«الاشتراكيون الديمقراطيون»  وصفعات التحوّل الأوروبي

«الاشتراكيون الديمقراطيون» وصفعات التحوّل الأوروبي

أظهرت نتائج الانتخابات التشريعية في النمسا فوز حزب «الشعب» المحافظ، الذي حصل على نسبة 31 بالمئة من الأصوات، تلاه حزب «الحرية» اليميني المتطرف بنسبة 26 بالمئة، أما الحزب «الاشتراكي الديمقراطي» الذي كان يقود الحكومة منذ عام 2007، فقد أصبح في المرتبة الثالثة.

النمسا، كما ألمانيا وفرنسا ودول أوروبية أخرى من قبلها، أظهرت نتائج الانتخابات الأخيرة فيها تغيراً ملحوظاً في الفضاء السياسي، سمته العامة تراجع أحزاب كبرى تقليدية، وتقدم قوى من نوع آخر، وبشكل أكثر تحديداً، تراجع «الاشتراكيين الديمقراطيين» والمحافظين مقابل تقدم قوى اليسار واليمين المتطرف.

نقطة تحول
خلال السبعين عامًا الماضية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية مباشرة، هيمنت أحزاب «الاشتراكيين الديمقراطيين»، إضافة إلى أحزاب أخرى يمينية أخرى، على الحياة السياسية في أوروبا، وكان لهم اليد العليا في إدارة المؤسسات الأوروبية مثل: المفوضية، والبرلمان الأوروبيين، لكن مؤخراً، ويمكن القول، منذ عام 2008، أي: الفترة التي بدأت فيها ملامح الأزمة الاقتصادية العالمية تتوضّح، تراجعت شعبية «الاشتراكيين الديمقراطيين»، وانخفضت حصتهم في تصويت الانتخابات، على النطاق المحلي والأوروبي بشكل أوسع، بنسبة الثلث، أي: وصلت إلى أدنى مستوى لها، لم تشهده لمدة 70 عاماً.
يزداد التراجع وضوحاً وانتشاراً، في دول وأقاليم أوروبية عدة. ففي اليونان مثلاً وفي مقاطعة بيرايوس بالتحديد، كان الحزب «الاشتراكي الديمقراطي» لسنوات قبل الأزمة الاقتصادية اليونانية، يحصل على نسبة تصويت تتراوح حوالي 45 بالمئة، ولكن بعد الأزمة، وبعد أن خصخصت الحكومة التي كان يديرها ذلك الحزب عدة منشآت عامة هناك، هجر الكثير من العمال الحزب، متوجهين إلى أحزاب اليسار واليمين، ليحصل على نسبة تصويت 4 بالمئة فقط في انتخابات عام 2015. في الدنمارك تمت الإطاحة بـحكم «الاشتراكيين الديمقراطيين» من قبل ائتلاف «يمين الوسط» عام 2015، وفي النمسا خسروا حكمهم الذي دام حوالي عشر سنوات، كذلك في ألمانيا أعلن الحزب انسحابه من تشكيل الائتلاف الحكومي المقبل وتحوله إلى صفوف المعارضة بعد حصوله على أدنى نسبة له من الأصوات منذ أربعينيات القرن الماضي، وفي فرنسا يعاني الحزب «الاشتراكي» من أزمة عميقة تجلّت في خسارته الانتخابات الأخيرة، كما انخفضت حصتهم من التصويت إلى أسوأ نتائجها على الإطلاق في فنلندا وبولندا وإسبانيا.

أزمة المركز
لا يمكن فصل أزمة الأحزاب «الاشتراكية الديمقراطية» التي حكمت أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، عن الأزمة الأوروبية باعتبارها مركزاً ضمن المنظومة الرأسمالية العالمية المأزومة حالياً، فتمددهم واستحكامهم السياسي تمّ في عصر الهيمنة الأمريكية عالمياً، وتراجعهم اليوم هو حكماً مرتبط بالتراجع الأمريكي.
 تم تظهير هذه الأحزاب خلال الحقبة الماضية، على أنها أحزاب «ديمقراطية»، «تقدمية» و«علمانية»، لكن برامجها السياسية وممارساتها الاقتصادية_ الاجتماعية، صبّت لعقود مضت في خدمة رأس المال، وأدت إلى ربط دولها بشكل وثيق مع الولايات المتحدة الأمريكية، مما أدى في نهاية المطاف إلى تعمّق تفاوت توزيع الثروة، وإلى افتقاد الأوروبيين لمعنى السيادة الوطنية بمعزل عن الإرادة الأمريكية.
وهنا يمكن القول: إن أزمة تلك القوى وسياساتها اليوم مرتبطة باتجاهين أساسيين، أولاً: ضيق الشعوب الأوروبية من نتائج تلك السياسات، التي أدت إلى تراجع المكاسب الاجتماعية، وارتفاع التفاوت في توزيع الثروة وازدياد معدلات البطالة وغيرها في أنحاء أوروبا، بالإضافة إلى نتائج سياساتها حول العالم التي ساهمت في نشر الفوضى وبؤر التوتر، الأمر الذي أدى إلى تراجع شعبيتها وانخفاض نسب الأصوات التي حصلت عليها خلال الفترة الأخيرة.
الاتجاه الثاني هو: صعود قوى جديدة على الساحة السياسية، من تيارات واتجاهات مختلفة، مثل: تسارع ارتفاع شعبية اليسار في فرنسا، ممثلاً بحركة ميلانشون، أو تسارع ارتفاع نسب التصويت التي تحصل عليها أحزاب اليمين المتطرف في دول أوروبية عدة، مثل: حزب «البديل» في ألمانيا، وحزب «الحرية» في النمسا. الأمر الذي يؤكد أن الأوروبيين اليوم بدأوا يستشعرون ضياع هويتهم الخاصة، وهم بذلك يحاولون البحث عن بدائل للقوى السياسية التقليدية التي حكمتهم مطولاً.
من المؤكد اليوم، أن أوروبا تتغير، وأنها تمر بما يمكن تسميته بـ«مرحلة انتقالية»، تبحث فيها الشعوب عن بدائل، وتحاول القوى السياسية التقليدية «تجميل» شكلها وأدواتها، ولكن تغييراً حقيقياً وجذرياً لن يحدث إن لم تقده قوى جدية وجذرية، تضع مصلحة شعبها وشعوب العالم أجمع على قمة أولوياتها، وتدرك أن هذا يمكن تحقيقه بالتكامل مع قوى الشرق الصاعدة لا الغرب المأزوم.  

معلومات إضافية

العدد رقم:
833