كذلك تم تخصيص ثلاثة مليارات دولار لتنمية المحافظات الجنوبية، والإعلان عن عدد من فرص العمل، وتوسيع شبكات الكهرباء، وبناء محطات تحلية المياه، وأن تقوم وزارة الكهرباء بالاتفاق مع السعودية وإيران لاستيراد الكهرباء منهما لتزويد المحافظات الجنوبية باحتياجاتها، وإقالة العديد من المسؤولين والقيادات الأمنية واستبدالهم بشخصيات وقيادات أخرى لتلبية مطالب المتظاهرين. فإذا كانت الحكومة قادرة على توفير المبلغ اللازم لتنمية المحافظات الجنوبية وإيجاد الحلول لتزويدها بالكهرباء، فلم التأخر في طرح مثل هذه الحلول؟ إذا كان تأخر صدور مثل هكذا قرارات يعود لقوى الفساد المتحكمة بمفاصل الدولة والتي تعطل صدورها، فإن هذا يؤكد أهمية دور الضغط الشعبي في سبيل التغيير، وضرب قوى الفساد.
وفي تأثيرها على الحالة السياسية القائمة في البلاد، وتشكيل الحكومة الجديدة أعلن زعيم «التيار الصدري»، مقتدى الصدر، تأييده لمطالب المحتجين، وفي الوقت نفسه طالب الكتل السياسية الفائزة في الانتخابات الأخيرة بتعليق الحوار لحين تلبية المطالب.
كما جاء في تصريح للمكتب السياسي لـ«الحزب الشيوعي العراقي»:« إن هذه التظاهرات والاحتجاجات لم تخرج بطراً أو هوايةً أو نزوةً عابرة، إنما هي تعبير عن حاجة ومعاناة حقيقية وواقع مر يدفع المواطنين إلى تحمل كل المخاطر المترتبة على المشاركة فيها، وبدل أن تلقى التجاوب والترحيب وتوفير الحماية لها نجد أن السلطات المعنية وقوات الأمن قد تعاملت بقسوة متناهية مع المتظاهرين في بعض المدن والمحافظات، وما حصل يوم أمس يدعونا إلى التأكيد مجدداً على إدانة ورفض استخدام العنف أيا كان نوعه، وتحميل الحكومة والوزارات والهيئات المعنية والأجهزة ذات العلاقة كامل المسؤولية عن وقوع ضحايا».   

مهمة تاريخية أمام القوى السياسية
يقول الواقع القائم بضرورة السعي لبناء نموذج وطني، يضمن استقلال العراق، وينهي التواجد الأجنبي بكافة أشكاله، ويؤسس لنهوض البلاد على جميع الأصعدة، ويحقق المطالب الشعبية بتأمين الخدمات الأساسية ومكافحة الفساد، لذلك فإن المطلوب من القوى الوطنية الديمقراطية الارتقاء إلى مستوى الاحتجاجات الشعبية الحالية ومطالبها حتى استكمال طريق التغيير المنشود، سياسياً واقتصادياً ووطنياً.