فلسطين: سبعون عاماً والمقاومة مستمرة

فلسطين: سبعون عاماً والمقاومة مستمرة

في العام السبعين لاحتلال فلسطين، تأخذ مكونات المشهد الفلسطيني منحاً تصاعدياً، ومع تصاعدها، تزداد حدة تناقضاتها، ومعه تزداد الرؤية وضوحاً...
لعل الثابت في المشهد وأجمل ما فيه، هو حراك الشعب، بإرادته وديمومة مقاومته، وما يقدمه من دروس إبداعية وبطولية، وهو بزخمه يعرّي الجميع، بدءاً من ممارسات الاحتلال الوحشية، والسياسة الأمريكية العدوانية، مروراً بسلوك بعض القوى الإقليمية والعربية الانتهازي، وانتهاءً بمواقف السلطة الفلسطينية المقيدة بنهج أوسلو والتنسيق الأمني، وللأسف، عجز جميع مكونات الفضاء السياسي القديم أمام استحقاقات المرحلة.

 

القدس والأسطورة الأمريكية
في هذا التوقيت اختارت واشنطن افتتاح سفارتها في القدس المحتلة في مشهد «احتفالي» هزلي، واختار الفلسطينيون تصعيد الاحتجاجات على الحدود الغزية، ضمن فعاليات مسيرة العودة وكسر الحصار، في مشهد بطولي، قابله سلوك صهيوني دموي، راح ضحيته عشرات الشهداء والجرحى الفلسطينيين. أما حصيلة الموقف فلم تكن سوى التأكيد على سقوط الأسطورة الأمريكية، كراعٍ للسلام، وللأبد، واتساع الانتقادات، في وجه الولايات المتحدة، شعبياً ورسمياً على مستوى العالم. فالقدس ستبقى هي القدس، عاصمة فلسطين، لكن يبدو أن مسرحية نقل السفارة، لا تتعدى كونها «جائزة ترضية» للصهيوني، مع اشتداد الإنكفاء والتراجع الأمريكي، وهو ما يزيده عزلةً وشجباً في نهاية المطاف.
الكيان المرعوب
أيضاً، لم تفلح هذه الحركة الأمريكية في كبح مخاوف دولة الاحتلال أو طمأنته، في ظل المقاومة الفلسطينية المستمرة، والوضع الدولي الجديد، وهو الموقف الذي تعبّر عنه نخب الكيان وصحفه باستمرار، وتشير مصادر فلسطينية إلى أنه ومن خلال متابعة ردود الأفعال «الإسرائيلية» يمكن رصد ما يلي: حالة الرعب الكبيرة في المستوطنات المحيطة بغزة واختلال رتم الحياة الطبيعية فيها، التأكيد على أن غزة باتت تشكل التهديد الأكبر لدولة الاحتلال من خلال الروح الشعبية التي تحتضن المقاومة وتتبناها، والبطولة التي يبديها الفلسطينيون في ساحات المعركة، رغم عدم امتلاكهم الأسلحة، القناعة بأن انفجار غزة لن يكون إلّا في وجه دولة الاحتلال، والخوف من استمرار تشوّه صورة الكيان في عيون الشعوب العالمية، وتتساءل نخب الكيان: هل ستستمر مسيرات العودة وإلى متى، وهل ستمتد إلى باقي الأراضي الفلسطينية؟
مسيرة العودة مستمرة
تؤكد «الهيئة العليا لمسيرة العودة وكسر الحصار» على أن الحراك مستمر، وأن الخامس من حزيران سيكون يوماً تاريخياً في هذا الحراك. كما أن مدناً عدة في الضفة الغربية شهدت مواجهات مع قوات الاحتلال خلال فعاليات مسيرة العودة، ليمتد ذلك إلى داخل مدينة حيفا، التي شهدت يوم الجمعة 18 أيار الحالي، مواجهات بين شرطة الاحتلال وفلسطينيين تظاهروا دعماً لغزة رغم التضييق والحصار والتهديد، مما أدى إلى اعتقال 19 فلسطينياً. ولكن تبقى المشاركة في الضفة الغربية ضعيفة مقارنة بالزخم الموجود في قطاع غزة، ويعود هذا بجزء كبير منه إلى قبضة السلطة ومفرزات اتفاق أوسلو والتنسيق الأمني.
السلوك الرسمي الفلسطيني
في هذا السياق، يبرز سلوك السلطة الفلسطينية في أضعف وأسوأ أشكاله، فبالإضافة إلى تكبيل أيدي الفلسطينيين في الضفة عن مقاومة الاحتلال كنتيجة للسلوك التاريخي لهذه السلطة، لا يمكن بأي شكل تقبّل وتبرير استمرار فرض العقوبات على قطاع غزة، بالتوازي مع الحصار «الإسرائيلي» للقطاع، والأزمات التي يواجهها جرّاء ذلك، في الوقت الذي يستحق فيه الشعب الفلسطيني في غزة أسمى أشكال التقدير والدعم. يضاف إلى ذلك عجز الدبلوماسية الفلسطينية عن استثمار الحراك، لتعزيز فكرة المقاومة الشعبية، وتحقيق إنجازات سياسية، ورغم أن محمود عباس، في كلمته المقتضبة في ذكرى النكبة، وبالتزامن مع افتتاح السفارة الأمريكية في القدس، والاعتداءات على الفلسطينيين في القطاع، شجب السلوك «الإسرائيلي» والأمريكي، وأكد على رفض ما يسمى «صفة القرن»، إلّا أن الموقف بالعموم اتسم بالضعف، ليختتم حديثه بالقول: «الله يستر»!
على الجانب الأخر، يبدو أن حركة «حماس» ترى في الحراك الجاري في غزة مخرجاً للأزمات العالقة فيها، حيث أكد اسماعيل هنية: إن المسيرات لن تتوقف إلا برفع الحصار كلياً عن قطاع غزة، مشدداً على أن الفلسطينيين لن يركنوا للحلول الجزئية، ورغم أن سلوك «حماس» في غزة قد سهل الأرضية لانطلاق المقاومة على عكس سلوك السلطة في الضفة، إلّا أن ما يمكن قوله هنا: أن مسيرة العودة وكسر الحصار، لم تكشف فقط عجز القوى السياسية في إيجاد حلول حقيقية للواقع الفلسطيني مقابل قوة الإرادة الشعبية فقط، بل أيضاً فرضت على تلك القوى اللحاق بركبها، ولعل أبرز مثال على ذلك، هو: أن المقاومة الشعبية الجارية والعابرة للحالة الفصائلية وانقساماتها، قد فرضت على أرض الواقع وحدة وطنية بأعمق أشكالها.
مواقف دولية ومحاولات احتواء
تتوالى ردود الأفعال على المستوى الدولي والإقليمي، ورغم أنها تعكس بالعموم ازدياد عزلة الكيان الصهيوني والولايات المتحدة من ورائه، لكن يبقى أهمها بالملموس، هو: الموقف الشعبي، حيث شهدت دول عدة وقفات تضامنية مع الشعب الفلسطيني، وتنديداً بسلوك الكيان الصهيوني. أما على المستوى الرسمي فلم يأتِ عقد قمة استثنائية لجامعة الدولة العربية، أو لمنظمة التعاون الإسلامي بأي جديد، سوى الشجب والتنديد، دون إجراءات عملية أو خطة ملموسة. وفي الأمم المتحدة قرر المجلس الدولي لحقوق الإنسان إنشاء لجنة للتحقيق في استشهاد عشرات الفلسطينيين على أيدي قوات الاحتلال، وهو الأمر الذي رفضه الكيان الصهيوني، وكذلك واشنطن.
من جهة أخرى يدور الحديث عن وجود محاولات دولية وعربية للضغط على غزة لوقف مسيرات العودة. وهو ما أشار إليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، قائلاً: إن بلاده تجري اتصالات مع الجانبين الفلسطيني و«الإسرائيلي لوقف نزيف الدم».
لكن لا أحد يملك القرار بوقف المسيرات أو استمرارها، سوى الشعب الفلسطيني نفسه، فالحركة ولدت شعبية، ومنها سيتشكل الفضاء السياسي الجديد، إذ لابد أن تنشأ عنها قيادات جديدة قادرة على قيادة الشعب نحو استثمار بطولاته، وتحقيق الإنجازات، وحتى يتبلور ذلك فإنه من المسؤولية التاريخية للقوى الحالية دعم الحراك الشعبي وحمايته.