«احتجاجات الخبز»... الشعوب تدافع عن كرامتها
عليا نجم عليا نجم

«احتجاجات الخبز»... الشعوب تدافع عن كرامتها

شهدت كل من تونس والسودان مؤخراً، موجة احتجاجات ضد إجراءات اتخذتها حكومتا البلدين، برفع أسعار مواد أساسية تمسّ بمعيشة الناس اليومية وقوتها، وفي مقدمتها الخبز...

الاحتجاجات الشعبية ضد القرارات الحكومية التي تمسّ لقمة الشعب، والتي اندلعت في كلٍ من تونس والسودان مع بداية العام الجديد، لا تقتصر على كل من هذين البلدين، بل هي تعبّر عن منحى يتصاعد أكثر فأكثر، في منطقتنا وفي أنحاء العالم جميعها، يتمثل باستلام الشعوب زمام المبادرة، وطرح شعارات ومطالب أكثر جذرية.
تونس... المهادنة خط أحمر
تقدم تونس نموذجاً واضحاً على أن خدعة تغيير النظام، دون إحداث تغييرات جذرية، تتعلق بشكل أساس بنمط توزيع الثروة، وتقييد السياسات النيوليبرالية المحابية لرؤوس الأموال، لن تنطلي على الشعوب التي ستنتفض مجدداً حتى نيل المطالب.
منذ يوم الثلاثاء 3 كانون الثاني الحالي، عاشت مدن تونسية عدة على وقع احتجاجات شعبية عارمة، ضد تدابير التقشف الحكومية الواردة في قانون المالية لسنة 2018، والذي دخل حيّز التنفيذ مع بداية الشهر الحالي، والمتضمن رفع الضريبة على القيمة المضافة، وزيادة أسعار مواد استهلاكية، مما اعتبره التونسيون إجراءات مجحفة وظالمة، تطال الفئات الشعبية بشكل خاص.
ورفعت الاحتجاجات، التي دعت إليها مجموعة ناشطين تحت شعار «فاش نستناو؟» أي: بمعنى ماذا ننتظر؟ شعارات تنادي بإسقاط الحكومة، ووقف العمل بقانون المالية والزيادات الأخيرة.
في البداية استخدمت الحكومة القوة ضد المتظاهرين في محاولة لقمعهم وإسكات مطالبهم، من خلال الاعتقالات واستخدام الغازات المسيلة للدموع، واتهمت «الجبهة الشعبية»، وهي ائتلاف المعارضة الرئيسة في البلاد، بتأجيج الفوضى. الأمر الذي نفته الجبهة، وبينت على لسان الناطق الرسمي بها، حمّة الهمامي، بأنّ بعض الأطراف، وفي مقدمتها أحزاب الائتلاف الحاكم ما زالت لم تتخلّص من إرث السياسات لنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، عبر محاولتها كبت أصوات المحتجين، وتوجيه الرأي العام إلى حقيقة مغلوطة مفادها: أن ما يحصل لا يعدو أن يكون سوى أعمال عنف وتخريب، وليس احتجاجاً على واقع بائس، ودون النظر في الأسباب الحقيقية للمطالب الشعبية المشروعة.
لكن الحكومة رضخت للأمر الواقع في نهاية المطاف، واتخذت مجبرة، تحت ضغط إرادة الشعب، بعض الإجراءات في محاولة لتهدئة الاحتجاجات، حيث أعلنت في 13 كانون الثاني أنها ستزيد دعمها المالي للأسر الفقيرة ومحدودي الدخل، وقال وزير الشؤون الاجتماعية، محمد الطرابلسي: إن الإجراءات الجديدة تشمل رفع المساعدات المالية بحوالي 70 مليون دولار، إضافية للأسر الفقيرة، والمعاشات الضعيفة، وأن 250 ألف أسرة ستستفيد من هذا الرفع، مضيفاً: «التغطية الصحية لكل التونسيين دون استثناء، وتوفير أو المساعدة على توفير السكن اللائق لكل عائلة تونسية»، وقال أيضاً: «إضافة مبلغ 100 مليون دينار للمبالغ المرصودة بالميزانية والتي صدق عليها مجلس نواب الشعب لفائدة العائلات المعوزة، لترتفع المنحة المسندة لكل عائلة معوزة… من 150 ديناراً إلى 180 ديناراً أو 210 دنانير بحسب عدد أفراد كل أسرة».
ورغم الإجراءات التي اتخذتها الحكومة، أكد حمة الهمامي: إن الإجراءات جاءت متأخرة ومحدودة لفائدة الطبقة الفقيرة، وأن الاحتجاجات ستستمر إلى حين إسقاط قانون المالية.
السودان ينتفض
في السياق ذاته، تستمر الاحتجاجات في السودان على غلاء المعيشة والوضع الاقتصادي في البلاد، حيث أثارت موازنة 2018 استياء السودانيين لما تضمنته من زيادة في الرسوم والضرائب في قطاعات مختلفة، أدت إلى زيادة أسعار الخبز والسكر وغيرها من المواد الأساسية. واتخذ المشهد منحى أكثر عنفاً حيث لقي خمسة أشخاص على الأقل حتفهم خلال الاحتجاجات، بعد أن أطلقت الشرطة الرصاص الحي، والغاز المسيل للدموع على المحتجين.
تفجّر الاستياء الشعبي جاء نتيجة لتضاعف أسعار الخبز بنسبة 100% بعدما أقرت الموازنة الجديدة رفع الدعم الحكومي كلياً عن القمح، وقررت الحكومة التوقف عن استيراده، وعهدت للقطاع الخاص القيام بذلك، ورفعت المطاحن سعر كيس دقيق القمح بوزن 50 كيلوغرام من حوالي 24,2 دولاراً إلى 65 دولاراً.
تعبّر الإجراءات الحكومية الأخيرة عن فشل السياسات الاقتصادية المتبعة، والتي أوصلتها إلى مرحلة لم تعد فيها قادرة على الاستمرار في دعم السلع الاستهلاكية الأساسية، وتوفيرها بأسعار رخيصة. وتشير دراسة أجراها مكتب النقابات المركزي للحزب الشيوعي السوداني، إلى أن الحد الأدنى للأجور يغطي فقط ما يقارب 7,3% من تكاليف المعيشة لأسرة مكونة من خمسة أشخاص، والبالغ 5900 جنيه شهرياً. من ناحية أخرى، تشير بعض التحليلات، إلى أن الاحتجاجات الأخيرة تحمل بعداً سياسياً أيضاً، يتجلى برفض السودانيين لترشح الرئيس السوداني، عمر البشير، للانتخابات الرئاسية المقبلة.
وفي إطار الانتفاضة الشعبية، برز دور الحزب الشيوعي السوداني في المشاركة بتنظيم المظاهرات، حيث اعتقلت الأجهزة الأمنية الأمين العام للحزب، مختار الخطيب وبعض أعضاء قيادته، ودعا الحزب في بيان، أنصاره إلى التظاهر سلمياً، وحراسة المظاهرة من أية أعمال عنف لتفويت الفرصة على المخربين، ووجدت الدعوة مساندة من غالبية أحزاب المعارضة التي دعت أنصارها للتظاهر أيضاً. ودعا حزب «الأمة» القومي المعارض للحكومة السودانية، في بيان له، كل جماهير الشعب السوداني للخروج إلى الشوارع، تعبيراً عن رفض سياسات النظام الاقتصادية الفاشلة.
وفي محاولة لتهدئة الاحتجاجات، أصدر الرئيس السوداني عمر البشير، قراراً جمهورياً بتشكيل لجنة لدراسة زيادة الأجور في ضوء الإجراءات الاقتصادية الأخيرة وما ترتب عليها، لكن هذه المحاولة لم تنجح في إسكات المحتجين، اذ أن الاحتجاجات مستمرة، وتستقطب فئات شعبية مختلفة مع دخول الجامعات مؤخراً على خط الاحتجاج.

بين تونس والسودان، تحمل الاحتجاجات في هذين البلدين طابعاً مشتركاً، إذ انتفضت الشعوب مع بداية العام على ما حملته موازنة 2018 من سياسات سمتها تراجع دور الدولة عن تقديم الخدمات الأساسية، وتقديم تسهيلات إضافية للقطاع الخاص، لتقابلها محاولات قمع من قبل السلطة، لم تنجح مع إصرار الشعوب على المطالبة بالحقوق، وهو ما اضطر الحكومة إلى تقديم خطوات اتجاه رفع الأجور في تونس والسودان، ورفع المساعدات كما حدث في تونس، وهو ما يعني أن الإمعان في تطبيق السياسات النيوليبرالية، لن يحمل سوى مزيد من الضغط الشعبي لتغييرها، وأن في قادم الأيام من العام الجديد، ستعلو كلمة الشعوب، ولن يقتصر ذلك على هذين البلدين.