السعودية في لبنان .. قفزة في الهواء!

السعودية في لبنان .. قفزة في الهواء!

شهد حدث استقالة الحريري تداعيات سريعة ومكثّفة طوال الأسبوعين الماضيين، سواء دفعاً أم حجباً لاحتمالات انفجار لبنان داخلياً، لتظهر مؤخراً مؤشرات أكثر وضوحاً عمّا قد تحمله الأيام القادمة من الناحية السياسية والأمنية ...

نتيجة عقود من التجارب السعودية «الناجحة» بنسب كبيرة، في استخدام المال والنفوذ السياسي إقليمياً، من الطبيعي أن الاستمرار والتصعيد في استخدام هذه الأداة هو خيار سعودي أساس، لكن مستويات الاستفادة منه متفاوتة، طالما أن هذا مرهون بظروف إقليمية ودولية، تتغير موضوعياً باتجاهٍ غير محبب سعودياً ...
خارج الحسابات السعودية
افترضت السعودية مسبقاً، أن الوضع في لبنان باقٍ دون أي تغيير، على نغمة 8 و14 آذار، من حيث التعارض السياسي بين الأفرقاء اللبنانيين، وعليه يمكن لإجبار الحريري على الاستقالة، فتح الباب أمام تعزيز التناقضات السياسية، وصولاً إلى انفجار الوضع داخلياً.
لا شك أن هذا التعارض قائم ومستمر، بمنطق التناقضات السياسية «الطائفية»، المنتجة في اتفاق «الطائف»، لكن حجم «الطلبية» السعودية من حلفائها داخل لبنان، وعلى رأسهم تيار «المستقبل» وباقي قوى «14 آذار»، يتعدى كونه خلط أوراق، أو توتيراً سياسياً مرحلياً، إلى كونه كارثة محتملة. هنا نبني التحليل على جملة ما لحق بالاستقالة من أحداثٍ لم تنضج تماماً وتتحول إلى أمر واقع، وهي:
أولاً: تظاهرات حزب «الأحرار» وأنصار اللواء المتقاعد أشرف ريفي في بيروت، التي لم تتعدّ العشرات، والتي كان مطلوب منها سعودياً أن تتحول إلى حالة راسخة ومستمرة، بحيث تجرّ معها أو ضدّها، تيارات سياسية وشعبية أخرى إلى الشارع، بمطالب رفض «التدخلات الخارجية»، التي يزداد الحديث عنها يومياً، والتي هي كلمة حق، لكن في الوضع اللبناني هي أمر واقع أنتجه من جهة اتفاق «الطائف» وما تلاه من هياكل سياسية، ومن جهة أخرى وضع لبنان الجيوسياسي في منطقة تشهد أكبر صدام دولي وإقليمي، بالتالي فإن إنهاء حالة التدخلات الخارجية، مرتهن بإيجاد لبنان جديد، ببنية سياسية ديمقراطية وطنية جديدة، وقبل ذلك فإن أي حديث عن التدخلات الخارجية، هو للاستخدام السياسي ليس إلا.
ثانياً: تحاول السعودية فتح بوابة النزاع داخلياً من خلال المخيمات الفلسطينية في لبنان، هذا وإن لم يتأكد بعد بالوقائع الملموسة، لكن يمكن الاستدلال عليه من بعض مجريات الأحداث الأخيرة داخل المخيمات، أو من الفصائل السياسية في الداخل الفلسطيني التي تعطي إشارات إلى وجود هكذا تحركات بشكل جدي، ومن بينها ما يشير إليه عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح» عزام الأحمد: أن هنالك «قوى إقليمية كثيرة تريد زج المخيمات الفلسطينية في لبنان بالخلافات اللبنانية الداخلية».
القفز فوق التوافقات الإقليمية
في هذا السياق، فإن السعودية غير المقتنعة بالتوافق الدولي والإقليمي على رئاسة عون، والتوافق الحكومي في لبنان، تريد ضمناً تحميل المسؤولية لحليفها سعد الحريري، و«تحريره» من الالتزامات بتولية بهاء الحريري مكانه، صاحب النبرة التصعيدية ضد «حزب الله»، لكن هذا يعني أن السعودية تريد القفز فوق تلك التوافقات بمجملها، وإعادة الوضع في لبنان إلى مرحلة الفراغ الدستوري مجدداً، وبالتالي فالعراقيل في وجهها ستكون أيضاً ذات طابع إقليمي ودولي.
هذه التعقيدات التي لاقتها السعودية، تمثلت بدايةً في الهجوم المضاد، الذي شنه الرئيس عون على الاستقالة «الملتبسة» للحريري، والمطالبة بعودته إلى لبنان، وأيضاً رفض أحد وزراء تيار «المستقبل»، نهاد المشنوق، للحديث الجاري حول إمكانية تعيين بهاء الحريري كبديل في منصب رئاسة الحكومة، مؤكداً أن هذه الأمور تتم في لبنان بالانتخابات وليس بالمبايعات، وهو ما شجع بعض القوى في «14 آذار»، وأجبر البعض الآخر على إصدار مواقف، يمكن وصفها على الأقل بمواقف التهدئة، وعليه تم تخفيض احتمالات التصعيد إلى حدودها الدنيا.
هذه الأجواء الداخلية، عززتها بالتوازي المواقف الإقليمية، والتي يبرز من بينها الموقف المصري، حيث يقول الرئيس، عبد الفتاح السيسي، في رد على سؤال بشأن ما إذا كانت مصر ستدرس اتخاذ إجراءات خاصة بها ضد «حزب الله» : «الموضوع لا يتعلق باتخاذ إجراءات من عدمه»، مضيفاً «الاستقرار في المنطقة هشّ في ضوء ما يحدث فيها من اضطرابات في العراق وسورية وليبيا والصومال ودول أخرى، وبالتالي نحن في حاجة إلى المزيد من الاستقرار، وليس عدم الاستقرار ... المنطقة لا يمكن أن تتحمل المزيد من الاضطرابات».
تأتي أهمية الموقف المصري، في تعارضه مع الموقف السعودي، الداعي إلى عقوبات اقتصادية، ليس فقط على «حزب الله» بل على لبنان بمجمله، إضافة إلى إظهار التحالفات الإقليمية على أنها متشابكة ومعقدة، بعكس ما تريده السعودية من سياسات إلحاق، لمواقف من تعتبرهم حلفاءها الإقليميين على السراء والضراء.
دولياً، أرسل الاتحاد الأوروبي رسالة واضحة المعالم، تتضمن رفض منطق كسر موازين القوى الداخلية في لبنان بالقوة، حيث صرحت المفوضة العليا للسياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، فيدريكا موغريني: «نناشد أولاً وقبل كل شيء القوى السياسية اللبنانية إلى التركيز على لبنان وما يمكن أن تقدمه لمواطنيها، كما نناشد رئيس الوزراء الحريري العودة إلى بلده وحكومة الوحدة .. للتركيز على إنجازاتها الداخلية»، وأضافت «نتوقع عدم التدخل الخارجي في جدول الأعمال الوطني هذا. ونؤمن بأن ذلك ضروري لتجنب جلب صراعات إقليمية إلى لبنان». من جهته دعا وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان، إلى عدم تدخل دول أخرى في الشأن اللبناني قائلاً : «منشغلون بالوضع في لبنان .. وقلقون بشأن استقراره وسيادته وعدم التدخل في شؤونه».
بعد جملة المواقف الرافضة لتوتير الأجواء السياسية، من المرجح أن يعود الحريري إلى لبنان، لكن ليس من الرياض بل من باريس، بعد أن أعلن مصدر في الإليزيه أن رئيس الوزراء اللبناني المستقيل سعد الحريري سيصل مع عائلته إلى فرنسا خلال الأيام القادمة.

يمكن القول: إن السعودية في موقف محرج طالما أن شروط «الاستقرار» في لبنان، المنقولة على لسان الحريري، لم تحرّك الوضع الإقليمي والدولي ضد إيران و«حزب الله»، بالشكل والمستوى المطلوب سعودياً، إضافة إلى ذلك، فإن الخيار السياسي لتيار «المستقبل» في الاستمرار في الحكومة أو عدمه هو نقطة تباين داخل جناح «14 آذار» من جهة، وضمن تيار «المستقبل» نفسه من جهة أخرى، وفي الحالتين كلتيهما فقدرة السعودية على التأثير بالوضع الداخلي اللبناني سينخفض حتماً مهما كانت النتائج اللاحقة، وهذا يفسر الذهاب السعودي إلى أبعد من التوتير السياسي، بما تناقلته معظم وسائل الإعلام حول إمكانية توجيه ضربات عسكرية داخل لبنان، وهو خيار غير ممكن ضمن توازنات القوى الإقليمية والدولية الراهنة، لكن طرحه على الأقل هو دلالة على ضيق وحرج الخيارات السعودية في تعاطيها مع محيطها الإقليمي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
837
آخر تعديل على الأحد, 19 تشرين2/نوفمبر 2017 20:38