(هلسنكي).. انتهاء حقبة القطب الواحد رسمياً

(هلسنكي).. انتهاء حقبة القطب الواحد رسمياً

«تخوف أوروبي من سلوك ترامب أثناء لقائه ببوتين في هلسنكي»، «استطلاع: بوتين سيكون الرابح من قمة هلسنكي»، «صفقة كارثية قد يتوصل إليها ترامب وبوتين في هلسنكي»، «هل ترامب مؤهل لقمة هلسنكي؟»، «الظلال السوفييتية تغطي قمة ترامب_ بوتين»، «بوتين سيحتال على ترامب في هلسنكي... كيف سيحدث ذلك؟».

من الآن فصاعداً، ينبغي على الماكينة الإعلامية الليبرالية_ بشقيّها العربي والغربي_ كبح جماح الحملة الإعلامية التي نظّمتها هي ذاتها سابقاً إبّان تعيين جون بولتون مستشاراً للأمن القومي الأمريكي بقرارٍ من الرئيس ترامب. فالرئيس «الحازم والجسور» الذي لا ينكسر له عودٌ في مواجهة «الشيطان الروسي»، عليه منذ الآن أن يتحوّل إلى «أبلهٍ بليد» يقوده «جنونه» إلى «التفريط» بما تبقى من أوراق التحكم الأمريكي في العالم.
تزامنت العملية الإعلامية لتحويل ترامب من رئيسٍ متمكنٍ إلى «إمعة»، مع الإعلان عن قرب انعقاد قمة هلسنكي/ فنلندا في السادس عشر من الشهر الجاري والتي ستجمع كلاً من الرئيسين الأمريكي، دونالد ترامب، والروسي، فلاديمير بوتين. وبالنظر إلى خصوصية مكان القمة وتوقيتها وطبيعة الملفات المندرجة في جدول أعمالها، وحجم التنازلات المتوقعة فيها، يمكن فهم حالة الهلع التي تقود الأوساط الأمريكية والغربية المتضررة من حدثٍ كهذا إلى تشويه صورة ترامب إعلامياً، والاستباق على نتائج القمة المرتقبة، وربما طمحت بعض هذه الأوساط المتضررة إلى عرقلة انعقاد القمة من أساسها، وهو ما يفسر حالة الهجوم الكبير الذي تلقاه ترامب أثناء انعقاد قمة حلف شمال الأطلسي «الناتو» في هلسنكي أواخر الأسبوع الماضي.
عن هلسنكي
تتمتع العاصمة الفنلندية بتاريخٍ حافلٍ في استضافة القمم التي شهدت توافقات أو ترسيماً في بعض الأحيان لمواضع النفوذ وموازين القوى بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا. بدءاً من العام 1975، حين جمعت كّلاً من الرئيسين الأمريكي، جيرالد فورد، والروسي ليونيد بريجنيف، مثبِّتةً بذلك موازين القوى لما بعد حقبة الحرب الباردة، وصولاً إلى العام 1990، حين عُقد لقاء القمة بين الرئيسين جورج بوش الأب وميخائيل غورباتشوف، والتي كان لها دورٌ محوريٌ في دفع عملية تفكك الاتحاد السوفييتي تحت شعار «تنظيم العلاقات بين البلدين».
تبعاً لذلك، يمكن فهم الخصوصية التي تكتسي عقد لقاء القمة هذا الشهر بين ترامب وبوتين. حيث ستكون خطوة في اتجاه تظهير ميزان القوى الدولي الجديد، بما فيه من تراجعٍ في الوزن النوعي للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، وتقدم في الوزن ذاته لدى روسيا وحلفائها على الصعيد العالمي. وهي العملية التي بدأت بوادرها منذ زمن، وباتت اليوم تحتاج إلى اتفاقاتٍ تنقلها من مرحلة التحليلات والإنكار إلى مرحلة التكيف.
في هذه الحالة، سيكون الأمريكي مضطراً لتتوصل إلى اتفاقاتٍ في كلّ القضايا المطروحة على طاولة البحث. وبالاستناد إلى التصريحات الرسمية والتحليلات السياسية حتى الآن، فإن مواضيع القمة المرتقبة من شأنها أن تركز بشكلٍ أساس على ملفات كوريا الشمالية، وسورية، وأوكرانيا، واتفاقية التجارة الحرة، والعلاقات مع أوروبا ومسألة الدرع الصاروخي...
لا مقايضة ولا ضربة قاضية
تكثر المغالطات في تحليل القمة المقبلة، سواء من جانب التحليلات التي تميل إلى تصوير الموضوع على أنه مقايضة بين الدولتين الكبيرتين، أو تلك التي تغالي في تقدير حجم التنازلات التي سيضطر الجانب الأمريكي لتقديمها.
في الجانب الأول، ينسى أصحاب مقولة «المقايضة» أن هذه العملية لا يمكنها أن تتم إلّا بين قوتين متكافئتين من حيث الوزن النوعي عالمياً، بما يجعل منطق التفاهمات بينهما يسيراً في اتجاه الاتفاق المتبادل على تقاسم النفوذ دولياً. غير أن واقع الحال يخالف تماماً الأساسات التي ينبني عليها هذا الطرح. فالولايات المتحدة لا تتعاطى مع خصومٍ استراتيجيين يتقدمون في الساحة الدولية ويزداد وزنهم في وقتٍ تحافظ فيه هي على وزنها النوعي دونما تغيير. بل تتعاطى مع تغييرٍ في موازين القوى يشملُ تراجعاً أمريكياً في المجالات الاقتصادية والعسكرية والسياسية. ما يعني: أن اللقاء الذي سينعقد في هلسنكي لن يكون بين قوتين متكافئتين إذا ما أخذنا عامل التحالفات الدولية وتغيراتها لكلٍّ منهما بعين الاعتبار.
في المقابل، يذهب بعيداً جداً عن الحقيقة، المنطق الذي يصوّر موضوع القمة على أنه انهيار أمريكي ناجز وكامل، وأن ما سيجري فيها، هو عملية استسلام أمريكية واضحة دون شروط. حيث إن الولايات المتحدة وحلفاءها لم ينهزموا بالضربة القاضية، بل كما أكدنا سابقاً إن هذه الخسارة ستكون بالنقاط، نظراً لوجود السلاح النووي، وغياب الحرب المباشرة بين الطرفين. فما الذي سيجري إذاً في قمة هلسنكي؟
أكبر من ترامب
ما سيحدث في هلسنكي هو: إعلانٌ بهذا الشكل أو ذاك عن انتهاء حقبة «القطب الواحد» رسمياً، وعن أن خارطة القوى العالمية قد تغيّرت وتواصل تغيرها. لكن، هل يمكن تحميل ترامب وحده مسؤولية هذا التدهور الحاصل في الوزن النوعي للولايات المتحدة الأمريكية؟
إن الإجابة عن هذا السؤال تقتضي أسئلة أخرى: فماذا كان ليغيّر وجود أي رئيس أمريكي آخر مكان الرئيس ترامب اليوم؟ وهل كانت عملية الاعتراف الأمريكي العملي بتغيّر موازين القوى لتكون أقل إيلاماً لواشنطن مما هي عليه الآن؟
بعيداً عن الدخول في دوامة اللعبة الإعلامية المثقلة بالتحليلات السياسية والنفسية لسلوك الرئيس الأمريكي، تهدف محاولات تسخيف ترامب قبيل القمة المرتقبة إلى تحميله وحده مسؤولية التنازلات التي تضطر الولايات المتحدة_ موضوعياً، بديموقراطييها وجمهورييها_ إلى تقديمها كنتيجة لتغير موازين القوى الدولية.

آخر تعديل على الأحد, 15 تموز/يوليو 2018 21:57